يَعتبِر إيرج مسجدي، السفير الإيراني الجديد في بغداد، نفسه بأنه ما زال يخوض الحرب ذاتها منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، باستثناء وجود فارق بسيط الآن؛ هو أن بلاده نجحت في نقل المعارك إلى ساحات بعيدة عن حدودها في بلدان الأعداء، كما يسمّيها حسب رأيه، فالمعركة انتقلت من الأهواز إلى الفلوجة والموصل وحلب.
شارك في الحرب الطويلة مع العراق، ويواصل اليوم حربه مع رفاق السلاح الذين تجمعه بهم ذكريات تلك المعارك، فها هم في حزب الله والحشد الشعبي معا كأن شيئا لم يختلف، الفوارق بسيطة كما أسلفنا، فوارق شكلية لا تتجاوز تبديل التكتيكات والشركاء مع إزاحات جغرافية بسيطة.
سفير خارج ولاية ظريف
في الوقت الذي بات فيه الشيطان الأكبر شريكا له في العراق، لا بأس بأن يكون في سوريا روسيًا، مع أخذ بعض الاحتياطات، حيث المعارك والتحالفات باتت أكثر من شائكة، لأنها مرهونة بمصالح الشركاء الكبار وتبدّلها، فمع وصول دونالد ترامب الذي يحسب المسائل بمعدلات أسعار براميل النفط، وبروز خلافات المغانم مع الشريك الروسي، كان لا بد من تقديم الأوراق الثقيلة؛ فجاء تعيين مسجدي سفيرا في بغداد ضمن توافقات داخلية تستند إلى قوة الحرس الثوري (الباسدران) وخططه المستقبلية في العراق وسوريا.
وزارة الخارجية الإيرانية، وعلى رأسها الوزير محمد جواد ظريف، ومن خلفهما رئيس الجمهورية الإصلاحي روحاني لم تستطع أن تحقق مرادها بتعيين سفير من السلك الدبلوماسي في العراق، فأمر السفارات في العراق وسوريا ولبنان واليمن بيدي قاسم سليماني. فكان له ما أراد بدعم من مرشد الثورة خامنئي، إذ تم تعيين المقاتل القديم إيرج مسجدي سفيرا في العراق، في تسابق مكشوف مع لحظة دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، كنوع من الاستعداد لمرحلة جديدة من العلاقات مع الغرب، ستكون الحوارات الفعلية فيها مستندة إلى المكاسب على الأرض العراقية من خلال تأجيج الصراع أو تهدئته حسب المتطلبات المرحلية، وعلى وقع وتطورات برنامج الرئاسة الأميركية الجديدة المتعجلة في حصد النتائج.
الحاصل أن “فرمان” تعيين مسجدي قد صدر بعيدا عن دواوين محمد ظريف، والدال على ذلك أن مسجدي أجاب عندما سئل عن مدى صحة خبر تعيينه سفيرا في العراق قائلا لوكالة “نادي المراسلين” التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية “إن تعييني في منصب السفير الإيراني بالعاصمة العراقية بغداد صحيح، وقد تم اتخاذه وقد أُبلغَت الخارجية الإيرانية بذلك”. هذه اللغة الاستعلائية ليست بغريبة عن جنرال ظل يخوض الحروب على مدى الأربعين سنة الماضية، فالرجل لا يؤمن إلا بالتدرج الذي يربطه بسليماني ومن ثم الولي الفقيه، فكيف سيخضع لظريف وروحاني؟ “الحرس الثوري” يُغلّف تعامله بخصوصية فريدة بموضوع السفارة الإيرانية في بغداد، فهي بالنسبة إليه ذات أهمية استراتيجية، خصوصا في دولة تخضع بشكل كبير للنفوذ الإيراني، وما زالت بورصة الاحتمالات فيها مفتوحة، فلم يُحسم الأمر بعد، ما استدعى أن يكون السفراء جميعا الذين عينوا فيها من منتسبي “الحرس الثوري” منذ عام 2003.
ومسجدي هو القيادي الثالث في الحرس الثوري الذي يكلّفه النظام الإيراني بمهام السفير في بغداد، حيث أصبح حسن كاظمي أوّل سفير لإيران في بغداد بعد 2003، واستمر في منصبه قرابة سبع سنوات ليخلفه إلى الآن حسن دانائي فر. الدبلوماسية؛ هي مجرد وسيلة ناعمة يعبُر بها مسجدي إلى بغداد، فهو مُدجّج بقناعات راسخة لا تطمئن إلا لأيديولوجيا ترى أن مركز التشيع (الجمهورية الإسلامية) بات مستهدفا من الأطراف كافة، الإقليمية والدولية، والحليفة قبل العدوّة، ويرى مسجدي أن “الدفاع عن الحرمين الشريفين في العراق (مرقدي الحسين وعلي بن أبي طالب في كربلاء والنجف) من أساسيات عقائد الشيعة، لكنه لا يتورع عن القول إنه “عندما نرسل قوات الحرس الثوري إلى العراق وسوريا، فهو للدفاع عن الحدود الإيرانية أيضا”.
المعارك والتحالفات تصبح اليوم أكثر من شائكة، لأنها مرهونة بمصالح الشركاء الكبار وتبدلها، فمع وصول دونالد ترامب، وبروز خلافات المغانم مع الشريك الروسي، كان لا بد من تقديم الأوراق الثقيلة؛ فجاء تعيين مسجدي سفيرا في بغداد ضمن توافقات داخلية تستند إلى قوة الحرس الثوري
حارس المزارات فاتح الممرات
أميركا التي تركت العراق حديقة للإيرانيين عائدة اليوم بقيادة رئيس لا يرى إيران إلا بعيون إسرائيلية، فهو يريد قلب طاولة الاتفاق النووي الذي صنعه أوباما ليقتات به متفاخرا أمام أحفاده في سنيّ تقاعده.
كما أن الوضع في سوريا ليس ببعيد عن هذه الأجواء، فبعد كل ما بذلته إيران من تكاليف في الحرب السورية، جاءت روسيا في النهاية لتقطف الثمار، بعيدا عن حسابات الملالي، فقد دخل لافروف في آخر السباق بمنافسة مع الشريك الإيراني في سوريا، حيث صرّح هو الآخر بأنه لولا التدخل الروسي لسقط نظام الأسد منذ سنوات.
كان مسجدي قد ردّد عبارات مشابهة موغلة في التمنّن على الأسد ونصرالله، هذا بالرغم من أن مسجدي حارس للمزارات والمراقد، فقد جاء من خلف جبال زاغروس ليحمي قبر السيدة زينب، لكنه يسهب في الحديث عن الدور الإيراني بمنع سقوط بشار الأسد، محاججا بأنه لولا تدخل قوات فيلق القدس في اللحظات الأخيرة لسقط الأسد على أيدي المعارضة، وقال “بعد سيطرة المعارضة المسلحة السورية على أغلب المناطق في دمشق وريفها، أوشكت على السقوط بالكـامـل، تدخـلـنا في اللحظات الأخيرة وأنـقــذنـا دمـشق والرئـيس السوري بـشار الأسد من الـسقوط الحتمي في أيدي المـعارضة المسلحة”.
حراسة المزارات هي الذريعة الإيرانية الرثّة لتنفيذ مشروعاتها في المنطقة، لكن مسجدي لا يتورع عن الإفصاح بالحقيقة ليقول بعد معركة الفلوجة “الدفاع عن الحرمين الشريفين في العراق (مرقدي الحسين وعلي بن أبي طالب في كربلاء والنجف) من أساسيات عقائد الشيعة، وعندما نرسل قوات الحرس الثوري إلى العراق وسوريا، فهو لأجل الدفاع عن الحدود الإيرانية أيضا”.
رجل الاستخبارات مسجدي الذي كان قائدا للحرس الثوري هو من أقدم كوادره، ومن أول قياديي “فيلق القدس”، حيث كان يترأس مقر “رمضان” في قوات الحرس الإيراني. و”مقر رمضان” الذي تم إنشاؤه عام 1983 هو فرع العمليات الاستخبارية لقوات الحرس خارج إيران، ومختص بحرب العصابات والقتال في الشوارع.
المستشار الأول للقائد قاسم سليماني، لا يأتي إلى العراق للنّقاهة، كما أنه ليس بالجديد على دروبها، بل هو اليوم في سباق مع الوقت لفتح طريق إيراني يعبر من الموصل إلى الجزيرة وحلب حتى مرفأ اللاذقية، فتعيينه يأتي في سياق المساعي الإيرانية لتنفيذ مشروع استراتيجي يؤمّن ممرا بريا، وهو الطريق الذي باتت إيران على وشك تنفيذه، بحيث يخترق العراق في نقطة الحدود بين البلدين مرورا بشمال شرق سوريا، ليصل إيران بالبحر الأبيض المتوسط، الذي سيمنحها نفوذا كبيرا في المنطقة.
الحشد الشعبي
من مهمات مسجدي أيضا قيادة الحشد الشعبي غير المباشرة، التي ستتم من خلال رفاق السلاح القدماء. فمسجدي يُشرف أصلا على قيادة ميليشيات الحشد الشعبي، حيث يتلقى كل من هادي العامري وأبو مهدي المهندس (قياديين في الحشد) أوامره. فقد كان الرجلان على علاقة وثيقة مع مستشار قائد فيلق القدس منذ أن كانا يقاتلان في صفوف الحرس الثوري أثناء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات من القرن العشرين.
هو المعتدّ على الدوام بالتاريخ المشترك معهما، فهو الخبير في إدارة الميليشيات التابعة لإيران، فقد صرّح في وقت سابق أيضا بأنه “نتيجة للبطولات التي سطّرها المقاتلون خلال سنوات الحرب الـثماني مع العراق والتي قضى فيها 200 ألف إيراني نحبّهم، تتجلى اليوم في قدرة المجاهدين بالتصدي للعدو في باقي البلدان وبالتعاضد والتعاون مع باقي الفصائل الشعبية في العراق وسوريا بمن فيهم الفاطميون (الميليشيات الأفغانية)، والزينبيون (الميليشيات الباكستانية)، والحيدريون (الميليشيات العراقية التي تحارب في سوريا) ضمن إطار ائتلاف واحد لتشكيل قوة دولية كبيرة لمقارعة الأعداء التكفيريين”.
ومع أن المسؤولين، عادة، في الدول الشمولية لا يعبأون بالتكاليف، فالغايات والشعارات هي التي تبرّر الوسائل، مع الإسقاط الكامل للتكاليف كافة بما فيها البشرية، وهذا ما كان قد حصل في الحرب العراقية الإيرانية، إلا أن مسجدي يقول اليوم “إننا نخوض حربا خارج حدودنا وهي خطوة صحيحة، ومن أكبر الأخطاء العسكرية محاربة عدوك داخل حدودك الجغرافية”، طبعا؛ هو لا يحبّذ هذا التكتيك من أجل تخفيض التكاليف، بل يراه الأنسب للدفاع عن مصالح إيران القومية في الإقليم.
صناعة ملوك الطوائف
تقوم السياسة الخارجية للجمهورية الإيرانية على صيانة وتحقيق مصالحها الذاتية، المُتمثِّلة بحماية الجمهورية الإسلامية من التهديدات الخارجية، وتتبنى تارةً أشكالا هجومية وتارة أخرى براغماتية، من دون التخلّي، في كلتا الحالتين، عن الصبغة الطائفية، فبسبب عزلتها عن جيرانها منذ ثورة 1979، انتهجت إيران استراتيجية تقوم على نسج علاقات مع كيانات طائفية محلية لمساعدتها على تحقيق مصالحها الاستراتيجية، ولم تستطع أن تبني علاقات متوازنة مع دول الجوار.
وفي هذا الإطار، طوّر الحرس الثوري وحدة تُعرَف باسم لواء “فاطميون” الذي يتكوّن من 13 ألف مهاجر أفغاني مقيمين في إيران، وهم أساساً من إثنية الهزارة الشيعية وبعض السنّة الطاجيك، ويُعتبر المهاجرون الأفغان طبقة دنيا في إيران، وهم غالباً من الفقراء ومحدودي التعليم وفرص العمالة، معظمهم لديه وضعيات إقامة مؤقتة ويصعب عليه الحصول على أذونات إقامة قانونية، وهذا سهّل عمليات تجنيد العديد منهم للحرب، حيث يُمنح الأفغان رواتب شهرية، وأذونات عمل، أو وثائق إقامة، بعضهم تم تجنيده في السجن ومُنح العفو في مقابل الخدمة العسكرية، فيما أتت مجموعات أصغر من خارج إيران، بما في ذلك جاليات أفغانية في سوريا ومن أفغانستان نفسها، وثمة وحدة مماثلة تحمل الاسم لواء “زينبيون”، تضم بضعة آلاف شيعي من أصول باكستانية، غالبية هؤلاء تأتي من الشيعة الباكستانيين المقيمين في إيران، خاصة أولئك المرتبطين بجامعة المصطفى العالمية في قم.
على هذا النحو تصوغ إيران علاقاتها مع دول الجوار خصوصا تلك الغارقة في المشكلات الداخلية، وعندما تعيّن إيرج مسجدي سفيرا في بغداد فهو لن يحمل حقائبه ويسافر إلى هناك، لأنه أصلا، ومنذ عام 2014 مقيم في بغداد ويدير التشكيلات الطائفية المنخرطة في الصراع من أجل إحكام السيطرة والإمساك بزمام السلطة في العراق.
صحيفة العرب اللندنية