ذا كان الرئيس ترامب يفكر في الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، فمن المنطقي بالنسبة له أن يطبّق نفس الاختبار لهذه الفكرة، كما أوجزها في خطاب تنصيبه ألا وهي: كيف تؤثر على المصالح الأمريكية؟ أو كما يقال بالعامية، ما الذي تكتسبه الولايات المتحدة منها؟ والجواب مؤلف من ثلاثة جوانب.
يكمن الهدف الأول للولايات المتحدة من نقل السفارة إلى القدس في تصحيح الظلم التاريخي الذي وقع منذ قرابة السبعة عقود. فحين أقدم هاري ترومان على خطوته الشهيرة بالاعتراف بإسرائيل، بعد 11 دقيقة فقط من استقلالها في أيار/مايو 1948، لم يتعدَ ذلك الاعتراف كونه إقراراً بالأمر الواقع. ولم تعترف واشنطن شرعياً بإسرائيل إلا في كانون الثاني/يناير 1949 في خطوةٍ أكدت فيها الولايات المتحدة قبولها بالسيطرة الإسرائيلية على كامل الأراضي الخاضعة لها، بما فيها تلك الواقعة خارج حدود الدولة اليهودية المحددة في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، مع استثناء واحد هو الجزء الممتد على مساحة 38 كلم مربع من القدس والخاضع لسيطرة إسرائيل في نهاية حرب الاستقلال التي خاضتها [عام 1948]. بيد، لم تعترف واشنطن أبداً بأي بوصة من القدس كجزء مشروع من إسرائيل – ليس في فترة الـ 19 عاماً التي سيطرت خلالها على ما كان يسمى آنذاك بـ “القدس الغربية” وبالتأكيد ليس خلال ما يقرب من 50 عاماً من سيطرتها على باقي أجزاء المدينة، التي تم الاستيلاء عليها من الأردن خلال حرب حزيران/يونيو 1967. وقد أُلقي الضوء على هذه الحقيقة مؤخراً – وعلى نحو سخيف – خلال أيلول/سبتمبر الماضي حين قام المتحدث باسم البيت الأبيض بتعديل عبارة “القدس، إسرائيل” في النص المنشور من تأبين الرئيس أوباما في مأتم شمعون بيريز من خلال حذف كلمة “إسرائيل”.
إلا أن ذلك لم يمنع خمسة رؤساء أمريكيين من زيارة القدس وممارسة المهام الرسمية فيها. ومع ذلك، لم تمتلك واشنطن أي منشأة دبلوماسية في أي جزء من المدينة لتمثيل الولايات المتحدة لدى حكومة إسرائيل أو شعبها. ومن شأن نقل السفارة أن يصلح هذا الخطأ التاريخي.
لكن نقل السفارة لا يقتصر على كونه تصحيحاً للماضي، بل يعني أيضاً إعادة التوازن إلى السياسة الأمريكية إزاء الدبلوماسية المستقبلية بشأن المدينة. وفي حين لا يخفى على أحد غياب أي تمثيل رسمي للولايات المتحدة لدى إسرائيل في القدس، إلا أنه ثمة أمرٌ آخر ليس معلوماً بالقدر نفسه، وهو أن للولايات المتحدة مركز دبلوماسي في القدس يُعنى بتمثيل واشنطن لدى طرف آخر في الادعاء، وهو السلطة الفلسطينية. ووفقاً للموقع الرسمي للقنصلية العامة للولايات المتحدة في القدس منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، كان هذا المركز “بمثابة الممثل الفعلي للحكومة الأمريكية لدى السلطة الفلسطينية”.
ونتيجةً لذلك تفتقر واشنطن إلى أي وجود رسمي لها في عاصمة حليفها الديمقراطي الرئيسي في الشرق الأوسط، ولكنها تحتفظ بوجود دبلوماسي في عاصمة ذلك الحليف لكيان سياسي آخر يدّعي ملكيته للأرض داخل تلك المدينة. ولذلك من غير الصحيح القول إن السياسة الأمريكية حافظت على حيادٍ ثابت إزاء قضية القدس بحيث تتمكن من حماية مكانتها كـ”وسيط نزيه”. وقد يبدو ذلك غريباً، لكن السياسة الأمريكية الحقيقية تميل فعلياً نحو جانب واحد، وهو الفلسطينيين.
وقد جاء “قانون سفارة القدس لعام 1995” لمعالجة هذه المشكلة، إلا أن الرؤساء كلينتون وجورج دبليو بوش وأوباما تنازلوا باستمرار عن بنوده، قائلين إنه من وجهة نظرهم يتعدّى القانون على صلاحية السلطة التنفيذية في الشؤون الخارجية. ومن شأن نقل السفارة الأمريكية أن يصحح التصور الملموس لحالة اختلال التوازن ويعزز أفق واشنطن بالمساعدة في نهاية المطاف في التفاوض على اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين تكون كفيلة، كما اتفق الجانبان، بمعالجة مسألة الوضع الدائم لمدينة القدس وحدودها.
أما المنفعة الثالثة لمصالح الولايات المتحدة من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس فهي تحقيق هدف أوسع من أهداف السياسة الأمريكية، ألا وهو المساعدة في إصلاح أزمة الثقة التي وقعت مع حلفاء أمريكا، العرب أو الإسرائيليين على حد سواء، في الشرق الأوسط.
وبغض النظر عن الإرث الذي تركه أوباما والذي قد يكون مثيراً للإعجاب في كثير من القضايا، هناك شبه ارتياح يعم الشرق الأوسط بانتهاء ولايته ويشمل ذلك قادة الدول الحليفة لأمريكا، ذلك لأن العرب والإسرائيليين على السواء يعتبرون أن إدارة أوباما أعطت أهمية للتواصل مع أعداء أمريكا – وخصوصاً إيران – على حساب الولاء لحلفائها. ولذلك فإنّ فتح صفحة جديدة في الشرق الأوسط يتطلب من ترامب الالتزام بإعادة إرساء الثقة والعلاقة الحميمة بين واشنطن وشركائها في المنطقة، وهذه استراتيجية يمكنه مثلاً تسميتها “حلفاء أمريكا أولاً”. وفي هذا السياق، إذا اتخذ القرار بتنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فسيبيّن بذلك أن أمريكا تفي فعلاً بوعودها. ولا يجدر بالطبع توقّع ترحيب القادة العرب بخطوة نقل السفارة، ولكن إذا تم شرحها على أنها جزءٌ من إجراءات استراتيجية لإعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في المنطقة وأنها تستهدف “القدس الغربية” التي سيطرت عليها إسرائيل منذ تأسيسها، وإذا تم طرحها على أنها لا تؤثر على الوضع المتنازع عليه للأماكن المقدسة، فمن المرجح أنهم سيتفّهمون هذه المبادرة ولن يعارضوها بقوة.
هل هناك تكاليف محتملة قد تترتب عن نقل السفارة؟ بالتأكيد. فمن الواضح أن الرؤساء من كلا الحزبين الذين وعدوا بنقل السفارة ثم نكثوا بوعدهم كانوا مقتنعين بأن هذا العمل سيؤدي إلى إثارة سخط الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة وأنه سيؤجج العنف بين الفلسطينيين أنفسهم إلى درجة أن تكاليف هذا العمل تفوق منافعه. ولطالما استشهد معارضو الفكرة بهذه الحجة كما لو كانت حقيقة بديهية.
لكن هذا التحليل بطبيعة الحال ليس بديهياً – فهو يصدّق نذائر الشؤم التي يطلقها بعض قادة الشرق الأوسط بمعناها الظاهري، ويستند إلى ما يعتبر فعلياً نظرة متعالية على العرب والمسلمين كونها تفترض أنهم سيتجاوبون بلا تفكير إلى الدعوات المحرضة لارتكاب أعمال العنف، كما أنه لا يأخذ بعين الاعتبار التأثير المحتمل للدبلوماسية الأمريكية السلسة والمبتكرة، والصارمة في بعض الأحيان. والأهم من ذلك أن هذا التقييم لا يركّز إلا على التكاليف المحتملة لنقل السفارة ولا يركز بالقدر الكافي – أو ربما ليس على الإطلاق – على المنافع المحتملة.
عندما يتخذ ترامب القرار بنقل السفارة، عليه أن يجري تقييماً واضحاً يوازن ما بين المزايا والمخاطر. فمن الخطأ التركيز على التكاليف المحتملة فقط، مهما كانت حقيقية وكبيرة، عندما تكون المنافع المحتملة حقيقية ومهمة أيضاً.
معهد واشنطن