تلعب المصالح الاقتصادية دورًا مهمًا في العلاقات الدولية، فتصرفات الدول وسلوكها السياسي يتلاءم مع مصالحها الاقتصادية، فتتدخل الدول في صراعات قائمة أو تفتعلها لعدة أهداف منها: السيطرة على المواد الأولية، الصراع على المنافذ التجارية وطرق المواصلات، السيطرة على الأسواق.وهذا ما نلمسه اليوم التدخلات العسكرية في الصراع السوري، حيث تتمتع الاخيرة بميزات كثيرة تغري الدول العظمى ببناء علاقات متينة معها قد تصل الى حد الهيمنة على قرارها السياسي والاقتصادي، ومن هذه المزايا موقعها الاستراتيجي، المطل على البحر الأبيض المتوسط وإسرائيل ولبنان وتركيا والأردن والعراق يجعلها ذات أهمية كبرى وامكاناتها الاقتصادية المتنوعة والكثيرة.
ومن تلك الدول ايران وتركيا وروسيا، التي تدخلت عسكريا واقتصاديا في الشؤون السورية، لتحقيق عدة مكاسب، استراتيجية واقتصادية وسياسية، محاولة استعادة امجادها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في اوائل التسعينيات.
والهدف الاستراتيجي من التدخل الروسي في سورية، هو تحدّي هيمنة الولايات المتحدة في الشؤون العالمية من جهة ، ومساعدة نظام الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد المتطرّفين الذين يُعدون من ألدّ أعداء روسيا التي وجدت في تدخلها في سوريا فرصة لقتالهم ومنع تنامي قدراتهم من جهة اخرى بالإضافة الى ان سوريا هي أحد زبائن صناعة الأسلحة الروسية، وأحد مواقع موسكو الجيوسياسية القليلة المتبقية من الحقبة السوفياتية في الشرق الأوسط.
كما أن العمليات الروسية في سوريا هي استعراض للأسلحة من طائرات وصواريخ وأنظمة عسكرية يعد دعاية للتصنيع العسكري الروسي لا ظهار امكانات الاسلحة لتسويقها ثم بيعها.
ويرى خبراء عسكريون في الاستخبارات الاميركية الجيوسياسية، ان موسكو لا يمكنها تحمل نفقات دعمها العسكري لسوريا أكثر من عدة أشهر، اذ تبلغ تكلفة الغارات الجوية والطلعات غير القتالية نحو مليوني دولار يومياً على الأقل.
واكدوا أن إطلاق صاروخ كروز واحد من السفن الروسية في بحر قزوين إلى أهداف في سوريا تبلغ تكلفته 30 مليون دولار على الأقل.
وقال الخبير في مركز التحليل الاستراتيجي فاسيلي كاشين ان مركز ستانفورد نشر قبل الحملة العسكرية الروسية في سورية ان التدخل الروسي في سوريا سيكلف الخزينة نحو نصف مليار دولار، وتكلفة صاروخ كروز لا تتجاوز 600 ألف دولار وليس 30 مليون دولار موضحا أن هدف نشر هذه التقديرات المبالغ فيها هو إخافة صانع القرار الروسي من التأثيرات الاقتصادية.
وتشارك في الحملة الروسية خمسون طائرة بين مقاتلة وقاذفة وطائرات متعددة الأغراض ومروحيات، في حين يبلغ تعداد العسكريين الروس في سوريا 1600 عسكري(1).
ويهدف التدخل الروسي في سوريا ايضا الى تحقيق مكاسب داخلية تعني الكثير للرئيس الروسي بوتين وتتمثل بـ أن العمليات الروسية في سوريا تشغل الشعب الروسي عن الأوضاع الداخلية وتزيد الاعتزاز بالوطنية ودعم لرئيس بوتين داخليا، خاصة أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا، ادت الى ارتفاع مستوى الاسعار، وانخفاض مستوى المعيشة، والتعليم، والخدمات الصحية.
وادى التدخل الروسي في سورية بالإضافة الى العقوبات الغربية لتباطؤ نمو الاقتصاد الروسي، بمقدار 3.8% ، وتراجع الناتج المحلي بمقدار 3.5% في النصف الأول 2016، ما يعني صعوبة تحمل روسيا لحرب طويلة الأمد خصوصاُ أن بيانات صندوق النقد تشير إلى تزايد نسبة المواطنين الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر مقارنة بالعام الماضي. (2)
مكاسب روسيا الاقتصادية الاستراتيجية الخارجية
حققت روسيا من دعمها العسكري لنظام بشار الاسد عدة مكاسب اقتصادية واستراتيجية، ومنها تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدةٍ ثابتةٍ للسفن النووية الروسية مقابل شطب معظم الديون الروسية على سورية، وعقد صفقة أسلحةٍ روسيةٍ مع سوريا تتمثل في شراء الأخيرة (بالتقسيط أو بالدين): “طائرات ميج 29 SMT مقاتلة، ونظم بانتسير إس 1 إي الدفاعية، ونظم صواريخ إسكندر الدفاعية، وطائرات ياك 130، وغوّاصتين من طراز آمور1650 .
وعن مبيعات الأسلحة قال رئيس وزراء روسيا: “صحيح أننا نورّد الأسلحة لهذا البلد، ولكن قيمتها ليست خيالية، إذ ربما تقدّر بمئات ملايين الدولارات، في حين يقدَّر إجمالي الطلب على الأسلحة الروسية بـ15 مليار دولار”(3).
وتمثل سوريا التي تحتل المرتبة السابعة بين الدول التي تشتري الأسلحة الروسية زبونا مهما لروسيا اذ بلغت العقود العسكرية 4 مليارات دولار في عام 2011، وتسعى سوريا دائما للحصول على أسلحةٍ روسية حديثةٍ تشمل نظم الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات لتحسين قدراتها الدفاعية.
وكانت القوّات البحرية الروسية بدأت باستخدام ميناء طرطوس في السبعينيات، بموجب اتفاقيةٍ وقعت في العام 1971م بين سوريا وروسيا، أي منذ الحقبة السوفييتية. وبموجب الاتفاقية يستضيف ميناء طرطوس قاعدةً روسيةً للإمداد والصيانة، لدعم الأسطول السوفييتيّ في البحر المتوسط، وسعت روسيا جاهدةً إلى تطوير وتوسيع هذه القاعدة منذ عدّة سنواتٍ وحتى الآن، كي تستطيع استقبال السفن الحربية الروسية الضخمة(4).
وروسيا، التي سعت جاهدةً إلى حجز مكانٍ استراتيجيٍّ لها في الشرق الأوسط في سوريا بعيداً عن حدودها التقليدية المعهودة توجه رسالة للعالم مفادها أن روسيا لا تزال قوة يعتد بها على الساحة الدولية، وخصوصا بعد الإطاحة بحلفائها مثل: صدام حسين ومعمر القذافي.
ومن اهم المكاسب التي حصلت عليها روسيا من تدخلها في سوريا هو التنقيب عن النفط والغاز، حيث حصلت شركات روسية على عقود التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوريّ، وتطمح روسيا إلى الاستفادة من موقع سورية الحيويّ للتحكم بأسعار النفط بدلاً من السعودية.
وقد وقعت شركة إيست ميد عقداً مع حكومة الأسد يتضمّن إجراء عمليات المسح والتنقيب عن البترول في المنطقة الممتدّة من جنوب شاطئ مدينة طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس، بعمقٍ عن الشاطئ يقدّر بـ70 كيلومتراً طولاً، وبمتوسط عرض 30 كيلومتراً، وبمساحةٍ إجماليةٍ نحو 2190 كيلومتراً مربعاً. ويمتدّ العقد، وهو الأوّل من نوعه للتنقيب عن النفط والغاز في المياه السورية، على مدى 25 سنةً، بتمويلٍ من موسكو، التي بلغت استثماراتها في سوريا في العام 2009 حوالي 20 مليار دولار، أهمها في مجال التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما.
كما تسعى الى إبقاء سيطرتها على سوق الغاز عالمياً، وبخاصة الهيمنة على الحصّة الكبرى من السوق الأوربية و السياسة الأوربية. فروسيا تخوض حرب أنابيب الغاز التي تمرّ من سوريا، وأهمّها الخطّ التركيّ القطريّ الذي من الممكن أن يصل إلى أوروبا، و طرق الغاز الواصلة إلى أوربا حتى ولو كانت من إيران.
والحقيقة إن مطامع روسيا في سوريا لا تقف عند هذا الحدّ، فالعقود الموقعة بين روسيا وحكومة الاسد كثيرةٌ ولا مجال لحصرها، ويُعتقد أن أغلبها وأهمها خفيٌّ عن أعين الجمهور، ويتركّز في مجالات التنقيب وخاصّةً في البحر المتوسط الغنيّ بالثروات الباطنية.
ووفقاً لصحيفة “موسكو تايمز”، فإنه فضلاً عن الأسلحة، استثمرت الشركات الروسية ما مجموعه 20 مليار دولار في سوريا منذ عام 2009، وإذا فقد الأسد السلطة، فسيتم إلغاء هذه العقود.
ويبقى السؤال، وبعد أن أصبح التدخل الروسيّ في سوريا واقعاً: هل تضع روسيا حدّاً للحرب في سوريا فعلاً؟ أم أنها ستفشل وتأخذ ما تيسّر لها من مكاسب وتكتفي.
العواقب الاقتصادية للتدخل الروسي العسكري في سوريا
يرى الخبير العسكري بمركز البحوث العسكرية- السياسية في معهد موسكو للعلاقات الدولية شارباتولو سوديكوف أن تلك العمليات العسكرية لن تؤثر على الاقتصاد الروسي؛ لأنها من الدول المصنعة للأسلحة وبالتالي فإنها تنتج أسلحة وذخائر ولا تستعملها لعدم وجود حرب، ثم يتم إتلاف تلك الذخائر عندما تنتهى مدة صلاحيتها , وعليه فإنها تستخدم تلك الذخائر في الحرب على سوريا , وأن الوقود المستخدم في العمليات لن يكلف أكثر مما يتم إنفاقه في عمليات الطيران التدريبية وتلك.
وتسلط الخبيرة الاقتصادية بجامعة موسكو إيرينا فيليبفا الضوء على الجانب السلبي للتدخل حيث ان فاتورة الخسائر التي سيتحملها الاقتصاد الروسي بسبب التدخل العسكري في سوريا ستكون باهظة الثمن , وخاصة في ظل الأزمات الخانقة التي يعانيها الاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الأوربية, لأن الزيادة في هذا الإنفاق ستؤدي إلى تقليل النفقات على قطاعات أخرى مثل التعليم والصحة وبالتالي سيؤثر على معدلات النمو، وكل مفاصل المجتمع الروسي, الذي سيتحمل عواقب يمكن أن تكون مقدمة لانتكاسة اقتصادية تشبه الأزمة التي تعرض لها عقب أزمة القرم والتي فقد على إثرها الروبل الروسي 45% من قيمته.
و يدعو خبراء عسكريون روس لإنجاز المهمة العسكرية في سورية ضمن حدود ميزانية وزارة الدفاع الروسية؛ مما يعني أن من الواجب عليها تعديل خططها المتعلقة بالإنفاق على تدريبات الجيش الروسي أو تقليل استثمارها في الأبحاث التطويرية العسكرية، كيلا تتراجع قوة الجيش الروسي.
المكاسب السياسية للتدخل الروسي في سوريا
تسعى روسيا من حربها في سورية الى تحقيق عدة مكاسب سياسية، ومن أهمها:
1. يأمل الرئيس الروسي عن طريق التدخل العسكري في سورية أن يستعيد زمام المبادرة في الشرق الأوسط، ويأمل أن يصبح له دور أكبر في المنطقة، ويتخلص من تعامل المجتمع الدولي مع روسيا على اعتبار أنها دولة “مارقة” عن النظام الدولي ، اذ فرضت عليها عقوبات بعد أزمة شبه جزيرة القرم.
2. الرغبة الروسية في الحفاظ على القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس التي تعد القاعدة العسكرية الوحيدة لروسيا في الشرق الأوسط.
3. مخاوف الدولة الروسية من ان يمكن سقوط النظام السوري حليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها إقامة المشروع الذى يهدف إلى نقل خطوط الغاز من قطر إلى أوروبا عبر سورية, وبالتالي لا تستطيع روسيا تمرير كثير من سياساتها التي ترفضها أوروبا، وفى حالة إحراز تقدم في سوريا فان روسيا تستطيع امتلاك العديد من أوراق الضغط بحيث تستطيع المساومة والتفاوض مع الغرب حول العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبله.
4. حماية حليفها الاستراتيجي المتمثل في النظام السوري وإيران والعراق. (5)
وفي اطار تأثير التقارب التركي-الروسي الاقتصادي لا ضعاف موقع ايران في سورية زار الرئيس التركي رجب طيب أروغان روسيا ، ثم زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تركيا في 10 أكتوبر2016، اذ تم إبرام اتفاقية تاريخية لبناء خط الأنابيب “تورك ستريم” لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر البحر الأسود، وإعادة فتح الأسواق الروسية أمام البضاعة التركية، والتعهد باستئناف مشروع “أكويو”(Akkuyu)، الذي تقوم به الشركة المملوكة للحكومة الروسية “روساتوم”(Rosatom) لبناء أول محطة طاقة نووية تركية، وتزامن ذلك مع رغبة موسكو في تحسين علاقتها مع أنقرة لإدراكها أن إبعاد تركيا بصورة أكثر في هذه المرحلة سيدفعها بصورة أكبر نحو الاقتراب من “الناتو”، خاصة أن العقوبات الروسية السابقة ضد أنقرة أثرت سلباً على الاقتصاد الروسي، فالكثير من التجار الروس يرغبون بالسلع التركية الرخيصة، ويعانون العقوبات الأوروبية والأمريكية وانهيار أسعار النفط، ويحتاجون في النهاية إلى الحصول على الصفقات المتاحة في الأسواق التركية (6).
وهنا لابد من الاشارة للعلاقة بين ايران وروسيا وحجم التعاون العسكري والنفطي والغازي بينهما على مدى السنوات الماضية والتنسيق الدائم بين القوتين ضد المشاريع الغربية، ولكن هذا لا يعني أبداً أن الوفاق دائم بين الطرفين، فربما تكون سورية مفترق طرق بين الإيرانيين والروس، كون مصالحهما في سورية اختلفت.
ويفضل غالبية السوريين والعرب وحتى النظام السوري نفسه النفوذ الروسي على النفوذ الإيراني في سوريا. ولا شك أن جهات كثيرة ستدعم الروس في مواجهة الإيرانيين في سوريا، الذين يتوقعون مواجهة تحديات كبرى في سوريا؛ حيث أن غالبية الشعب السوري السني على عداء مستحكم مع الإيرانيين مذهبياً. وحتى العلويون في سوريا المحسوبون على الشيعة يعارضون النفوذ الإيراني، ويفضلون النفوذ الروسي العلماني، خاصة أن العلويين في سوريا طائفة علمانية متحررة ومنفتحة وترفض رفضاً قاطعاً التشدد الديني الذي تحاول إيران أن تفرضه عليهم في سوريا.
فهل تشهد سورية في الايام المقبلة تراجع الاستثمار الإيراني فيها؟ وهل تتصاعد حدة الصراع بين الإيرانيين والروس في سوريا في قادم الأيام، أم سيكون هناك تقاسم نفوذ؟ و هل تكون سوريا انكسار المد الايراني في المنطقة بعد ازياد النفوذ الروسي فيها وبعد أن هدد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب بوضع حد لإيران؟ وهل يستطيع الروس تخليص سوريا من توسع المشروع الفارسي؟ أم إن النفوذ الإيراني قوي جداً على الأرض في سوريا، بينما النفوذ الروسي نفوذ جوي وسياسي فقط؟ ألم يتغلب الإيرانيون على الأمريكيين في العراق بفضل قوتهم العسكرية والدينية على الأرض، فما بالك بالروس الضعفاء جداً على الأرض في سوريا؟ (7).
مما سبق يتبين ان سوريا ضرورة لروسيا، خصوصا انها تفكر في العودة إلى “الشرق الأوسط” بعد التراجع الأميركي فيه. وانها مكان استراتيجي لتثبيت قوتها في المنطقة والعالم. وهنا حقيقة ثابتة يجب أن يدركها السوريون وهي أن التدخل الدولي في الصراع السوري سيؤدي إلى استطالة المدى الزمني للحرب ويفضي إلى مزيدٍ من التعقيدات والصعوبات في التوصل إلى حل سريع ينهي معاناتهم، وهذا يتطلب منهم اللعب الجيد على حبال السياسة باستغلال المواقف الإقليمية والدولية تجاه الصراع في سورية وتوظيفه في اتجاه خلاصهم وتحررهم.
شذى خليل
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المصادر :
انظر(1) http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2015/10/16
: انظر (2) http://suwar-magazine.org/deta
: انظر (3) المركز العربي الديمقراطي http://democraticac.de
: انظر (4) http://www.aljazeera.net
: انظر (5) http://www.asharqalarabi.org.uk
: انظر (6) http://www.asharqalarabi.org.uk/ 3/1/2017
: انظر (7) http://www.alquds.co.uk/ 14/1/2017