يرى أقطاب الفكر الجهادي أن الإسلام يجب فرضه بالعنف والإكراه، وأن لا حرية في نطاق الإيمان والكفر، وأن القتال في الإسلام تم تشريعه ضد الكفار لكفرهم حتى يدخلوا في الإسلام عنوة. وهذا فهم منحرف للدين يلقى رواجا بين الجهاديين والسلفيين المتشددين على السواء، وينبني على مغالطات في فهم النص. ألغى الإسلام مبدأ الإرغام في مسائل الإيمان، فقد جاء عقب اليهودية والمسيحية اللتين ارتكزتا على إكراه الناس على اعتناق الدين، ولم يكن من المعقول أن ينزل الإسلام لتصحيح ما سبقه من الأديان ثم يأتي بنفس الأخطاء التي آخذها عليها.
ولأجل إقرار حق الحرية في مسألة الإيمان، وضع الإسلام حاجزا بين العنف وكلمة الحق، لأن كلمة الحق المفروضة بالعنف لا يمكن أن تدوم أو تبقى، وتتحول إلى حالة من النفاق الفردي أو الجماعي في المجتمع خوفا من العنف، وفي هذا يقول ابن قيم الجوزية، موضحا كيف أن قوة الحجة أكبر من حجة القوة “والمقصود أن الله ـ سبحانه ـ سمى علم الحجة سلطانا لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن”.
الكفر ليس علة للقتال في الإسلام الذي لا ينص على إخراج الكافر بالقوة، بل بالكلمة الطيبة والمجادلة
ينبني على هذا أن الكفر في حد ذاته ليس علة للقتال في الإسلام، وأن الإسلام لا ينص على إخراج الكافر من كفره بالقوة، بل بالكلمة الطيبة والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن. ويمكننا أن نفهم من هذه العبارة اختيار المجادلة التي تكون أحسن للجانبين، والتي يرتضيها الطرفان، فقد يرى المسلم طريقة معينة للجدال حسنة لكن الطرف الآخر لا يراها كذلك، وقد قال ابن تيمية في تفسير آية “لا إكراه في الدين”، “هذا نص عام، أنا لا نكره أحدا على الدين، فلو كان الكافر يُقتل حتى يُسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين”.
والمثير في الأمر أن التيار الجهادي يعتمد في دعواه على آية واحدة وحديث واحد، أما الآية فهي المشهورة بآية السيف، وهي قوله تعالى “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم، وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” (التوبة. الآيتان 5 – 6).
ويرى محمد عزة دروزة أن الآية مخصوصة بالمشركين الناكثين للعهود، لا بجميع المشركين على الإطلاق، لأن الآية توهم بأن الأمر يتعلق بجميع المشركين. كما أن تتمة الآية “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم” توهم بأن انتهاء القتال يكون بإسلام المشركين، ويرد دروزة هذا التلميح اعتمادا على آية من سورة الأنفال قال فيها تعالى “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”، إذ يرى أن “الاحتمال الأكثر هو الانتهاء مع بقاء العدو كافرا”.
ويذهب البوطي أيضا في نفس الاتجاه، حيث يرى أن تتمة الآية التي تقول “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” تدل على أن غاية القتل ليست إرغام الكافر على الإيمان، لأنها تنص على إجارة المشرك إن هو طلب ذلك، رغم أنه سيعود إلى قومه وينطلق إلى كيد جديد ضد المسلمين.
أما الحديث فهو قول النبي “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”. وهو حديث رواه البخاري ومسلم، ولذلك يعتمده المتشددون. ويقول ابن تيمية عن هذا الحديث “هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرُم القتال”.
والمعنى: أني لم أؤمر بالقتال إلا لهذه الغاية.وقد رد الكثير من العلماء المعاصرين الذين بحثوا في السند والرجال هذا الحديث بسبب أسانيده، إلا أن المتطرفين يتخذونه ذريعة لممارسة الإرهاب في حق غير المسلمين. فهم لا يعترفون بالتمييز الذي وضعه الفقهاء بين الكفار الحربيين والكفار غير الحربيين، بل الجميع لديهم سواء. ونسوق نموذجا واحدا فقط لذلك، وهو ما جاء في كتاب “مسائل من فقه الجهاد” لأبي عبدالله المهاجر، الذي يعد أهم الكتب التي يعتمدها المتشددون في القضايا المتعلقة بالجهاد، ويطلق عليه أيضا عنوان “كتاب فقه الدماء”.
كم من الأشخاص اعتنقوا الإسلام في الغرب منذ أن بدأت ظاهرة الإرهاب باسم الإسلام؟ المؤكد أن الإجابة ستكون بالنفي
وكان زعيم تنظيم “التوحيد والجهاد” في العراق أبومصعب الزرقاوي أحد المعجبين بهذا الكتاب الذي كان ينصح الجهاديين بقراءته، وتم الاعتماد عليه في الأعمال الإرهابية التي كان تنظيم الزرقاوي يقوم بها في العراق، كما اعتمد عليه تنظيم داعش. يقول أبوعبدالله المهاجر “ليس المراد من وصف الحربي الذي تردد في نصوص الفقهاء السابقة أن يكون الكافر في حالة حرب قائمة مع أهل الإسلام، وإنما المراد به كل كافر ليس له أمان من أهل الإسلام، وذلك أن الكلام السابق كله قائم على علة واحدة، وهي عدم العصمة لعدم الإسلام، وعدم الأمان”.
فهو يخرج في تعريفه للكافر الحربي عن إجماع الفقهاء، بدليل قوله “ليس المراد من وصف الحربي الذي تردد في نصوص الفقهاء السابقة”، إذ هو لا يعترف بتلك النصوص، ويعتبر أي كافر غير معصوم الدم لكونه كافرا فقط، وليس لكونه محاربا، إذ يربط عدم العصمة بعدم الإسلام. إن الجهاديين يزعمون أن الهدف من الجهاد والقتال هو نشر الإسلام، مستدلين بالأدلة السابقة التي ردها مختلف العلماء.
ولو أننا نظرنا إلى ما يقوم به التيار الجهادي لما وجدنا في الأمر أي دعوة، بل مجرد سفك الدماء وترهيب الناس. ويمكن لنا أن نطرح السؤال التالي: كم من الأشخاص اعتنقوا الإسلام في الغرب وفي العالم كله منذ أن بدأت ظاهرة الإرهاب باسم الإسلام؟ المؤكد أن الإجابة ستكون بالنفي، بل على العكس من ذلك أن العالم كله، مسلميه وغير مسلميه، يتكتلون ضد هذا التيار ويرفضونه وينفون أي علاقة له بالإسلام، وهكذا يصبح السؤال معكوسا: إلى أي حد يمثل هؤلاء الإسلام حقا؟ لعل ما نراه كفيل بالإجابة على هذا السؤال.
إدريس الكنبوري
صحيفة العرب اللندنية