كانت سورية تحديداً ذلك المدخل الذي أثّرت فيه تركيا في «الربيع العربي»، مثلها مثل إيران، مع أنها تأثّرت به أكثر من إيران، التي بدت، حتى الآن، عصيّة على التأثيرات الخارجية، بحكم صلابة نظامها السياسي، وطابعه الأيدلوجي، وديماغوجية شعاراته السياسية.
نستنتج من ذلك أن طبيعة النظام الديموقراطي والتعدّدي في تركيا هي التي تسمح أو تسهّل هذا التأثّر، بغض النظر عن رأينا بطبيعة ردود فعل النظام السياسي في تركيا على هذه التأثيرات، سلباً أو إيجاباً.
وفي مقارنة بين مكانتها قبل «الربيع العربي» وبعده، يمكننا ببساطة ملاحظة أن تركيا خسرت جزءاً مهماً من استثمارها السياسي لدى حكومات بل ومجتمعات العالم العربي، وذلك بسبب طبيعة تدخّلاتها في سورية، على رغم أن إيران تعتبر الخاسر الأكبر من ذلك، بحكم انكشاف طابعها الطائفي والمذهبي والأيدلوجي، ومحاباتها نظام الأسد، وحشدها الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية الموالية لها للدفاع عن هذا النظام بكل الوسائل.
ضمن ملاحظتنا لتأثيرات «الربيع العربي»، من المدخل السوري، على تركيا، لا نتحدث فقط عن التهديدات التي أضحت تمثلها العمليات الإرهابية «الداعشية»، التي باتت تضرب بعض مدنها، فقط، ولا توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية فحسب، بل إننا نقصد، أيضاً، عودة المسألة الكردية إلى البروز، بعد أن بدا أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم استطاع هضمها، أو استيعابها، أو تهدئتها؛ هذا أولاً.
ثانياً، نقصد من ذلك التوتر الحاصل بين الإسلاميين والعلمانيين من قوميين أو يساريين. وثالثاً، فإن ذلك يشمل الشروخ الحاصلة بين القوى التي تعمل من أجل ترسيخ النظام الديموقراطي البرلماني، من داخل الحزب الحاكم وخارجه، والقوى التي تريد التحول نحو النظام الرئاسي؛ على نحو ما نشهد في المناقشات والتجاذبات الحاصلة في الطبقة السياسية التركية.
وكانت تركيا بدت، منذ بداية حكم حزب العدالة والتنمية (2002)، بمثابة نموذج ملهم للمجتمعات العربية، باستقرار مجتمعها، وصعودها السياسي والاقتصادي، وبقوّتها الناعمة. فهي دولة ديموقراطية، برلمانية، وهي تتمتع باقتصاد قوي (دخل الفرد 13 ألف دولار سنوياً)، مع قدرة تصديرية عالية (114 مليار دولار 78 في المئة منها من السلع المصنعة)، ناهيك عن النهضة العمرانية الكبيرة التي تشهدها.
النموذج الذي قدمته تركيا، أيضاً، يتمثل في أن فيها حزباً إسلامياً يحكم في نظام علماني، وديموقراطي، بما يفيد بمصالحة الحركات الإسلامية مع العلمانية والديموقراطية، وهذا تطور مهم، وهو النموذج الذي اعتمدته، فيما بعد، الحركات الإسلامية في المغرب العربي، لا سيما في تونس.
وفوق هذين، أي الاقتصاد والسياسة، فإن تركيا، في ظل حزبها الحاكم، كانت انتهجت سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والنشاطات الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها، بفضل قوتها الناعمة، على خلاف الدولة الإقليمية الأخرى، أي إيران، التي انتهج نظامها السياسي، منذ قيامه أواخر السبعينات، طابعاً ايدلوجياً، وسياسة «تصدير الثورة»، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وإنشاء ميلشيات مسلحة موالية لها.
طبعاً لا علاقة مباشرة للطابع المذهبي في الانحياز للنموذج التركي، لأن المجتمعات العربية كانت، مثلاً، تحمّست للثورة الإيرانية لدى قيامها، وناصرت «حزب الله» كحزب مقاومة، منذ عقود، أي بغض النظر عن طابعهما المذهبي. لذا يمكن تفسير هذا الانحياز بتغيّر السياسة التركية لمصلحة العالم العربي، وبنجاح نموذج حزب «العدالة والتنمية» في الحكم، وبالشبهات التي تحوم حول دور إيران في الغزو الأميركي للعراق (2003)، ناهيك عن هيمنتها عليه، وإثارتها النزعة المذهبية فيه، وفي العالم العربي، وصولاً إلى دعمها المحموم لنظام الأسد، كما قدمنا.
لكن مشكلة تركيا تكمن في أنها لم تحافظ على سياستها تلك، فهي مع ثورات «الربيع العربي» تصرّفت كدولة ذات اجندة حزبية – دينية، مثلها مثل إيران، ما بدّد مكاسبها وزعزع مكانتها. هكذا لم تستطع تركيا، بعد «الربيـع العربي» الحفاظ على المكانة التي تحققت لها بفضل نموذجها الاقتصادي والسياسي والسلمي، إذ بات طابعها الأيدلوجي يظهر في تعاملاتها الخارجية، سواء في تعاطيها مع بعض الأنظمة العربية، أو في ممالأتها بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي، لا سيما في دعمها فـصائل عـسكريـة سوريـة من طابع معين، الأمر الذي أضعف، أيضاً، الثورة السـورية في معناها ومبناها.
وفي الحقيقة أخطأت تركيا بتدعيمها تياراً سياسياً معيّناً، في هذه الثورات، على حساب التيارات الأخرى، وبتعاملها بطريقة غير ديبلوماسية مع هذا النظام أو ذاك، وبتحالفاتها مع دول معينة على حساب أخرى.
لكن الخطأ الأكبر يتمثل ربما بتشجيعها تحول الثورة السورية ثـورة مسلحـة، بطريقة متسرّعة وغير مدروسة، وتسهيلها دخول مقاتلين أجانب إلى سورية، وتدعيمها الجماعات العسكرية المحسوبة على الإسلام السياسي المتطرف، فهذا كله أضر بثورة السوريين وبمجتمعهم، وأطال عمر النظام، وزعزع الاستقرار السياسي في تركيا ذاتها.
بغض النظر عن علاقات التأثّر والتأثير، سلباً أو أيجاباً، فإن تركيا ما زالت تبدي حيوية وقدرة فائقين على استيعاب أو تجاوز ما يحصل من أزمات أو توترات، لكن ذلك سيبقى أفضل في حال تخفّف نظامها من الانحيازات الأيدلوجية والسياسية وتعزيز علاقات المواطنة والديموقراطية، في الداخل، والاعتماد على القوة الناعمة في الخارج.
ماجد كيالي
صحيفة الحياة اللندنية