أعادتنا وفاة هاشمي رفسنجاني إلى السنوات الأولى للثورة الإيرانية، وكنا متحمسين لإسقاط الشاه حليف «إسرائيل» المتعصب لخليج فارسي، قبل أن نتبين أن الملالي يحملون كراهية للعرب أكثر.
لست مهتماً بالخلاف بين إصلاحيين ومتشددين كما استحضرته الصحافة من جنازة رفسنجاني، فالاثنان يكشران أنياباً حادة تجاهنا، لكن ضجة الموت أرجعتني إلى الأيام البازغة التي ظهر فيها الشاب الوسيم أبو الحسن بني صدر جوار الخميني المتجهم. وكان أطل في 22 أكتوبر/تشرين الأول الفائت من القناة الفرنسية، لكأنما هو غيمة شاردة ذهبت في كنف الريح، وعادت وأطلت من وراء السنين.
نعرف أن أبو الحسن بني صدر ما زال على قيد الحياة، ولكنه لم يعد على قيد السياسة حاضراً.
أطل بني صدر فأنعش الذاكرة، وذهب بها إلى فترة عاصفة، وقدم شهادة على ما يفعله الزمان بالناس، وما يفعله الناس بالشعوب. وفي فعل الزمان لم نر الشاب الطافح بالحيوية والبهاء، وإنما شاهدنا شيخاً، ناحلاً، وحكيماً، بملامح لم يطمسها الشحوب، وبذاكرة في صحوتها وعنفوانها. وعما يفعل الناس فهي سيرة معروفة فصولها، ولكن بني صدر زاد ووضعنا قبالة مشاهد تكشف عن غموض في شخصية الرجل الذي أسندت إليه قيادة الثورة الإيرانية آية الله الخميني وأمام محطات حصلت فيها تصرفات صغيرة في مظهرها وعميقة التأثير في السياسة الدولية، كما في دعم المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية رونالد ريجان ضد الديمقراطي جيمي كارتر.
لم يعرف بني صدر الخميني في غمرة السياسة، وإنما تعرف إليه من وقت مبكر. فهو ابن رجل دين رأى الخميني في صباه يتردد على والده، ويقضي وقتاً في منزلهم هارباً من قيظ مدينة قم. وبعد ذلك سوف يصبح مستشاراً له في منفاه في النجف، ثم في فرنسا، وسيلاحظ أنه لم يكن مستعداً للقاءات الصحفية، بل عازفاً وممتنعاً. وسينصحه ويرد الخميني بأنه لا يعرف اللغات، ولا يدري ما الذي سينقلونه عنه. وتكتمل النصيحة بتشكيل لجنة تتولى تسلم أسئلة الصحفيين، وإعداد الأجوبة عنها. وقد أجري حديث صحفي معه في النجف بادرت شرطة صدام حسين إلى سحبه، واحتفظ مساعدوه بالتسجيل لينشر في «اللوموند» يوم وصل الخميني إلى باريس.
وكذلك يساهم الإعلام في صناعة النجوم بوضع المساحيق وبعمليات تجميل ونفخ، وبفضله تتجسد الشخصيات في قامات أعلى من حقيقتها. وهذا بني صدر يعترف بأنه حضر أجوبة عن أسئلة حساسة أعطى الخميني أجوبة عنها جعلت الصحيفة تنشرها تحت عنوان «آية الله التحرري».
وفي استرابته من الإعلام، يبدو الخميني مريضاً بالوساوس والعقد، كما سيتجلى من ميله إلى العنف، لكن بني صدر سيزيد في خلع الأغشية عنه، ويجلي بعضاً منها في ما يتبدى من موقفه من ولاية الفقيه، الإمام المعصوم النائب عن المهدي الغائب. فقد بدل رأيه خمس مرات بما يوافق هواه ويرضي سامعيه. فكان في البداية ضدها، حيث لم يخطر بباله أن تصير إليه، لكنه في النجف تحدث عنها، وبعدها في باريس قال عن سيادة الشعب، ثم أمام البرلمان تحدث عن نظارة الفقيه، وأخيراً قال بولايته المطلقة.
وعند عودة الخميني في فبراير/شباط 1979 كان برفقته بني صدر، وكذلك يظهر بجانبه في الصورة عند مدخل الطائرة في مطار طهران، حين صعد اثنان من رجال الدين لاستقباله. كانت الجماهير تملأ الشوارع والميادين، بينما تدخل المرارة نفس الشاب الذي كان حتى اللحظة مرشداً لمرشد الثورة. وسوف يقول في مقابلته مع القناة الفرنسية إن الخميني ظل يتعامل مع المفكرين حتى باب الطائرة، ومن ذلك المكان أصبح يتعامل مع رجال الدين.
بعد مجيئه إلى طهران منتصراً، استبقى الخميني آخر رئيس حكومة في عهد الشاه شهبور بختيار، ثم عزله وأحل مكانه رفيقه في الجبهة الوطنية مهدي بازرجان، وقد فشل بختيار لأن الوجع كان قد اشتد وتطاول، ولم ينجح بازرجان لأن الخميني لم يمهله. والحال أنه اختاره في لحظة التزام بتحالفات قديمة لقوى عاجلها الخميني وأنزل فيها أفظع المجازر.
في هذا المناخ العاصف، بقي بني صدر وجهاً لامعاً في وزارتي المالية والخارجية. وفي منصبه وزيراً للخارجية داهمته مشكلة اقتحام السفارة الأمريكية، واحتجاز موظفيها، فهو العارف بالفرق بين الدولة والعصابة حاول مع الخميني، ومع الطلبة، وتلقى إجابة واحدة مضمونها أن الاحتجاز لن يتجاوز ثلاثة إلى أربعة أيام، ثم كان النكوث.
في ذلك الوقت كان الإيرانيون يطالبون السلطات الأمريكية بتسليمهم الشاه، وهي ألزمته بمغادرة أراضيها. غير أن احتجاز الرهائن ظل لاعباً قوياً في الانتخابات الموشكة للرئاسية الأمريكية، وفيها بدا كارتر مطمئناً واثقاً بالفوز، وجاء احتجاز الرهائن ضربة أدخلت الممثل السينمائي السابق إلى البيت الأبيض.
بعد ذلك قد يمضي المتابع إلى استنتاجات تضع الأحداث في مواقعها في التاريخ، وأولها أن الخميني ورجاله زرعوا حروباً طائفية بإصرار وترصد. أما وأنه أراد أن يصلي في القدس فاللهفة واضحة في فضيحة إيران كونترا. حيث وضع النظام الإيراني نفسه على تماس مباشر مع الدولة الصهيونية.
لكن هذا وغيره حصل بعد أن انزوى بني صدر في الظل. ويوم أقبل مع أضواء القناة الفرنسية قدم دعوة لاسترجاع حوادث التاريخ بتجرد ونزاهة.
حسن العديني
صحيفة الخليج