لبنان… وبناء الثقة بالدولة

لبنان… وبناء الثقة بالدولة

منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يحاول الجنرال ميشال عون إعادة الثقة بالدولة والمؤسسات على المستويات كافة. يدرك أن مستقبل المسيحيين في لبنان، وهو الذي يمثّلهم في سدّة الرئاسة الأولى، يكمن في إرساء الاستقرار السياسي الأمني الاقتصادي الاجتماعي، وعلى المستويات كافة، يوقف حالة النزف الدائم للمسيحيين من لبنان، ومن الشرق عبر الهجرات الدائمة، فضلاً عن أن مصلحة أكثرية المكوّنات اللبنانية الأخرى (مسلمون سنّة، دروز، أكثرية شيعية..) أيضاً في إعادة بناء الدولة، وإعادة الثقة بمؤسساتها. ومن هنا، كان التحدّي الأساسي أمام رئيس الجمهورية في التركيز على إعادة دور المؤسسات، وتالياً إعادة ثقة المواطن بالدولة لضمان الاستقرار والاستمرار.
لا نتحدّث عن التطورات التي يشهدها الملف السياسي، ودوره في إجراءات بناء الثقة بهذه المؤسسات، على أهمية هذا الجانب والملف، وخصوصاً أن منه تتشكّل الركيزة الأساسية لأي استقرار أو استمرار أو استثمار، فالتحدّي في هذا الجانب قائم، والعمل جارٍ من أجل الاتفاق على قانون انتخاب جديد وعصري، يؤمّن التمثيل الصحيح والعادل للبنانيين، ويلبّي تطلعاتهم في المرحلة المقبلة، وإن كان التوصل إلى هذا القانون دونه العقبات والمصالح السياسية والحسابات الضيقة.
الأبرز والأهم هو في تحدّي إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، خصوصاً في الجانب الأمني. ورئيس الجمهورية، القادم من قيادة الجيش، يعتبر التحدّي الأمني الذي يعيد ثقة المواطن بمؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية لا يقلّ أهميةً وتأثيراً عن الجانب السياسي، بل ربما يتقدّم عليه، لأن الهاجس الأساسي الذي يسكن المواطن هو شعوره بالأمن على نفسه وماله وعرضه، ناهيك عن أن الشعور بالخوف والقلق والتردّي الأمني يدفع المواطنين إلى الهجرة، ورؤوس الأموال إلى الهرب.
خلال الأسبوعين الأخيرين، شهد لبنان تحدّياتٍ أمنية هزّت ما تولّد من ثقة بالدولة ومؤسساتها بعد انتخاب الرئيس عون. ففي وقتٍ يجهد فيه الرئيس لضخّ جرعة تفاؤل بالدولة ومؤسساتها المختلفة، اختطفت مجموعة مسلّحة، في وضح النهار، رجل أعمال لبناني مسيحي من مدينة زحلة البقاعية، وفرّت به إلى جرود مدينة بعلبك البقاعية أيضاً، ثم اعتصمت هناك، مهدّدة بقتله إذا لم يُصَر إلى دفع فدية مالية. وعلى الرغم من كل الإجراءات التي اتخذها الجيش وقوى الأمن، فإنها لم تفلح في إطلاق سراح المخطوف، ولم يتم توقيف “المجموعة الخاطفة”، ولا إنهاء الوضع الشاذ الذي يهدّد كل محافظة البقاع، حيث لا تعتبر هذه الحادثة الأولى، ولن تكون الأخيرة، بالنظر إلى المعالجة التي جرت. وحدها الوساطات التي قادها رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، عبر أحد الشخصيات القيادية معه من أبناء تلك المنطقة، أدّت إلى إطلاق سراح المخطوف، من دون توقيف “الإرهابيين”، بل يجري الحديث عن فديةٍ بلغت أربعين ألف دولار دُفعت لـ”الإرهابيين” جعلت الوساطة تنجح.
هنا، ظهر عجز الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية عن إطلاق سراح مخطوف. لم يعد شيء يقنع اللبناني أن هذه الدولة قادرةٌ على حمايته. تبخّرت، حتى الآن، كل جهود رئيس الجمهورية لإعادة الثقة بهذه المؤسسات. ظهر، مرّة أخرى، أن السلاح خارج كنف الدولة والشرعية أقوى من سلاح الدولة والشرعية. لاذ “الإرهابيون” بالمناطق التي تُعتبر محميّاتٍ طبيعية للسلاح “المشرعن” خارج إطار الدولة والقانون، والذي فقد قيمته، وفقد مبرّر وجوده، والثقة به. تبخّرت، مع هذه الحادثة، معظم الآمال على بناء دولةٍ قويةٍ قادرةٍ، سقفها القانون، وتحظى بثقة كل اللبنانيين.
وبالتزامن مع حادثة الخطف وما تلاها، تمكّن الأمن اللبناني من اكتشاف محاولة تفجير (انتحاري) في أحد المقاهي في شارع الحمرا في العاصمة بيروت. وشكّل الاكتشاف محاولة لإعادة ثقة المواطن بالأجهزة والدولة، إلّا أنّ الروايات المتضاربة، وعدم وجود روايةٍ رسميةٍ واحدةٍ واضحةٍ ومتماسكةٍ أعادت التشكيك، وبالتالي، لم يشكّل الاكتشاف خطوة في إجراءات بناء الثقة.
لبنان، ورئيس الجمهورية اليوم أمام هذه التحدّيات التي ليس سهلاً تجاوزها وبناء الثقة بالدولة في ظل مشاريع طموحة لقوى تعمل خارج الدولة، وخارج الإجماع الوطني، من أجل التمكين لمشاريع الهيمنة التي تحلّق في سماء المنطقة. والنجاح في مواجهة هذه التحديّات يحتاج إلى جرأة وحكمة وإصرار على كشف الذين يلوذون إلى بناء دويلتهم على حساب الدولة.

وائل نجم
صحيفة العربي الجديد