المديونية الخارجية بصفة عامة هي عملية تلجا إليها الدول عندما تكون عاجزة عن سد متطلبات الأنفاق اعتمادا على مواردها المالية الخاصة، ويتمثل خطر المديونية الخارجية في شل جهود التنمية، وما تعكسه من اثار اجتماعية وسياسية على الدول المدينة، وفي تبعيتها للجهات الدائنة وتعرضها لنوع من “الإرهاب المالي الدولي “الذي يستهدف إخضاع القرارات الاقتصادية والسياسية لهذه الدول للرقابة والتدخل في شؤونها الداخلية تحت وطأة تفاقم مديونيتها، وهذا واضح في حالات الدول التي تضطر لطلب إعادة جدولة ديونها الخارجية أو الحصول على قروض جديدة, حيث تعمق من تبعية الدولة المدينة لرأس المال الدولي.
وان الخلل في السياسة المالية للاقتصادي العراقي يؤكده العجز المستمر في الميزانيات السابقة، والموازنة الحالية لسنة 2017 ، وتمويل هذا العجز بالاقتراض؛ يعني ان الاقتصاد يعاني مشاكلَ مالية حادة، و يسير بشكل عشوائي وغير منظم في ظل غياب القطاعات الإنتاجية وبالذات قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة.
ولو استخدمت القروض لأغراض التنمية الاقتصادية وتطوير البنية التحتية للبلد، لرفعت مستواه الاقتصادي التنموي وتجاوز الازمات، لكن تلك القروض توجه للانفاق التشغيلي وليس الاستثماري، مما يجعل اقتصاد العراق يقع تحت ضغط الديون التي تلزمه بتسديدها، والتي تعد معالجات آنية نتيجة العجز المالي.
ومن اسباب هذا العجز انخفاض اسعار النفط ،والسياسة الاقتصادية الفاشلة واستمرار الفساد المالي والاداري.
وقررت موازنة 2017 العراقية ان حجم النفقات اكثر من 100 تريليون دينار عراقي، ومن ضمنها اقساط الدين الداخلي والخارجي.
اما الايرادات فتبلغ اكثر من 79 تريليونا، على اساس سعر 42 دولارا للبرميل الواحد، وبسعر صرف 1182 دينار لكل دولار، وتم احتساب الإيرادات على اساس تصدير النفط الخام بنحو 3.75 مليون برميل يوميا من ضمنها 250 الف برميل منتج في إقليم كردستان و300 الف برميل منتج في محافظة كركوك.
وبناء على المعطيات السابقة عن الايرادات والنفقات؛ ستواجه الموازنة عجزا، يقدر بـ اكثر من 21 تريليون دينار عراقي، وهو أقل عن العجز الفعلي المسجل لميزانية 2016 الذي بلغ 34 تريلون دينار عراقي، فيما كان العجز المخطط 24 تريليون دينار عراقي ، بحسب دراسة سابقة لمركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
ويعود العجز الى انخفاض أسعار النفط والفساد في الادارة المالية والاستمرار في الهدر المالي للعملة الأجنبية من احتياط النقدي، اذ ان احتياطي النقد الأجنبي للبنك المركزي العراقي في تدن مستمر اذ بلغ 43 مليار دولار في عام 2016 ، في حين كان 53 مليار دولار نهاية 2015. وتتوقع التقديرات الحديثة استمرار التراجع لعام 2017 الى مستوى ادنى من ذلك، وهذه مشكلة كبيرة .
الجدول التالي يوضح مفردات الموازنة المقرة لسنة 2017
و يغطى العجز، من الاقتراض الداخلي والخارجي، ومن مبالغ النقد المدورة في حساب وزارة المالية الاتحادية، والوفر المتوقع من زيادة اسعار بيع النفط الخام المصدر، وزيادة صادرات النفط الخام، ويخول وزير المالية الاتحادي بسد العجز الفعلي.
ويتم الاقتراض الداخلي، من ارصدة حسابات الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة لدى المصارف الحكومية والسندات الوطنية للجمهور، وسندات وحوالات خزينة الى المصارف الحكومية، اضافة الى اصدار حوالات خزينة وسندات وطنية للجمهور، وسندات وحوالات للمصارف الحكومية، تحسم لدى البنك المركزي العراقي، وقروض من المصارف التجارية، فيما يتم الاقتراض الخارجي من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والوكالة اليابانية للتعاون الدولي لدعم الموازنة بالاضافة الى اصدار سندات خارجية.
ودخل العراق منذ عام 2003 مبالغ مالية تصل إلى عشرة أضعاف ما دخل إلى الدولة العراقية منذ تأسيسها، ولكن الاموال التي دخلت العراق منذ 2003 لم تستثمر في بناء الاقتصاد، الذي يعاني اليوم انكماشا بعد انخفاض أسعار النفط، وفقدان القدرة على تصدير كمية النفط المطلوبة منه يومياً، وزيادة النفقات التشغيلية جراء الحرب، التي يخوضها العراق ضد تنظيم “داعش”، الأمر الذي جعل الدولة العراقية تعتمد كثيرا على الاقتراض الخارجي لسد العجز.
القروض الخارجية التي يعتمد عليها العراق
التزم العراق بالعديد من الديون الخارجية لسد العجز في موازنته، ومنها
– قروض البنك الياباني للتعاون الدولي بقيمة 500 مليون دولار لتمويل مشاريع وزارة الكهرباء .
– قرض البنك الاسلامي للتنمية ومقداره 800 مليون دولار لتمويل مشاريع لصالح وزارات الكهرباء، والاعمار والاسكان والبلديات والاشغال العامة، الصحة، امانة بغداد، والتعليم العالي والبحث العلمي.
– قرض الوكالة اليابانية للتعاون الدولي البالغ 1500 مليون دولار لتمويل مشاريع لصالح وزارات النفط، الاعمار والاسكان والبلديات والاشغال العامة، الموارد المائية، الكهرباء، الصناعة والمعادن، الصحة، الاتصالات، النقل، ووزارتي الصحة والكهرباء التابعة لإقليم كردستان.
– قرض بنك التنمية الالماني بمبلغ 600 مليون دولار لتمويل مشاريع اعمار المناطق المحررة من الارهاب لعام 2017،
– القرض الايطالي بمبلغ قدره 160 مليون دولار لمشاريع كل من وزارتي الموارد المائية والزراعة.
– القرض الاميركي بمبلغ مقداره 2.7 مليار دولار لتمويل احتياجات وزارة الدفاع.
– قرض البنك الدولي بمبلغ مقداره 500 مليون دولار لتمويل مشاريع لصالح وزارة الكهرباء، وامانة بغداد، ووزارة الاعمار والاسكان، والبلديات العامة، ووزارة المالية.
– قرض بنك الصادرات البريطاني لتمويل مشاريع البنى التحتية بمبلغ قدره 16 مليون دولار.
– – القرض السويدي بمبلغ 500 مليون دولار لتمويل مشاريع وزارة الكهرباء.
– قرض من شركتين صينيتين بمبلغ 2.5 مليار دولار لشراء الاسلحة والاعتدة بطريقة الدفع الآجل لكل من وزارتي الداخلية والدفاع وهيئة الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الارهاب.
الجدول التالي يبين اجمالي القروض الخارجية المخطط لحصول العراق عليها لتمويل عجز موازنته .
حصة اقليم كردستان في الموازنة
تحدد حصة الاقليم بنسبة 17% من اجمالي النفقات الفعلية (النفقات الجارية ونفقات المشاريع الاستثمارية )، وتدفع من قبل وزارة المالية الاتحادية بموافقة رئيس مجلس الوزراء، وعند حصول زيادة او انخفاض في اجمالي نفقات الموازنة تضاف او تخفض حصة اقليم كردستان طرديا مع هذه الزيادة أو النقصان. وتخصص للقوات البرية الاتحادية للجيش العراقي و قوات البيشمركة حسب النسب السكانية باعتبارها جزءا من المنظومة الامنية العراقية.
وعند عدم قيام الإقليم بتسديد الإيرادات الاتحادية المستحصلة الى الخزينة العامة الاتحادية ، تقوم وزارة المالية الاتحادية باستقطاع الحصة المحددة بما يعادل الايرادات المخطط لها في الموازنة الاتحادية وتجري التسوية الحسابية لاحقاً.
وفي حالة عدم ايفاء اي طرف سواء الحكومة الاتحادية، او حكومة اقليم كردستان بالتزاماته النفطية او المالية المتفق عليها في هذه الموازنة يكون الطرف الاخر غير ملزم بالإيفاء ايضاً بالتزاماته النفطية او مالية.
وتلتزم حكومة الاقليم بتصدير ما لا يقل عن 250 الف برميل يوميا من النفط الخام من حقوله ، ونقل ما لا يقل عن 300 الف برميل خام يوميا من حقول محافظة كركوك لتسويقها وتسليم ايراداتها للخزينة العامة الاتحادية .
الحكومة تضغط النفقات
ونصت الموازنة على ضغط النفقات، ومنها استقطاع نسبة 4.8% من مجموع الرواتب والمخصصات لجميع موظفي الدولة والقطاع العام والمتقاعدين كافة لسد احتياجات الدولة من نفقات الحشد الشعبي واغاثة النازحين وغيرها، ومن ضمن التخصيصات المرصدة ضمن الموازنة الاتحادية للسنة الحالية.
كما الزمت الحكومة الاتحادية حكومة اقليم كردستان باستقطاع نسبة 4.8% من مجموع الرواتب والمخصصات لجميع الموظفين والمتقاعدين فيه؛ لسد احتياجات الاقليم بما فيها احتياجات قوات البيشمركة من أصل حصة الاقليم البالغة 17% ، والمدرجة ضمن الموازنة العامة الاتحادية للسنة الحالية.
ومن اساليب ضغط النفقات ايضا تخفيض المبالغ المخصصة للوقود وصيانة السيارات المستخدمة، على ان يتحمل الموظف الذي يستخدم سيارات الدولة نفقات الوقود والصيانة بشكل كامل باستثناء السيارات التشغيلية والحقلية والانتاجية وسيارات الاسعاف وسيارات نقل الموظفين والاجهزة الامنية.
وشددت الموازنة على تخفيض نفقات الايفاد الخارجي وحصرها للأغراض الضرورية جداً وتقليص اعداد الموفدين الى 50% مع تحديد فترة الايفاد بالمدة الاقل، وعدم تنظيم اي مؤتمر خارج العراق، ومنع استئجار الطائرات الخاصة من خزينة الدولة .
كما شددت على وقف التعيينات في إدارات الدولة وتفعيل جباية الضرائب ومنع التعيين في دوائر الدولة كافة بأسلوب التعاقد مع امكانية تجديد العقود السابقة في حالة وجود ضرورة لذلك، وعدم التعيين في اية وظائف قيادية مدير عام فما فوق ما لم يوجد لها درجة في قانون الوزارة.
ونصت الموازنة على تحويل جميع ايرادات هيئة الاعلام والاتصالات لعام 2016 الى حساب الخزينة العامـــــة الاتحادية للدولة ،وفرض ضرائب على كارتات الهواتف النقالة وشبكات الانترنيت بنسبة 20% اضافة الى الزام الشركات بتسديد ما عليها من مبالغ وغرامات والتزامات مالية خلال النصف الاول من عام 2017 وتسجل ايراداً للدولة.
وفرض ضريبة مطار بمبلغ مقطوع مقداره 20 دولارًا للتذكرة الواحدة في جميع المطارات العراقية للسفر الخارجي وتُقيد إيراداً للخزينة العامة، و تفعيل جباية اجور الكهرباء والهاتف والماء والمجاري وجميع الاجور الاخرى ضمن قوانينها الخاصة .
والزمت الموازنة وزارة الخارجية بتخفيض عدد العاملين من موظفي الخدمة الخارجية في البعثات بنسبة لا تقل عن 25%من ملاكها الحالي.
كما الزمت وزارات الثقافة والتجارة والدفاع والصحة والتعليم العالي والبحث العلمي غلق الملحقيات او نقلها الى مقر السفارات وتخفيض عدد موظفيها العاملين في الملحقيات بنسبة لا تقل عن النسبة المذكورة آنفاً.
ومنعت الموازنة استئجار الطائرات الخاصة من خزينة الدولة على ان تستخدم الطائرة الرئاسية في مجلس الوزراء من قبل الرئاسات الثلاث وتتحمل كل رئاسة التكلفة المترتبة على ذلك.
موازنة الحشد الشعبي
والزمت الموازنة وزارة المالية بفتح حساب جارٍ باسم هيئة الحشد الشعبي ولم تذكر قيمته، وان يتم استقطاع 3.8% من مجموعة الرواتب والمخصصات لجميع موظفي الدولة والقطاع العام والمتقاعدين كافة لسد احتياجات الدولة من نفقات الحشد الشعبي.
ومنحت الموازنة الوزير المختص او رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة او المحافظ ، صلاحية منح من اكمل مدة خمس سنوات فعلية بالوظيفة من الموظفين اجازة براتب اسمي مدة خمس سنوات وتكون دون راتب لما زاد على خمس سنوات وتحتسب لأغراض التقاعد، على ان تدفع التوقيفات التقاعدية كاملة خلال مدة تمتعه بالإجازة، وتستحصل موافقة رئيس مجلس الوزراء اذا كان الموظف بدرجة مدير عام فما فوق.
كما نصت موازنة عام 2017 على تأسيس صندوق لإعادة اعمار المناطق التي دمرها الارهاب ويتمتع الصندوق بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري، ويمول من المنح والمساعدات الدولية وما يخصص له ضمن الموازنة العامة الاتحادية وينظم عمله بنظام يصدر عن مجلس الوزراء.
من اشكال تبعية القروض الاقتصادية
– التبعية التجارية: ويقصد بها تحكم الطلب العالمي بمعدلات نمو اقتصادات الدولة حيث ان قطاع التصدير يعد المصدر الأساس لدخل الدولة، التي غالبا لاتنوع صادراتها من المواد الأولية, وتعتمد على مادة أولية واحدة مثل ( النفط ) أو مجموعة محدودة من المواد.
– التبعية المالية: وهي ارتباط مؤسسة الدولة المالية بالنظام الرأسمالي الدولي، مما يجلب لها مخاطر عدة، ومنها احتمال التجميد من قبل الحكومات الغربية كما حصل مع الودائع العراقية والليبية، حيث دعت حاجة الدول لرؤوس الأموال لتمويل خططها الإنمائية، إلى فتح المجال لدخول رأس المال الأجنبي بأشكاله المتعددة.
– التبعية التكنولوجية(العولمة): ويقصد بها النقل الأفقي للتكنولوجيا أي استيرادها من الدول المتقدمة بدل العمل على تنميتها وطنيا أو قوميا أو إقليميا. واختارت معظم الدول النامية اكتساب هذه التكنولوجيا عن طريق استيرادها جاهزة معتقدة أن ذلك سيمكنها من اقتصاد الوقت والنفقـات.
مما سبق نستنتج ان أعباء خدمة القروض اثقلت الاقتصاد العراقي، ووصلت الى معدلات مرتفعة وحرجة تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدولة، وأصبح مأزق الديون الخارجية للدولة يستدعي حلا عاجلا قبل بلوغ مستويات يصعب معها حتى التفكير في تحقيق معدلات نمو اقتصادية.
وينعكس التأثير السلبي للديون الخارجية على القدرة المالية والاستيرادية للدولة، وعمليات الاستثمار المطلوبة لتحقيق أهداف النمو المتسارع الذي تتطلع إليه اقتصاداتها.
ويتمثل التأثير السلبي في كون أعباء المديونية الخارجية تستحوذ على نسب عالية من الناتج المحلي الإجمالي وتشكل إنقاصا للموارد المالية التي كان من الممكن أن تتجه إلى الادخار والتوسع الاقتصادي, كما أن ارتفاع الديون الخارجية يشكل عبئا على الاحتياطي النقد الأجنبي .
واخيرا لابد من التذكير أن العيب لا يكمن في مسألة الاقراض الأجنبي وإنما في طبيعة استخدامات هذه الأموال. فهناك دول لعب رأس المال الأجنبي فيها دورا أساسيا لتطويرها؛ نظرا للاستغلال الأمثل لهذا الاقراض، مما ساعد على خلق فوائض مالية أخذت تصدرها إلى البلدان النامية.
وبالنسبة لمعظم الدول النامية ومن بينها العراق، فلم يلعب رأس المال الأجنبي الدور الذي كان يجب أن يلعبه في تنمية هذه الدول؛ مما أوقعها في مديونية خانقة لها آثار اجتماعية وسياسية لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية.
شذى خليل
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية