إن الذي يتتبع السياسة الخارجية الإيرانية منذ قيام الثورة الإسلامية حتى الآن سوف يدرك أنها تقوم على فهم عميق لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة، كما أنها تستند إلى الأوضاع الجارية في غرب آسيا، لذلك فهي تعتمد على قدرٍ كبيرٍ من المخاطرة، بل والمغامرة أحياناً.
إنها لا تعطي صكاً مفتوحاً ولا قبولاً دائماً لمطالب الغرب والولايات المتحدة الأميركية تحديداً، بل هي تسعى نحو جر المنطقة إلى حافة الهاوية بتهديدات خفيّة، وتصرفات لا تخلو من مجازفة، بل وترهيب للآخرين، وبرعت إيران في هذه اللعبة بدرجة عالية، كما أنها لا تبدي اهتماماً كبيراً للألاعيب الأميركية أو التهديدات التي تُطلقها إسرائيل، إلى جانب تفوّق واضح في توظيف عامل الزمن لتتحرك في الوقت المناسب الذي يحقق لها النتائج، التي تسعى نحوها.
والملاحظ أن الغرب والولايات المتحدة الأميركية، ومن ورائها إسرائيل، يهددون إيران على امتداد سنوات طويلة، لكنهم يوجّهون الضربات إلى العرب بعد ذلك! كما أن شواهد كثيرة تشير إلى درجة عالية من المناورة، واتباع سياسة الخداع، والمضي في التمويه، وازدواج الشخصية عند اللزوم، ذلك أن طهران تملك رصيداً كبيراً من القدرة على فهم دهاليز السياسة الدولية، لذلك برعت في توجيه مسار الأحداث لصالحها، ولعلنا نلاحظ هنا أن الذي خدم إيران في تحقيق بعض أهدافها، إنما يعتمد على الركائز الآتية:
أولاً: كان قيام الثورة الإسلامية في إيران فبراير (شباط) عام 1979 إيذاناً بمرحلة مختلفة في تاريخ الدولة الفارسية، فقد رفع الإيرانيون شعارات مرحلة جديدة تعتمد على أيديولوجية دينية يلوّحون بها أمام الحكّام العرب وشعوبهم، وسيطر مفهوم تصدير الثورة على (آيات الله) في طهران، وبدأت الثورة عنيفة بسلسلة إعدامات قاسية في محاولة لإرهاب كل الأطراف، وما هي إلا فترةٌ قصيرةٌ حتى فتح النار عليهم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
واستمرت الحرب الضروس بين إيران والعراق أكثر من ثماني سنوات، تكبَّدت فيها الدولتان ما يزيد على مليون قتيل، وهنا بدأت المواجهة الحادة بين العرب والفرس مرة أخرى، فلقد ناصر العرب جميعاً (باستثناء نظام حافظ الأسد في سوريا) الرئيس العراقي في مواجهته الدامية مع إيران من منطلق عروبي، كما أن جزءاً منها كان هو الرهبة من نظام الرئيس العراقي الذي كانت تبدو بوادر شراسته واضحة لبعض دول الخليج.
ثانياً: تتمتع الدبلوماسية الإيرانية بميزات غير متوفرة لغيرها، فالجارتان الكبيرتان وهما روسيا الاتحادية وتركيا تحتفظان بعلاقات متوازنة مع طهران، فضلاً عن علاقات مسيطرة على كل من أفغانستان وباكستان، وهو ما يجعل من حكم (الملالي) في إيران حكماً فريداً من نوعه، ويسمح له بالامتداد تجاه العالم العربي من ناحية والصمود أمام الغرب من ناحية أخرى، خصوصاً أن الإيرانيين أدركوا مبكراً المخاطر التي تلحق بالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في حالة توجيه ضربة تجاه (طهران)، إذ ستضار إيران بالطبع، لكنَّ ضرراً مثيلاً قد يلحق بالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهو أمر يدعو هاتين الدولتين إلى التريث في اتخاذ مثل هذا القرار المغامر، لذلك فإن إيران تسعى دائماً إلى جر المواجهة مع الغرب إلى حافة الهاوية، لأنها تدرك الاحتمالات العالية للتراجع الأميركي الإسرائيلي عن تلك المغامرة غير المحسوبة بضرب إيران، وقد أدرك الإيرانيون أيضاً أن الأميركيين والإسرائيليين يهددون إيران، لكنهم يضربون العرب فقط!
ثالثاً: نجحت إيران (ربما منذ عصر الشاه) في إعطاء انطباع دولي عام بأنها شرطي الخليج، الذي يحمي المصالح النفطية للدول الغربية، كما أنها برعت في محاولات تخويف دول الخليج العربي والإيحاء بقدراتها المتزايدة في مواجهة جيرانها، وقد أسهم غياب الدور المصري نسبياً منذ سياسات (كامب ديفيد) في إعطاء إيران فرصة للتمدد في المنطقة.
ورغم أن السعودية وقفت لها بالمرصاد في السنوات الأخيرة، فإن ذلك لم يمنع من الانتشار الإيراني في أفريقيا، ومحاولة اختراق بعض الدول العربية بالأيديولوجية تارة، والدعم المالي تارة أخرى، لكن المحصلة على كل حال لا تبدو مبشّرة بالخير للإيرانيين، إذ إن هناك مخاوف كامنة من نظام (الملالي) في طهران، وهي مخاوف تبدو متجذّرة في عدد من الدول العربية والأفريقية، التي عانت استخدام الإسلام الحنيف كأيديولوجية سياسية لاحتواء أقطار أخرى تحت مظلة الثورة الإسلامية الإيرانية.
رابعاً: إن استخدام الجالية اليهودية في إيران لفتح قنوات سرية مع إسرائيل والولايات المتحدة تعتمد عليها طهران للتهدئة عند اللزوم، حقق لطهران بدائل دبلوماسية غير معلنة، يمكن أن تمتص بها غضب الأطراف المعادية، بل وتحول دون التصعيد عند اللزوم، لذلك فإنه ليس غريباً أن نرى في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة موجات صعود وهبوط، توحي بأن الأمر لا يقف عند حدود ما هو معلن، بل إن هناك قنوات خاصة، تعرفها الأطراف المختلفة، خصوصاً أن الجالية الإيرانية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية ذات تأثير بين الجاليات الأخرى، ولذلك فإننا نظن أن إيران عكفت دائماً على اصطناع البدائل وخلق المبررات، لا سيما أن حزب الله يلعب دوراً فاعلاً في تهديد أمن إسرائيل، التي تدرك جيداً أنه مدعومٌ بالدرجة الأولى من الدولة الإيرانية.
خامساً: حاولت إيران استثمار ما جرى في سوريا لدعم علاقاتها مع كل من روسيا الاتحادية وتركيا، وتحقق لها قدرٌ من التكافؤ والندية في هذا السياق، حتى تمكّنت من فرض وجودها رقماً صعباً في أزمات المشرق العربي، واعتبرت نفسها طرفاً في الصراع العربي الإسرائيلي عند اللزوم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الموقف الذي تسعى إيران إلى خلقه أحياناً بمحاولة اختراق بعض دول الخليج التي قد تغرّد خارج السرب، كذلك تسعى إيران إلى تقوية علاقاتها مع دول أوروبية مختلفة إلى حد جعل تلك الدول في خلاف مع السياسة الأميركية تجاه إيران وصنع حلفاء يتعاطفون مع طهران داخل الاتحاد الأوروبي ذاته، فالمصالح تتصالح، ولا مكان للأيديولوجيات في مثل هذه الأحوال.
إن ما نريد السعي لتأكيده والإشارة إليه هو أن الدبلوماسية الإيرانية برعت في العقود الأخيرة في جر العالم إلى حافة الهاوية، ثم الرجوع به في تهدئة مفاجئة تحصد بها مكاسب سياسية على المدى الطويل، وإيران تعتمد في ذلك على مسارات متعددة، منها علاقاتها بالغرب وعلاقاتها بروسيا الاتحادية وتركيا، ومنها أيضاً علاقاتها بالمنطقة العربية، فضلاً عن سياسة العنف التي تتبعها في الداخل لإخماد صوت المعارضة، إذا ما ارتفع على الحد المسموح به. إن إيران دولة ذات استراتيجية طويلة المدى وأيديولوجية عميقة التأثير، ودبلوماسية قد لا تخلو من خبرة وذكاء!
انديندت العربية