مع تولي الإدارة الجديدة منصبها، من الطبيعي أن يتم تقييم الميراث الذي تتسلمه من الإدارة التي سبقتها.
هناك البعض الذين يرون الكوابيس في كل مكان ينظرون إليه، ويصرون على أن النظام العالمي برمته ينهار، وأن موقف أميركا باعتبارها قائد العالم أصبح في تراجع حاد.
باعتباري وزير الخارجية المغادر، فإنني لا أستطيع أن أدعي الموضوعية. لكنني سأغادر المنصب مقتنعاً بأن معظم الاتجاهات العالمية ما تزال تعمل في صالحنا، وبأن قيادة أميركا ومشاركتها تظلان أساسيتين وفعالتين اليوم كما كان حالهما في أي وقت مضى.
ثمة سبب أساسي وراء ذلك، هو أن الرئيس أوباما أعاد الدبلوماسية الحازمة لتكون أداة الملاذ الأول لسياستنا الخارجية، وطبّقها مراراً وتكراراً لتعزيز أمننا وازدهارنا.
يتضح هذا الاتجاه، أولاً وقبل كل شيء، في حملتنا لهزيمة “الدولة الإسلامية”، التي تعرف أيضا باختصارها في اللغة العربية، “داعش”. قبل عامين ونصف، كان هؤلاء القتلة في مسير تقدمي عبر العراق وسورية. وبدلاً من الاندفاع إلى الحرب من جانب واحد، استجبنا بمساعدة العراق بهدوء على تشكيل حكومة جديدة وأكثر شمولاً، وقمنا بعد ذلك بتجميع تحالف من 68 عضواً لدعم إعادة تأهيل الجيش العراقي، وقوات البيشمرغة الكردية وغيرها من الشركاء المحليين لتحرير الأراضي التي كان يحتلها “داعش”.
نحن الآن منخرطون في جهد بلغ أوجه لتحرير أكبر المعاقل المتبقية في العراق (الموصل) وسورية (الرقة). وتعتمد هذه الخطوات العسكرية على التعاون الدبلوماسي الذي توسطنا فيه لقطع التمويل عن “داعش”، وإبطاء تجنيده ودحض دعايته المسمومة على وسائل الاعلام الاجتماعية وفي داخل المنطقة.
تولى الرئيس أوباما منصبه بينما كان البرنامج النووي الإيراني يمضي قدماً، وبينما كانت أمتنا تتعرض لضغوط متزايدة لاتخاذ إجراء عسكري. وفي حين أوضحنا أننا سنفعل كل ما يتطلبه الأمر لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، فقد بدأنا بالدبلوماسية، ببناء أقوى نظام عقوبات دولي يشهده العالم على الإطلاق، وباختبار ما إذا كانت إيران يمكن أن تتفاوض على صفقة يمكن أن تضمن بقاء برنامجها النووي سلمياً حصراً. ونتيجة لذلك، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة أو وضع قواتنا في طريق الأذى، توصلت الولايات المتحدة وشركاؤنا إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، التي أغلقت مسارات إيران نحو امتلاك سلاح نووي، وجعلت أمتنا، وحلفاءنا، والعالم أكثر أماناً.
عندما غزت روسيا أوكرانيا في العام 2014، كان بوسع الولايات المتحدة أن تستجيب كما فعلنا قبل ست سنوات، عندما قوبل التدخل الروسي في جورجيا بالخطابة وحدها إلى حد كبير. ولكن، بعد أن تم إصلاح علاقاتنا الدبلوماسية التي تضررت بسبب الحرب في العراق، كانت إدارة أوباما قادرة على تحدي المشككين من خلال العمل مع شركائنا في الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات أفضت إلى عزل روسيا وأضرت باقتصادها بشدة. كما قمنا أيضاً بتعزيز حلف شمال الأطلسي، مع توسع كبير في المساعدة الأمنية لحلفائنا في دول البلطيق ووسط أوروبا.
أثناء كل ذلك، واصلنا العمل مع روسيا عندما كان في مصلحتنا القيام بذلك. ولكن، لأننا وقفنا بحزم، فإن روسيا تعاني الآن -على الرغم من تفاخر قادتها- من تضاؤل الاحتياطيات المالية، وروبل ضعيف بمستويات تاريخية، وعلاقات دولية فقيرة.
لقد أوضح الرئيس أوباما لحلفائنا والخصوم المحتملين في آسيا أن الولايات المتحدة ستظل قوة رئيسية لتحقيق الاستقرار والرخاء في منطقتهم. وقد حشدنا العالم وراء فرض عقوبات غير مسبوقة ضد كوريا الشمالية المتوعِّدة، وقمنا بزيادة وجودنا البحري في المحيط الهادئ، وعملنا مع الجهات الفاعلة الإقليمية لدعم سيادة القانون في بحر جنوب الصين، وأقمنا شراكة استراتيجية مع الهند. كما قمنا أيضاً بتوحيد الشركاء الرئيسيين وراء معلم بارز واتفاقية تجارة رفيعة المستوى، اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي ما نزال نعتقد بأن على الكونغرس المصادقة عليها -كل ذلك مع الحفاظ على علاقة غالباً ما كانت ذات منفعة متبادلة مع بكين.
عندما تولى الرئيس أوباما منصبه، لم تكن الجهود المبذولة لحماية كوكبنا من الآثار الكارثية لتغير المناخ تسير إلى أي مكان، وكانت تعيقها عقود من الانقسام بين الدول المتقدمة والنامية. لكنّ تواصُلنا مع الصين أدى إلى سلسلة من الاختراقات التي جعلت من العام الماضي الأكثر نشاطاً وتواصلاً في تاريخ دبلوماسية المناخ. وبالبناء عليه، وليس التراجع عنه، سوف يسمح هذا التقدم بحدوث تحول تاريخي في اتجاه الطاقة النظيفة، وسوف يعرض فرصة لإنقاذ كوكب الأرض من أسوأ ويلات تغير المناخ.
كما يمكن النظر أيضاً إلى ثمار دبلوماسية هذه الإدارة في نصفنا من الكرة الأرضية، حيث عززنا مكانتنا عن طريق تطبيع العلاقات مع كوبا، وساعدنا في انهاء الحرب الأهلية التي استمرت عقوداً في كولومبيا. وفي أفريقيا، كسبنا الأصدقاء من خلال تدريب القيادات الشابة، وقدنا جهداً عالمياً ناجحاً لاحتواء فيروس إيبولا.
من الواضح أننا لم نحل كل مشكلة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط المصاب بقابلية الاشتعال المزمنة. ولكن موقف الولايات المتحدة كان مبرراً تماماً في التأكيد على ضرورة التوصل إلى حل قائم على مبدأ الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
كما أنني ما أزال مقتنعاً بأن الصيغة التي تابعناها لإنهاء الصراع المؤلم في سورية كانت، وما تزال، الوحيدة التي تمتلك فرصة واقعية لإنهاء الحرب -استخدام الدبلوماسية لحشد الدول الرئيسية معاً وراء تأسيس وقف لإطلاق النار على مستوى البلد، وتوفير الوصول للمساعدات الإنسانية، وتهميش الإرهابيين وتشجيع محادثات تقودها سورية حول خلق دستور وحكومة ديمقراطية.
سوف تتم مناقشة استجابة المجتمع الدولي للمأساة في سورية لوقت طويل قادم. وقد خاض مسؤولو الولايات المتحدة هذه المناقشات نفسها لسنوات في غرفة العمليات. بعض الخيارات، مثل النشر الهائل للقوات البرية (الأميركية)، لقيت الرفض المحقّ. وثمة أخرى شكلت دعوات أوثق، بما فيها نشر قوات خاصة إضافية في عمليات محدودة. شهراً بعد شهر، كنا نزِن تدهور الأوضاع والفوائد غير المؤكدة للتدخل في مقابل المخاطر الحقيقية للغاية، بما في ذلك التورط الأعمق في حرب تتسع. وفي حين أنني لم أفز بكل حجة وجدال –وما مِن صانع سياسة يفعل- فإنني أستطيع أن أشهد بأن كل الأفكار الصالحة تلقت استماعاً ومحاكمة عادلين.
أنا لست من دعاة المسالمة. لكنني تعلمت كشاب قاتل في فيتنام أنه قبل اللجوء إلى الحرب، يجب على أولئك الذين في مواقع المسؤولية أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتحقيق أهدافهم بوسائل أخرى.
لقد عدت لتوي من فيتنام، حيث تمكنت دبلوماسية ذكية ومستدامة من تحقيق ما لم يستطع إنجازه أبداً عقد من الحرب: تطوير مجتمع رأسمالي حركي، وفتح جامعة على الطراز الأميركي مع وعد بالحرية الأكاديمية، وربما تحقيق الأمر الذي كان أقل احتمالاً على الإطلاق: تعزيز العلاقات -ليس بين شعبينا فحسب، وإنما أيضاً بين جيشين نظرا إلى بعضهما البعض ذات مرة كأعداء.
استشرافاً للمستقبل، أملي هو أن لا يحجب الاضطراب الذي ما يزال حاضراً في العالم تلك المكاسب الاستثنائية التي حققتها الدبلوماسية بإشراف الرئيس أوباما، أو أن يؤدي هذا الاضطراب إلى التخلي عن الطرق والمناهج التي خدمت أمتنا جيداً.
إن الدبلوماسية تتطلب الإبداع والصبر والالتزام بالكفاح المستمر، بعيداً عن الأضواء في كثير من الأحيان. ونادراً ما تكون النتائج فورية أو يمكن اختزالها في 140 حرفاً. لكن الدبلوماسية ساعدت على بناء عالم كان أجدادنا ليحسدونا عليه -عالم أصبح فيه الأطفال في معظم الأماكن أكثر احتمالاً لأن يولدوا بصحة جيدة من أي وقت مضى، أو أن يتلقوا التعليم ويعيشوا أحراراً من الفقر المدقع.
سوف تواجه الإدارة الجديدة العديد من التحديات، كما فعلت كل إدارة قبلها. لكنها تستلم مهماتها هذا الأسبوع مسلحة بمزايا هائلة للتصدي لهذه التحديات. إن اقتصاد أميركا وجيشها هما الأقوى في العالم، وقد ساعدت الدبلوماسية في وضع الرياح في اتجاهنا وفي ظهورنا، وجعلت خصومنا على علم بعزمنا، وأصدقاءنا إلى جانبنا.
جون كيري
صحيفة الغد