ظهر نظرة شاملة إلى المشهد السائد في الشرق الأوسط منطقة تتخبط الآن في صراعات وحروب وأزمات مستمرة. فدول كثيرة ضعيفة أو متعثرة تكافح لمواجهة الانقسامات الداخلية، والفساد والتطرف، أو الاستقطاب السياسي بين قوى إقليمية لا تستكين. كما تبرز تغييرات ديموغرافية إلى جانب تدمير المدن التاريخية وتفكك المجتمعات القديمة. هذا هو الشرق الأوسط الذي يشهد انتقالًا صعبًا بين نظامين، أحدهما كان خاضعاً لسيطرة قوى عظمى وآخر جديد تتولى مختلف القوى الإقليمية تحديده أكثر فأكثر. أما الأسئلة التي لا بدّ من طرحها الآن فهي: من سيرسم معالم نظام الشرق الأوسط المقبل، وكيف يمكن للاعبين الأصغر حجمًا الصمود خلال عملية الانتقال وضمان مستقبل أفضل؟
شكّلت نهاية الحرب العالمية الثانية بداية لنظام عالمي جديد أسست فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي نظامًا ثنائي القطب الذي دفع عجلة تطور ديناميكيات القوة في مختلف أنحاء العالم. ولقد أدّت المنافسة بينهما خلال الحرب الباردة في الشرق الأوسط إلى تحصين شبكة من الأنظمة الاستبدادية التي أصبحت لاحقًا محركات قادت التطور في مناطقها.
وقد شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي خلال العام 1989 نهاية النظام العالمي الثنائي القطب وأحدث تغييرات كبيرة في أنحاء العالم. وبدأت دول أوروبا الشرقية، بمساعدة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، عملية التحول إلى الديمقراطية التي وصلت إلى مرحلة متقدمة في غضون عقد. غير أن التغييرات الكبيرة في الشرق الأوسط استغرقت وقتًا أطول بكثير، ويعود ذلك إلى القيادة السيئة للقوة العظمى المتبقية، وإلى بروز قوى إقليمية في الوقت نفسه، وإلى تعقيدات المنطقة بحد ذاتها.
وخلال الأعوام الثمانية والعشرين التي تلت الحرب الباردة، عجزت الحكومات الأمريكية المتعاقبة عن الالتزام بسياسة متناسقة طويلة الأمد في الشرق الأوسط. وبعبارة أشمل، اعتمد “الجمهوريون”، خلال ولايتي الرئيسين جورج بوش الأب وجورج بوش الإبن، سياسة تدخلية اقترنت بمعتقدات واضحة للسياسة الخارجية، في حين صبّ “الديمقراطيون”، خلال عهديْ الرئيسين كلينتون وأوباما، تركيزهم داخلياً واختاروا الابتعاد نسبيًا من تطور الأحداث في الشرق الأوسط. وأفسحت إدارات “الحزب الديمقراطي” مجالًا واسعًا أمام العديد من القوى الإقليمية، بما فيها إيران وتركيا والسعودية لتبرز وتقود دفة التغيير. كما عادت روسيا مجددًا إلى الشرق الأوسط وأحدثت فرقًا. لكن السياسة التي ستعتمدها إدارة ترامب حيال المنطقة ليست واضحة، إلا أنه من المستبعد أن تتولى قيادة مباشرة وفورية ولن تتمكن من قلب المنحى السائد المتمثل بنمو قوى محلية وإقليمية.
القوى الإقليمية
برزت إيران كالقوة الإقليمية الأكثر نفوذًا في الشرق الأوسط والوحيدة التي تملك إستراتيجية واضحة تقوم بتنفيذها على أرض الواقع وبعزم مطلق. وهي تهيمن حاليًا على عمليات اتخاذ القرارات في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كما أقامت تحالفًا متينًا مع روسيا.
تمكنت تركيا في ظل “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، من محو عقود من النكد والركود وأصبحت قوة اقتصادية وسياسية كبيرة. غير أنها تشهد انقسامات على الصعيد الداخلي وتواجه تحديات هائلة على الصعيد الدولي. وفي حين أنه على المدى الطويل إما تبرز أو تندثر كقوة إقليمية، لكن ستبقى تركيا دائمًا بفضل موقعها الجيوإستراتيجي تضطلع بدور في تحديد مسار الأحداث، أقله على حدودها الجنوبية.
لطالما كانت إسرائيل لاعبًا رئيسيًا في الشرق الأوسط، ويزداد قلقها إزاء تنامي نفوذ إيران. فإسرائيل، بطبيعتها، ليست مراقبةً غير فعالة وستحشد كافة الوسائل السياسية والأمنية للحرص على أن تبقى متقدمة بخطوة على تغييرات القوى المتطورة.
اكتسبت السعودية مع دول الخليج دورًا مهمًا، لا سيما عبر الاستفادة من ثروتها وهويتها العربية وتبعيتها السنّية. وأصبح السعوديون يتصرفون بحزم وثقة أكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجيرة البحر الأحمر. وحاليًا، يواجهون تحديات اجتماعية-اقتصادية وسياسية كبيرة على الصعيد المحلي، بما في ذلك التطرف والاستياء من العائلة المالكة. كما يعانون انتكاسات إقليمية مهمة في وجه نفوذ إيران الساحق، بخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. مع ذلك، لا يزالون عازمين على الحدّ من هيمنة إيران والاضطلاع بدور أكبر في رسم معالم مستقبل الشرق الأوسط.
لطالما تمتعت مصر بحضور سياسي قوي في أوساط الدول العربية. لكن هشاشة وضعها الداخلي ونظام الحوكمة الضعيف فيها يجعلانها أكثر ضعفًا وعرضةً للنفوذ الخارجي والاستقطاب السياسي بين الدول المجاورة الأقوى. وبالفعل، كانت مصر إحدى أوائل ضحايا “الربيع العربي” ونظرًا إلى عمق مشاكلها الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية، من المستبعد أن تستعيد حسّها التوجيهي، ناهيك عن أهميتها في ديناميكيات القوة الإجمالية في الشرق الأوسط.
اللاعبون المحليون
ثمة العديد من اللاعبين المحليين الذين يتمتعون بنفوذ متزايد. ويشملون دولًا سيادية أصغر حجمًا، وكيانات شبه سيادية (على غرار “حكومة إقليم كردستان” في العراق) ولاعبين من غير الدول. ويضمّ اللاعبون من غير الدول الميليشيات التي تحظى بشرعية على الصعيد الاجتماعي والسياسي وحتى القانوني، على غرار الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إضافةً إلى اللاعبين الذين يعتبرهم المجتمع الدولي غير شرعيين ومناهضين للدولة، حيث أن العديد منهم ينتمون إلى شبكات إرهابية دولية مثل تنظيم “القاعدة”. كما يشكّل تنظيم “الدولة الإسلامية” نموذجًا فريدًا آخر برز باعتباره شبكة إرهابية مناهضة للدولة في العراق وسوريا وتطوّر في نهاية المطاف ليصبح كيانًا يتمتع بهيكلية مستقلة خاصة به للحوكمة.
وتجمع كل هؤلاء اللاعبين المحليين إلى حدّ كبير تحالفات مترابطة أو شراكات أو علاقات بالوكالة مع شركاء دوليين، لكن مع ذلك لا يزالون يتمتعون بأولوياتهم الخاصة ويحافظون على درجات متفاوتة من الاستقلالية.
الحدود قيد الانتقال
تمّ رسم حدود الشرق الأوسط ما بعد الاستعمار قبل قرن تقريبًا من الزمن، وبقيت ثابتة رغم حدوث تغييرات ملحوظة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها بالإضافة إلى تغييرات متعددة في الأنظمة ونزاعات وحروب مطوّلة في المنطقة. غير أن هذه الحدود لطالما كانت موضوع معارضة من جانب لاعبين محليين على غرار الأكراد الذي يتوقون منذ وقت طويل للحصول على سيادتهم. لكن خلال الفترة الانتقالية الحالية، لم تعد حدود الدول واضحة وغالبًا ما تخرقها أفعال مباشرة وغير مباشرة يقوم بها لاعبون دوليون وإقليميون ومحليون، حيث تعبرها الجيوش النظامية والميليشيات وحركات النزوح الجماعية إضافةً إلى الإرهابيين.
وفي الوقت الراهن، يصرّ كافة اللاعبين الدوليين والإقليميين تقريبًا على حماية الحدود الحالية؛ غير أنهم لا يقدمون أي اقتراحات حول كيفية حماية الشعبوب وتطبيق القانون والنظام داخل هذه الحدود. وفي منطقة متقلبة حيث يمسي التعايش بين المجتمعات صعبًا أكثر فأكثر، سيبقى فرض الحدود تحديًا أكبر. ويشكّل العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا أمثلة حية على ذلك.
هذا ولا يزال الشرق الأوسط يشهد تغيّرًا مستمرًا وسيبقى على هذه الحال لبعض الوقت. قد يمضي عقد آخر من الزمن أو أكثر قبل أن تشهد المنطقة توازنًا مستقرًا في القوى. في غضون ذلك، ستستمر النزاعات والمنافسات. وسيجد اللاعبون المحليون أنفسهم من دون شكّ بحاجة إلى الانخراط مع قوى إقليمية ودولية وفي بعض الأحيان إلى الاصطفاف معها. غير أنهم ليسوا في موقع يخوّلهم تغيير ميزان القوى وبالتالي يتعيّن عليهم تجنّب الانجرار إلى منافسات العمالقة ونزاعاتهم. بدلًا من ذلك، عليهم التخطيط ليصبحوا أكثر قوة في نهاية المرحلة الانتقالية عبر البقاء على الحياد نسبيًا بينما يستثمرون في الوقت نفسه في الحوكمة الرشيدة وسيادة القانون وإضفاء الطابع المؤسساتي والشمول.
دلاور علاء الدين
معهد واشنطن