بيروت – انتخب لبنان رئيسا للجمهورية وأنهى بذلك فراغاً رئاسيا كاد يهدد البنى التحتية للنظام السياسي اللبناني المعمول به منذ تشكّل الكيان واستقلاله دستوريا عام 1943، ولا سيما منذ الإصلاح الدستوري الذي أدخلته وثيقة اتفاق الطائف عام 1989، والذي يستظل النظام السياسي اللبناني الراهن بتفسيراته.
وصل الانسداد إلى شرايين النظام اللبناني منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 مرورا بتفاصيل الصدام الأهلي الداخلي الذي تلا ذلك، حتى أن الكثير من المعلقين في عهد الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان اعتبروا أن الأخير هو آخر رئيس مسيحي في لبنان، وأن البلد ذاهب إلى تحولات توحي بها الطموحات الإيرانية من خلال سطوة حزب الله على لبنان.
على أن الطبقة السياسية التي اطمأنت إلى ديمومة النظام السياسي وارتاحت إلى الرعاية الإقليمية والدولية لبقاء تركيبته الدستورية بعد انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، تعمل جاهدة هذه الأيام على الدفاع عن نفسها وامتيازاتها ومكتسباتها التي قد تشوّهها أي نصوص متسرّعة لقانون انتخابات عتيد يُناقش بصمت وصخب قبيل الانتخابات التشريعية التي من المقرر إجراؤها، وفق المهل الدستورية، في الربيع المقبل.
النظام الانتخابي
إذا كانت كل المكونات السياسية ترفع شعار تطوير النظام الانتخابي ليصبح أكثر وأدق تمثيلاً، فإن الكثير مما يطرح فيه حق يراد به باطل، وأن لب الحوافز التي تدفع هذا الطرف أو ذاك للدفاع عن هذا القانون أو ذاك، مُراده الحفاظ على أحجام والنيل من أحجام منافسة، بغض النظرعن مقولة صحة التمثيل ورشاقة المجلس النيابي ومصداقية شرعيته.
يسعى المسيحيون في لبنان إلى تحرير مقاعدهم النيابية من سطوة الناخبين المسلمين، يريد المسيحيون قانونا يتيح لهم التخلّص من “الودائع” الذين ينتخبهم المسلمون ضمن حصة النواب المسيحيين في البرلمان اللبناني، وهم لئن سعوا في الماضي إلى التبشير بالقانون المسمى “الأرثوذكسي”، فإنهم بعد انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية يسعون إلى التوصل مع الشركاء في الصفقة الرئاسية إلى ما يمكن أن يكون قانونا وسطاً يعتق بعض الرقاب المسيحية من سيف المقترع المسلم.
تأسست عقدة تهميش المسيحيين من حالة الاستيلاء التي فرضها قانون الانتخابات الحالي وتقسيم الدوائر إضافة إلى الوصاية السورية في الإمساك بمفاتيح التمثيل المسيحي في البرلمان والحكومة. والأمر الذي فرضه الواقع في نهاية الحرب الأهلية كان تجاهلاً لوثيقة الوفاق الوطني في الطائف، وتجاهلاً للسياق العام لنشوئها، الأمر الذي أخل ليس فقط بحصة المسيحيين في تقاسم السلطة في البلد، بل أربك كل الفكرة اللبنانية القائمة على هذا الوجود المسيحي ودوره في الشرق.
وفيما ذهبت وثيقة اتفاق الطائف إلى الدعوة إلى السير باتجاه إلغاء الطائفية السياسية كسبيل وحيد لتخليص اللبنانيين من مظلومية طائفية لا تنتهي، بدا أن تطبيق الاتفاق جاء ليتّسق مع نظام سياسي وتركيبة سياسية تتناسب مع شروط وصاية دمشق على البلد. وقد دعت وثيقة الطائف إلى إلغاء الطائفية السياسية وفق ما نصّ عليه البند(5) من الفقرة (أ) من الإصلاحات السياسية: «إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين، ونسبياً بين المناطق»، والفقرة (ز) من الوثيقة التي ألزمت المجلس النيابي المُنتخب على أساس المناصفة باتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية.
لبنان الذي يراقب تطورات الوضع السوري لن يذهب إلى اعتماد قانون يرتجل مجلسا نيابيا خارج سياق التحولات الإقليمية
روّج المسيحيون للقانون “الأرثوذكسي” الذي يدعو ببساطة إلى أن تقترع كل طائفة لنوابها دون أي تدخل من الطوائف الأخرى. قوبل الأمر باستنكار ورفض، ذلك أن الأمر لا يبني وطنا جامعاً تتقاسم طوائفه ومواطنوه العيش والمصير المشتركين، كما يعمق الشرخ والانقسام، ويؤسس لحرب طائفية ويمهّد لتقسيم البلد إلى كانتونات طائفية تتوافق مع عقلية اهتمام كل طائفة بشؤونها.
لكن أسئلة المشرعين كانت تسعى إلى إرساء توازن بين هدف صحة التمثيل وعدالته وبين الدعوة لنقاء التمثيل. ثم أن البحث عن قانون مثالي للانتخابات هدفه بالنهاية التوصل إلى مشهد برلماني سليم يثبت الاستقرار والسلم الأهليين داخل المكونات المجتمعية، وهو ما لن يحصل إذا شعرت أي جماعة بأن ما يراد له أن يكون إصلاحاً وتجديداً ينقل التهميش من كتف هذا إلى كتف ذاك.
التحالف المسيحي
يشعر التحالف المسيحي الذي أقرته “ورقة النوايا” بين القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والتيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون ورئاسة صهره جبران باسيل، بأن الكتلة المسيحية الوازنة حررت المسيحيين من سطوة الحلفاء قبل الخصوم، وأن جعجع بات أكثر استقلالا عن حليفه السني تيار المستقبل وأن عون يأمل في أن يتمتع بهامش مناورة أوسع يسمح له باتخاذ مسافة من حليفه الشيعي حزب الله.
بالمقابل يعتبر تيار المستقبل أن أي”عبث” يطال قانون الانتخاب الحالي المسمى “قانون الستين” لمصلحة قانون الانتخابات النسبي يُدخل في فضائه وجوهاً ستقضم حصته البرلمانية متناسلة من التعددية داخل دوائره، لا سيما داخل الكتلة السنية الناخبة، ناهيك عن سحب المقاعد المسيحية المحسوبة عليه لصالح من ينفخ باستعادة تلك المقاعد إلى الحضن المسيحي الحقيقي.
وإذا كان تيار كبير كتيار المستقبل يعتبر الأمر خطرا، فإن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يعتبر أنه كارثة ستطيح بحضوره وستحشره ضمن حصة لا تتناسب مع الوزن التاريخي للدروز في تشكل الكيان اللبناني ورسم خطوطه ومعالمه.
وحدها “الشيعية السياسية” تعتبر نفسها مستفيدة من مفاعيل أي قانون، وما دعوتها إلى اعتماد النسبية الكاملة في قانون الانتخاب العتيد، إلا لأن ذلك يحجّم من أوزان الخصوم ولا يؤثر على الحصة البرلمانية لحركة أمل بزعامة نبيه بري وحزب الله بزعامة السيد حسن نصرالله.
مناعة شيعية
لا تتأسس هذه “المناعة” الشيعية على أسباب موضوعية تتعلق بشعبية الثنائي داخل الطائفة، بل على سطوة السلاح التي تمنع أي تباين يُذكر بإمكانه أن يمثّل تحدياً لهيمنتهما على مقاليد القرار الشيعي. وعلى هذا يتأسس موقف الرافضين للنسبية الكاملة، لا سيما تيار المستقبل، الذين يعتبرون أن لا مكان للنسبية في ظل هيمنة سلاح حزب الله، وهو كلام تؤكده الأرقام وتؤيده السوابق التي أطاحت داخل الطائفة الشيعية بأي محاولات لإنشاء كيانات تمثيلية خارج سقف “الحركة” و”الحزب”.
لن تستطيع الطبقة السياسية اللبنانية الراهنة إنتاج قانون انتخابي لا يتناسب مع كل أطراف الطبقة السياسية. فإذا باتت كل التيارات تكرر أنها لن تذهب إلى قانون انتخاب لا يرضي وليد جنبلاط، فهذا يعني أن لا مكان للنسبية التي يدافع عنها التيار الوطني الحر كما الثنائية الشيعية، ولا مكان لقانون مختلط بين النسبي والأغلبي يقبل به تيار المستقبل.
بمعنى آخر فإن لبنان الذي يراقب كل يوم تطورات الوضع السوري ليبني على الشيء مقتضاه، لن يذهب إلى اعتماد قانون يرتجل مجلسا نيابيا خارج سياق التحوّلات الإقليمية الراهنة.
ورب قائل إن ما تعرفه أفضل مما لا تعرفه. ووفق هذه المقولة قد يستظل اللبنانيون بقانون الانتخابات الراهن الذي نظم تمثيلهم البرلماني منذ عام 1960، أي قبل أن ترسم إسرائيل حدود وجودها بعد 67، وقبل اندثار الناصرية وزوال الحرب الباردة. فلبنان المستقبل ما زال ينهل زاده من قديم الزمان.
العرب اللندنية