تتداخل الأحداث وتتراكم في وطننا العربي، وتُحاصر وتُدمر حلب ومدن أخرى، فالموصل وعدن وصنعاء وسرت وغيرها، ليست سوى نماذج لما قد يحدث غداً، في عواصم ومدن عربية عدة. في حين تتناقض المواقف، وخصوصاً عند المفكرين أو المثقفين العرب، والتي تصل إلى حد العمى الكامل، عن فهم طبيعة الأحداث، أو عن رفض فهم طبيعتها، وتصويرها بشكل خيالي، يتناسب مع مواقف وإيديولوجيات مسبقة، تُسقطها على الأحداث وليس العكس.
كلنا نعلم أن النظام البعثي في سوريا، لم يُطلق رصاصة على إسرائيل منذ عشرات السنين، ولم يُوجه سلاحه إلا إلى صدور شعبه، أو الشعب اللبناني أو الفلسطيني، ومخيمات الفلسطينيين داخل سورية حالياً، أو سابقاً في لبنان كما حدث في تل الزعتر وغيره، دليل واضح على ذلك.
كلنا نعلم أنه قبل انفجار الثورات العربية، نهاية عام 2010 من تونس، لم تكن هناك أي مؤامرة كونية، ولا حتى ميكروسكوبية، للإطاحة بالنظام الأسدي، والذي كان في أحسن حالاته، مع قطر والسعودية ومع تركيا أردوغان، والتي كانت فتحت حدودها وألغت التأشيرات للمواطنين السوريين، لم يكن هناك أي تنافر مع إسرائيل أو أمريكا، والتي كان نظام الأسد ينفذ كل ما تريده هذه الأخيرة.
كلنا نعلم ذلك، ما عدا مفكرونا الأشاوس، والذين لم يروا في الثورة السورية، التي تلت ثورات شعوب المنطقة، من تونس ومصر وليبيا واليمن، لا يرون إلا مؤامرات كونية على هذا النظام المُمانع الصامد في وجه الأعداء.
من ناحية أخرى كلنا نعلم، ما كانت تُعلنه إسرائيل وتُكنه لإيران وحزب الله، منذ حرب 2001 ثم 2006، ورغم ذلك لم يتوقع أحد أن لا تستعمل إسرائيل حدث تحويل حزب الله وإيران جهودهما في مواجهتها إلى الداخل السوري، والتي ابتلعت رجالاً وأسلحة، وعرت ظهرهما أمام إسرائيل، لتقوم بعملية مباغتة والانتقام لهزيمتها.
كلنا نعلم ذلك، ما عدا مفكرونا ومثقفونا «اليساريون» والليبراليون وأحزابنا «اليسارية» والقومية، الذين استمروا باتهام ثورة الشعب السوري السلمية، ثم المسلحة بالعمالة لاسرائيل وأمريكا. لماذا هذا التناقض الظاهر، بين دعم هؤلاء للثورة المصرية والتونسية ومعاداتهم للثورة السورية، وعدم توقفهم عند حراك الشعب البحراني؟.
لماذا تقوم منظمات فلسطينية عريقة، بالوقوف إلى جانب النظام السوري، وهو الذي دمر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بسوريا بعد ما فعله بلبنان. لماذا يُعلن الرئيس الفلسطيني حديثاً، رفضه للربيع العربي وثوراته، وكأننا كنا نعيش بنعيم مع النظام السوري أو المصري.
لفهم والإجابة على جزء من هذه التساؤلات، علينا أن نُعيد وضع الأمة العربية، على خريطة تاريخ العالم، وقراءة أحداثها، من منظار متغيرات منذ أكثر من أربعة عقود، والتي اجتاحت أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.
تميز الجزء الاول الأكبر من القرن العشرين، بظهور حركات تحرر وطنية، لطرد المستعمر من كل بقاع العالم تقريباً، ولم يبق عملياً إلا فلسطين تحت الاحتلال، تحررت الجزائر من الاستعمار الفرنسي عام 1962، وخرجت إسبانيا من الصحراء الغربية، ولم يبق إلا بعض الجيوب بالمغرب.
هذه الفترة تميزت عندنا، بظهور الفكر الناصري القومي وحزب البعث والحركات الشيوعية واليسارية، والتي اتخذت الحركات الفلسطينية في السبعينات نماذج منها قدوة لها. الفكر الطاغي لهذه الفترة، كان معاداة الاستعمار والصهيونية، ولم يتسم أبداً بأي طابع اجتماعي داخلي، فكل انقلاب عسكري أو ظهور حركة سياسية، كان يُعلن أن هدفها تحرير فلسطين ودحر الإمبريالية، بينما هي في الحقيقة، لم تدحر إسرائيل، ولم تهزم أحداً، ولكنها أسست لأنظمة ديكتاتورية عتيدة، ازدادت صبغتها الإجرامية العنيفة، ثم صبغتها المافياوية، مع تزايد سنوات استيلائها على الحكم، خصوصاً في غياب أي صوت معارض جدي، أو تهديد خارجي لوجودها.
هذا أيضاً كان الحال في أوروبا الشرقية، التابعة للإتحاد السوفييتي، كذلك أمريكا اللاتينية، مع حكم الجنرالات بالأرجنتين وتشيلي والبرازيل وغيرها، ونفس الشيء بأفريقيا. كانت كل مناطق العالم متناغمة نسبياً، خصوصاً زمن الحرب الباردة، والتي قسمت العالم إلى مُعاد أو حليف للاتحاد السوفييتي، الاستبداد الداخلي والانفراد بالسلطة، كان إذن سمة العصر، وكانت بلادنا جزءً منها.
ولكن هذا العالم تغير تماماً في نهاية القرن العشرين مع بدء مرحلة جديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهدم جدار برلين عام 1989 وانتهاء الحرب الباردة. تبع ذلك تغيير واسع في معظم أقطار ومناطق العالم. انهارت منظومة حلف وارسو الشيوعية، وخرجت كل دول الاتحاد السوفييتي من قبضته الحديدية، لتدخل إلى عالم الديمقراطية والحداثة، ولو بعد فترة من القومية والشوفينية.
الانتقال الديمقراطي لم يحدث بسلاسة وهدوء، وبدون خسائر في كل نواحي العالم، فانهيار النظام الاستبدادي السوفييتي، لم يتبعه، كما كان يتصور غورباتشوف، نظام ديمقراطي، مع الحفاظ على وحدة الدول المكونة لهذا الاتحاد، بل الانهيار التام والمرور بفترة طويلة نسبياً، من عدم الاستقرار والحروب الأهلية الكارثية، كما حدث مع تحلل يوغسلافيا.
انهيار النظام الذي جمد تناقضات المجتمع، طوال سبعين عاماً، لم ينتج عنه نظام سلمي ديمقراطي وحدوي فوراً، بل أخذت كل مكونات تلك المجتمعات تبحث عن التعبير عن هوياتها الخاصة، قومية كانت أو دينية أو لغوية، مع كُلفة عالية من مئات آلاف الضحايا والدمار والخراب، ولكن الانتقال للنموذج الديمقراطي انتصر في النهاية، في معظم هذه الدول، وإن بقي مُتعثراً بدول مثل روسيا البيضاء وكازاخستان وروسيا الاتحادية، التي ما زالت تُعاني، من استيلاء بقايا النظام السابق وفلوله، على السلطة بأسماء جديدة.
في أمريكا اللاتينية سقط الجنرالات، كأوراق الخريف، واسترجعت شعوب دول مثل البرازيل وتشيلي والأرجنتين، حقها بالحرية والنظام الديمقراطي، بينما جزء آخر ما زال يُعاني، إما من ديمقراطية ناقصة، كما في بوليفيا أو فنزويلا، حيث يتشبث النظام بالسلطة، حتى لو استدعى ذلك تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية، وأخرى قليلة مثل كوبا، والتي ما زالت قابعة تحت نظام ديكتاتوري شبه وراثي، ولكنه بدوره مضطر للسير نحو التعددية ولو بعد حين.
أما في إفريقيا، فقد انتقلت دول عديدة للنظام الديمقراطي (السينغال، ساحل العاج..الخ)، والنموذج الأكثر وضوحاً هو جنوب أفريقيا، وإنهاء نظام الفصل العنصري، فوراً بعد ثورات أوروبا الشرقية الديمقراطية.
أين نحن العرب من هذه التحولات العالمية التاريخية؟. الغالبية الساحقة من الدول العربية، والتي استطاعت دحر الاستعمار، سقطت تحت حكم أنظمة استبدادية، لم تستغل ثروات الأوطان، وإمكانيات شعوبها، لبناء دول حديثة، تلتحق بركب الحضارة، بل طورت أنظمة عصبيات عائلية او طبقية، مُعتمدة على تحالف أصحاب المصالح، واقتصاد مبني على الزبائنية.
تواكب ذلك مع تزايد سكاني واسع، ومع ظهور طبقة وسطى مُتعلمة شابة، ولو كانت صغيرة. هذه الطبقة الوسطى، لم تعد تقبل بالعلاقات الاجتماعية الموروثة، بالقبول الطوعي للبقاء ضحية للاستبداد الحاكم. التغييرات الاجتماعية في الثلاثين سنة الأخيرة، وظهور مفهوم العولمة، دفع باتجاه تبلور حراك شعبي شبابي، للمطالبة بالديمقراطية والحرية، وتُرجم ذلك باحتجاجات عديدة، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، داخل دول عربية عدة، حتى وصلنا إلى انفجار الربيع من تونس بأواخر 2010، والذي انتشر كالنار بالهشيم بدول المنطقة كلها، وكان التعبير الأوضح لتراكمات التهميش والظلم المستمرين.
لم تستطع الحركات القومية واليسارية والمفكرين بغالبيتهم، فهم ظهور هذه المرحلة الجديدة، والتي عنوانها المطالبة بإصلاحات سياسية والمشاركة بالسلطة، للالتحاق بركب الحركة التحررية، التي بدأت في أواخر القرن الماضي بكافة بقاع الأرض، وبقوا يتقوقعون في فكر وفلسفة المرحلة السابقة، والتي كان عنوانها، التحرر من الاستعمار ومواجهة الإمبريالية.
في نفس الوقت، لم تستطع الطبقة الوسطى، بفكرها الحديث الجديد، وهي التي أرادت الالتحاق بموجة التحرر لهذه المرحلة العالمية، الانتظار أكثر كي يظهر قادة أو مفكرون، حتى تبدأ حراكها، وهو ما أعطى هذه الصورة الغريبة نسبياً، من ثورات تنطلق بدون قيادات أو مفكرين، وهو الذي أدى إلى تعثر الأحزاب السياسية للمعارضة العربية، وعدم استطاعتها اللحاق بقيادة الحراك الجديد.
لم ترفع الجماهير في تونس، أو في ساحة التحرير بالقاهرة أو درعا أو صنعاء، او المنامة شعارات العداء لأمريكا، بل رفعت كلها شعارات الحرية والديمقراطية وإسقاط النظام، هذه المرحلة الجديدة لم يكن عنوانها الثورة على الحكومات والأنظمة التابعة لأمريكا، وإنما على الحكومات والأنظمة الديكتاتورية، وهو ما كان السمة المشتركة تقريباً لكل الأنظمة العربية، بكل اتجاهاتها الثورية الممانعة، أو التابعة للمعسكر الغربي.
إلا أن الحركات السياسية، وخصوصاً اليسارية والقومية، لم تستطع فهم ذلك، فقد وقفت مع الجماهير الثائرة، ضد الانظمة المصنفة قريبة من الغرب، ووقفت ضد نفس هذه الجماهير مع الأنظمة المُصنفة ممانعة ومقاومة. مع أن الجماهير كان تناقضها الأساسي مع الاستبداد والظلم، بينما النخب كان تناقضها الأساسي، مع الاستعمار والإمبريالية، المُعششة في أذهانهم.
نزار بدران
صحيفة القدس العربي