تمتلك تركيا مؤسسة علمانية قوية، ويخضع معظمها للقوانين العلمانية، والأتراك فخورون بإسلامهم المعتدل، لكونهم مدرسة متساهلة -نسبيا- ألا وهي “الحنفية” (نسبة إلى المذهب)، محافظة في الوقت نفسه على التقاليد الصوفية القوية، المتجذرة في المجتمع التركي.
انطلاقا من هذه الرؤية، يرى البعض أن الوقاية من الصعود السلفي وتداعياته تكمن في الحفاظ على هذه الثوابت التي -في نظر البعض- هي السبب الرئيس في الحصانة ضد السلفية والتطرف.
ويقول الباحث مصطفى زهران، في دراسة تمحورت حول المعارك السلفية ضد الدولة التركية، والتي تضمنها كتاب “تركيا والإرهاب والأقليات النَّوعية” الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، إن التخوف يزداد من تآكل العلمانية ببطء، والتي ينظر إليها على أنها حاجز دفاع تركيا ضد التطرف.
تتآكل بفعل التوجه الإسلامي القائم في السلطة (الإسلام الليبرالي)، ويجب تفعيلها على نحو أسلمتها وتوظيفها توظيفا لا يلغيها، إنما يدفعها نحو المسار الصحيح، وبهذه الطريقة ستكون محمية من الاستبداد العلماني، وأيضا من الممكن استخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، وهذا هو الدفاع الوحيد ضد التطرف الناشئ في تركيا والعالم الإسلامي.
بيد أن ذلك الحضور السلفي الهامشي في المشهد الديني التركي، على الرغم من ضعف تأثيره، بات مصدر تخوف من قبل النخبة التركية والمراقبين للحالة الدينية وفئات من المجتمع أيضا. ويزداد تخوفهم من كون البيئة القائمة في الداخل قد تسهم في خلق ما يمكن تسميته بـ“السلفية الجديدة”، تلك التي ترتسم ملامحها في مخيلة الأتراك بأنها سبب إفساد الذوق الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية خاصة، بعد ظهور نسختها الأكثر راديكالية.
يقول الباحث زهران، تزداد المخاوف من الصعود السلفي في الداخل التركي، في ظل مناخ ديني يمتاز بالحرية والأريحية، ومن أن ينقلب السلفيون على الدولة التركية.
ويتم استهداف المؤسسات الإدارية والمباني ومقار الأحزاب السياسية الرئيسية والفرعية وغيرها من قبل النسخة الراديكالية، لما في ذلك من مظاهر لا تناسب شكل وملامح الدولة الإسلامية التي في مخيلة هؤلاء السلفيين، مما يدفع إلى إمكانية نقل التفجيرات والسيارات المفخخة على النحو الذي حدث -على سبيل المثال- من قبل حركة شباب المجاهدين في كينيا بعاصمتها نيروبي، حيث وقع تفجير في مركز ويست غيت في سبتمبر 2013، بل يمتد التخوف إلى إمكانية الدفع بهتك اللحمة الوطنية والنفخ في كير الطائفية، عبر استهداف طائفة العلويين في تركيا، على اعتبارهم من غير أهل السنة، وذلك بسبب عقيدتهم، لتقديم بديل للنظام القائم، وهو ما يهدد السلم والأمن المجتمعيين، ومن ثم يتلاشى الاستقرار شيئا فشيئا.
مما يخشاه البعض أن يسهم الضغط الغربي والأميركي على تركيا لمواجهة السلفيين المتشددين، في أن تتحول قبلة هؤلاء المتشددين نحو الداخل التركي، مما يجعل من تركيا رهينة المستقبل، فتقاتل باسم الغرب وتبقى في مواجهة فوهة المدفع السلفي الراديكالي.
الحديث عن مستقبل للسلفية والنسخة الأخرى الراديكالية منها في الداخل التركي، أمر بالغ الصعوبة ومعقد في آن واحد
وما يزيد خطورة الأمر أن الكثير من الأتراك، خاصة من المثقفين المحافظين والسياسيين والبيروقراطيين، ومن قبلهم الدولة التركية، لا يدركون خطورة المواجهة مع السلفيين نيابة عن الغرب، في الوقت الذي يعاني فيه المجال الديني التركي من عدم انضباط إيقاعه، فيما يبدو مترهلا في الكثير منه.
بعض الأصوات التركية ترى أنه لمواجهة السلفية بتنويعاتها، خاصة الراديكالية منها، يجب إعادة تموضع الصوفية في المشهد السياسي بأن تتخلى عن إطارها النظري الوعظي، وتخلق لها كيانا سياسيا بالتوازي مع تفعيلها دينيا، بأن يواكب خطابها الإرشادي أسئلة الساعة والمعطيات الواقعة والمغايرة، والتحولات الدينية والمجتمعية.
صحيفة العرب اللندنية
إن الحديث عن مستقبل للسلفية بتنويعاتها المختلفة خاصة التقليدية والنسخة الأخرى الراديكالية منها في الداخل التركي، أمر بالغ الصعوبة ومعقد في آن واحد، إذ أن البيئة المجتمعية والدينية التركية التي شهدت خلال القرون السابقة حصانة ومنعة ومواجهة في أكثر من محطة فكرية وسياسية، من شأنها أن تمثل عائقًا كبيرًا وحاجزًا منيعًا، وتسهم في أن تحفر السلفية لها نفقًا في الدولة التركية الحديثة، في الوقت الذي فشلت فيه إبان دولة الخلافة العثمانية.
الحديث عن علاقة ما بين الدولة التركية وتنظيم الدولة الإسلامية، أم لا، يمكن قبوله، وتنفيه الوقائع على الأرض، وإنما ما يهمنا في هذا المشهد أنه ليس من المستبعد أن تسعى الدولة التركية إلى أن تستفيد من وجود التنظيم على الأرض في مواجهة حزب العمال الكردستاني، في حال فشلت المصالحة المرتقبة التي تقودها الدولة مع عبدالله أوجلان وحزبه، بغرض إنهاك قوته وتشتيته، بهدف دفعه للقبول بإلقاء سلاحه والقبول بالمتغيرات الواقعة على الأرض، ولا يعني ذلك أن تقدم الدولة التركية وخاصة حكومة العدالة والتنمية تسهيلات للوجود الداعشي في الداخل، إنما ذلك يكون خارج حدودها بشكل براغماتي لا يؤثر سلبًا على الداخل التركي.
كما لم تؤثر الحالة السلفية بنسختها القاعدية في المشهد الديني التركي، ولم تكن له حاضنة مجتمعية تسهم في إنتاج أجيال تركية قاعدية.
والحال نفسه ينطبق على الحالة الداعشية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن صعود سلفي جهادي آخذ في طور التشكل بتركيا، أجده غير قابل للنمو والتحقيق.
ويخلص الباحث إلى أن الرموز السلفية التقليدية التي ظهرت منذ بداية الألفية الثانية، يمكن اعتبارها حالات قائمة نتيجة التنوع الديني والثقافي، ولا يمكن التعامل معها كظاهرة مستقلة قائمة بذاتها، فالطرق الصوفية التركية تختلف بشكل كبير عن نظيراتها في المنطقة العربية والمشرقية، بأن لها مريدين ولمشايخها دروسًا يحضرونها بالمئات، وتكتظ بهم المساجد، ويتحلقون حول مشايخهم بشكل منتظم ودقيق، لا يترك فراغًا أو ثغرة لأن يملأها مشايخ السلفية الوافدون على المجتمع التركي، وخاصة أن آليات الصوفية الدعوية تتقاطع -بشكل كبير- مع نظرائهم القليلين من السلفيين، بل يتفوقون عليهم فيما يشبهون جماعات التبليغ والدعوة السلفية، في طرق دعوتهم السيارة في الشوارع والطرقات والمناسبات الدينية وغيرها.