لم يكن غريباً على وجه الإطلاق أن تتأكد رؤية هايدغر، الحاملة لفكرة الإزدواجيـــة البـــشرية والتنــاقضية الإنسانية الصارخة عن القرن العشرين وما يليه، إذ يطرح أنه عصر يبدو كقصر شامخ في منظر كئيب يعاني سادته الأرق والقلق ويقاسي خدامه الجهل والفقر. فكيف للمجتمعات المتحضرة أن تجتاحها موجات عاتية من الظلم الإنساني والتوحش المادي والانحدار القيمي والابتذال المعنوي بحيث صارت الفروق والتباينات بين البشر تمثل أرقاماً فلكية تصعب معها إقامة نسبية بين الشعوب الدنيا المسحوقة وغيرها من الشعوب الراقية المترفة؟ وكيف اتسعت الفجوة بين الأغنياء والمعدمين؟ حتى صارت ضرباً من الخيال الذي لا يمكن تصديقه والاعتقاد فيه، بينما هو واقع العالم منذ القرن الماضي؟ وكيف أصبح الابتزاز هو المعيارية الخاصة بالتفوق والامتياز؟ وكيف ذابت الطبقة الوسطى، التي هي قوامة المجتمعات عموماً، في حلبة التصارع الرأسمالي؟ وكيف تصدرت خرائط الثروات كل الخرائـــط الجغـــرافيـــة والسياسية والعسكرية والثقافية كذلك؟
وانطلاقاً من بعض ذلك كانت صيحة كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، منددة بظرفيات الواقع الاقتصادي العالمي المتردي والباعث على الإحباط إزاء تلك التفاوتات المروعة بين شعوب تقتات وأخرى أتخمتها الثروة. فمن سراديب منتدى دافوس الاقتصادي العالمي حاولت لاغارد تحديد الإشكالية المعاصرة التي أصبحت تمثل بؤرة توتر في الاستراتيجيات الاقتصادية الكبرى، تلك المسماة بأزمة الطبقة الوسطى، مشيرة ومعتمدة على توضيح أبعاد هذه الأزمة ومكوناتها المنطوية على تراجع معدلات النمو وتناقص مساحات العدالة الاجتماعية أو غيابها وتلاشي معاني الشفافية والتجرد.
وفي المقابل كانت التصورات نحو الحلول متمثلة في مطالبة الكيان الدولي بإعادة توزيع الثروات بما يتوافق مع طابع العدالة الإنسانية ومناشدة صناع القرار الدوليين باتخاذ إجراءات صارمة للإصلاح المالي والهيكلي مع التحفظ على طبيعة المسار العولمي وضرورة البحث عن منحى جديد ينسف منظومة التأزمات الدولية ذات الآثار الوخيمة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي ويفك شيفرات اللامعقول في المعادلة الخطيرة والقائلة إن هناك نحو ثمانية بليونيريين فقط في العالم، إنما يملكون ثروات تعادل ما يملكه نحو 3.5 بليون من فقراء العالم.
وعلى ذلك ترى إلى ماذا تؤدي تلك الأوضاع اللاإنسانية؟ تؤدي إلى ثورات الجياع وضرب مكامن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي. الفقر كان وسيظل أفضل رعاة التطرف والعنف والإرهاب ضد الأنظمة والحكومات التي أهدرت آمال شعوبها وبددت رصيد الثقة. وإذا كان ذلك يمثل الوضعية الحقيقية لامتدادات شرائح الفقر عالمياً واحتكار قلة للثروة، فما هو الدور المحوري الذي تنهض به مؤسسة «أوكسفام» العالمية الساعية نحو مكافحة الفقر في العالم؟ وإلى أي مدى استطاعت أن تتصدى للجموح العولمي العابث بالفئات والطبقات بل بالمجتمعات في كليتها؟ وإذا كان عالمنا اليوم إنما يكتظ ببليونين من البشر الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، فهل يؤكد ذلك بالفعل وجود دور فاعل لمؤسسة «أوكسفام» أم أن دورها يقتصر على إشاعة أعداد الفقراء وتوصيف أحوالهم وبؤر تمركزهم جغرافياً واعتبارهم مصدراً للاستجداء الدولي؟
إن هناك الكثير من الحقائق الاقتصادية الخطرة في ذاتها والخطيرة في دلالاتها والتي لا بد أن نتفهم خلالها وضعية المارد الأميركي الذي يمثل أكبر مستدين في العالم، إذ بلغت ديونه نحو أربعة أضعاف ديون العالم الثالث وهو كذلك يعد أكبر مستهلك للمخدرات في الآن ذاته! فهل يعني ذلك أفول التيار العولمي بأفول صاحبه ومبدعه أم يعني ضرورة الاستمرارية القاتلة في إنعاش الاقتصاد الأميركي وإحيائه لتستمر المعادلة الكونية المغلوطة السامحة دائماً بامتصاص الأموال والدماء معاً؟
إن الشوط الطويل الذي قطعه إنسان القرن العشرين في تنازع حاد بين الاشتراكية والرأسمالية لم يدفع به إلى الوضع الأمثل سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً بل لم يعصمه أي منهما من مشكلاته وأزماته الحياتية.
والمعنى المباشر الذي يجدر استخلاصه إزاء الرؤيتين هو أن الماركسية قد أنتجت انهيار الاتحاد السوفياتي أما الرأسمالية فقد قادتنا نحو أزمة اقتصادية عالمية طاحنة انعكست ظلالها على المحيط الكوني فخلقت أشباحاً مستحدثة صاحبت الإنسان إلى مسيرة التعاسة والشقاء.
إن تفعيل صيحة «دافوس» باستحضار آليات تخترق الواقع وتغيره هو فعل إنساني رفيع لأنه لا ينشد سوى المساواة والعدالة والحقوق المستوجبة والرفعة الإنسانية التي لم تعد محل وقفة أو نظر.
محمد حسين أبو العلا
صحيفة الحياة اللندنية