لكننا الآن نعيش حالة من الفوضى والصراعات الدموية تُظهر وكأن الأمل الذي نهض قبل ست سنوات قد تلاشى، وأن الثورات التي جرى توقُّع الكثير منها قد “فشلت”، ومن ثم أن ما جرى قد فتح على الفوضى والقتل والحروب الأهلية والصراعات الطائفية أكثر مما فتح على التغيير والتقدم. هذا ما استدعى الخطاب الذي يؤكد فشل الثورات، أو الخطاب الذي يقول، إن ما جرى مؤامرة، أو حتى الخطاب الذي يكيل آيات الندم على ما جرى.
هل كان ممكناً ألا تحدث الثورات؟
بالتأكيد لا، بالضبط لأن مجمل السياسات الاقتصادية التي بدأت مع “سياسة الانفتاح” قبل عقود، كان من المحتم أن تقود إلى ذلك، فقد أدت إلى نشوء فروق طبقية واسعة، وإلى بطالة عالية وإفقار شديد، وتهميش، إضافة إلى أن النظم التي اتبعتها كانت مستبدة، فقد عملت فئة رأسمالية على نهب المجتمع وتركيز الثروة بيدها، وأفقرت كتلة كبيرة من الشعب، وصلت إلى حالة من “العجز عن العيش”، الأمر الذي دفعها إلى التمرّد، بعد تراكم طويل لاحتقان عميق. هذا أمر موضوعي نتج عن تحكّم رأسمالية مافياوية بالاقتصاد والدولة، وفرض نهب المجتمع بعد خصخصة الاقتصاد. وهو أمرٌ لا يستطيع أحد القول إنه مفتعل أو “سابق لأوانه”، لأنه نتيجة انهيار في الوضع الاقتصادي، أوصل إلى حافة الموت جوعاً. وهو أمر أتى على الضد من رغبات النظم والنخب بالضرورة، و”في غفلةٍ” من أحزابٍ ربما يجري التوهم أن عليها أن تكون على رأس الثورة.
أدت الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008 إلى رفعٍ في أسعار السلع، وزيادةٍ في النهب، ما كسر حالة “حافة الهاوية” التي كانت تعيشها الشعوب منذ تعمّمت اللبرلة. وبهذا، باتت غير قادرة على العيش نتيجة البطالة المرتفعة والأجور المتدنية، وبالتالي، العجز عن الحصول على حالة الكفاف. تدفع هذه الوضعية الشعوب إلى الثورة بالضرورة. وبالتالي، كان حتمياً أن تنفجر الثورات، ولا يفيد لا الندب ولا التفسير التآمري، بل يجب فهم الأسباب التي فرضت هذا المسار الفوضوي والدموي، والذي أدى إلى تدخلات إقليمية وعالمية.
هل كان لها ألا تسير في المسار الذي سلكته؟
لا، بالضبط لأن الشعوب تستطيع أن تتمرَّد، لكنها لا تستطيع أن ترسم طريق الانتصار، ولا
كيفية تحقيق المطالب التي تطرحها. “وعيها الحسّي” هو الذي يدفعها إلى الثورة، وبالتالي تحديد “عدوها”، لكن الوعي الحسي لا يسمح بتحديد البديل الممكن عن الوضع القائم، ولا التكتيكات التي تسمح بإسقاط النظام، وهو الشعار الذي تلمسته الشعوب بحسّها العفوي، وأن عليها الاستيلاء على السلطة، لكي تحقق مطالبها. هي تثور، تتمرَّد، تندفع إلى الشارع، تريد إسقاط النظام. لكن، بلا رؤية ولا بديل ممكن، ولا آليات تنظيمية هي ضرورية للوصول إلى ذلك.
هنا، لا بد من القول، إن الثورة لكي تنتصر هي بحاجة إلى قوة منظمة، وواعية، ومناضلة، وكل هذه الصفات لم توجد لدى أيٍّ من الأحزاب القائمة، وخصوصاً الأحزاب اليسارية التي من المفترض أنها المعنية بالطبقات الشعبية وبالتغيير وكل بالثورة. ويوضح هذا الأمر جوهر إشكالية الثورات، حيث تمرّدت الشعوب بكل القوة والجرأة، لكن لم تجد القوة التي تعطيها الأفق والآليات والهدف. لهذا، غرقت في الفوضى، وخضعت لتجريبية صانعيها وبساطتهم، وسمحت للسلطة أن تناور لكي تلتفّ عليها، لكن كذلك سمحت لتدخلاتٍ متعددةٍ، كانت معنية بإجهاضها في وضع إقليمي وعالمي مهيئين للثورة.
بالتالي، وضع الثورات هو نتيجة عجز الأحزاب، هذه الأحزاب التي تندب عليها، أو تُصدر الأحكام القاطعة أنها ليست ثوراتٍ لأنها بلا قيادة ولا رؤية، متناسية أن هذا هو دورها الذي لم تقم به، وكانت تستخفّ به أصلاً، وهي تلهج بكلمة ثورة كلازمة، أو تريد الإصلاح و”التطور التدرجي”، أو حتى تدافع عن النظم التي كانت تصنع كل الظروف التي تفرض الثورة. ربما يكون ذلك التعبير عن حالة الاغتراب التي تعيشها، ويفسّر أنها تنشط خارج بنى الصراع الطبقي، على هامش الدولة. ولا شك في أن الثورات قد وضعت حجر الشاهد على قبر هذه الأحزاب كلها.
هل فشلت أو ستفشل؟
بالتأكيد لا. يمكن هنا تحديد أسباب هذا الرفض المشدد لهذا الحُكم، الذي ربما يبدو مغايراً
لمجمل ما يُكتب عن مصير الثورات، فأولاً لا بد أن نفهم أساس انفجار الثورات، والذي هو أساس استمرارها، حيث أن الانهيار الاقتصادي الذي طاول الشعوب هو الذي فجّر الثورات، وأفضى إلى كسر حاجز الخوف، ووضع الشعوب في حالةٍ من الحسم. بالضبط لأنها لم تعد تستطيع العيش كما كانت، أي في الوضع البئيس الذي وصلت إليه. وهذا يعني أن حراكها سوف يستمر، وأن انفجارها لم يعد حالةً عابرةً، بل وضعاً لا يمكن التراجع عنه، فليست المسألة احتجاجاً على أمر عابر، يمكن السكوت عنه حال فشل تحقيقه، بل هي مسألة الحياة ذاتها، حيث أن الوضع الذي بات يحكم هذه الشعوب هو وضع الموت أو الثورة. وهذه هي اللحظة التي تكسر حاجز الخوف والرهبة من النظم، أي حين يتساوى الموت والموت (هذا الموت الذي يتشكّل من الخوف من النظم).
وثانياً، أفضت الثورات التي حدثت، بالضرورة، إلى ضعف النظم، ومن ثم عدم قدرتها على البقاء كما كانت، والحكم بالطريقة التي كانت تحكم بها. حيث أن الصراع الطبقي الذي وصل إلى حدّ الانفجار الشعبي، يجعلها عاجزة عن الضبط والتحكّم بالوضع، كما كانت تفعل قبلئذ. ولا شك أن الثورات التي هي التعبير الأرقى للصراع الطبقي تنعكس على بنية النظم، بحيث يخترقها الصراع الطبقي، وتصبح فاقدةً التماسك الذي شكّلته عقوداً سابقة. وبهذا، تصبح عاجزة عن الحكم، مهما استخدمت من قوة وأظهرت من جبروت، لأن ذلك كله هو التعبير عن الضعف الكامن فيها، والإظهار للقوة التي هي التعبير عن الشعور بالعجز، والخوف من ثورات جديدة.
وثالثاً، وهو الأدهى، أن هذه النظم استمرت في السياسة الاقتصادية التي أفضت إلى نشوب الثورات، حيث اتبعت سياسات اقتصادية زادت من انهيار الوضع المعيشي للشعوب، سواء برفض رفع الأجور أو زيادة الضرائب، أو انهيار العملة الوطنية، أو خصخصة ما تبقى من مرافق حيوية، مثل الماء والكهرباء والتعليم والصحة والمواصلات. بمعنى أن حاجة النظم للنهب الأقصى تدفعها إلى نهب المجتمع بشكل أقسى. وبالتالي، توسيع الطبقات التي تنحدر إلى ما دون خط الفقر، وتدمّر الطبقات المفقرة. وهو يعني أن الشعوب لن تجد أمامها سوى الاستمرار بالثورة، فليس لديها ترف التراجع حتى وإنْ أرادت، بالضبط لأنها تُدفع الى الموت بالحتم. لهذا لن تجد من خيار أمامها سوى الثورة من جديد، وهكذا إلى أن تفرض التغيير الذي يحقق مطالبها.
ورابعها أن الوضع الاقتصادي العالمي ليس في حالٍ حسن، على العكس، هو في أسوأ حالاته، وهو يفرض الميل إلى النهب الشديد، ويدفع رأسماليات الأطراف إلى زيادة نهبها، وتوسيعه. فقد أصبح المال يهيمن على الرأسمال، أي باتت المضاربة والمديونية وكل الأشكال المالية هي المهيمنة، وهذه تفترض التراكم المتسارع. وبالتالي، تفرض النهب الأوسع في الأطراف، وحتى في المراكز. وهذا يجعل الرأسماليات المحلية ليس في وضع يسمح لها أن تكون مرنةً، بل يفرض عليها النهب المتسارع، وهذا ما يظهر في توحّش السياسات الاقتصادية التي تريد خصخصة كل شيء، ونهب كل شيء. لكن، سوف تفرض الأزمة التي تعاني منها الرأسمالية، والسياسات الاقتصادية المتبعة، والتي هي ضرورة حتمية لنمط الرأسمالية قائم، تفرض انفجار الثورات في بلدان عديدة في العالم، وليس الوضع العربي استثناءً، بل إنه الشكل النموذجي لطبيعة الرأسمالية النهّابة التي تحكم العالم. وهذا يعني بالنسبة لنا تخفيف الضغوط الخارجية وضعف النظم الداخلية التي لن تجد سنداً لها.
وخامسها، سوف يبقى الظرف الموضوعي كما كان لحظة انفجار الثورات. أكثر من ذلك سوف تزداد الأزمة المجتمعية نتيجة الميل إلى تعميق النهب، وهو الأساس الموضوعي لانفجار
الثورات واستمرار انفجارها. لكن الأهم هو العنصر الذي كان مفتقداً في الثورات، والذي سوف يتبلور في أثناء الصراع المحتدم بشدة. وأقصد “وعي الثورة” وأدوات تنظيمها. فإذا كانت المرحلة الأولى من الثورات قد فقدت قوتها الواعية والمنظِّمة، فإن التجربة التي استمرت ست سنوات من عدم القدرة على الانتصار قد أوجدت الوضعية التي تفضي الى امتلاك الشباب الذي خاض الثورة الوعي، وبلورة الرؤية والمطالب والأهداف، وكذلك التكتيك، التي كلها ضرورية لانتصارها، فالثورة هي المخاض الذي يُنتج البنى المطابقة لأهدافها، والأدوات التي تسمح بتحقيقها. فـ “التجربة تعلّم”، وقد أفضت سنوات الثورة وارتكاسها إلى تراكم في الخبرة والوعي، وشعور بضرورة التنظّم، سوف تفضي كلها إلى أن تتشكّل الثورة في بنية منظمة و”واعية”، وهي الحاجة التي تسمح بانتصارها بالضرورة.
لا تشير كل هذه العوامل إلى استمرار الثورات فقط، بل وإلى انتصارها كذلك، بغض النظر عن كل التكتيكات و”المؤامرات” والتدخلات التي يمكن أن تواجهها، فالاحتقان متصاعد، والحراك مستمر، وعودة الثورة مؤكدة. وفي الوقت نفسه، نجد أن ما ينقص الثورة يتبلور في داخلها. في المقابل، باتت النظم مضعضعة، ويخترقها الصراع الطبقي، والطبقة الرأسمالية المسيطرة مستمرة في النهب، وهي “عاجزة” عن وقفه، بعد أن بات ترابطها العالمي يفرض ذلك، والرأسمالية تعاني من أزمةٍ مستعصيةٍ، يمكن أن تنفجر في كل وقت. وكذلك تعود الصراعات العالمية، والتنافس للسيطرة وتقاسم العالم في وضع تعاني كلها من الأزمة، ومن خطر انفجارها.
إذن، بعد ست سنوات، لا يزال الوضع ثورياً، وحالات التململ، وأشكال الحراك تظهر من جديد، وربما نكون مع عودةٍ جديدةٍ للثورات في دورة ثانية، لأن النهب يتزايد بشكل لافت، في عالمٍ بات النهب عن طريق المضاربة والمديونية والمشتقات المالية وأسواق الأسهم هو ما يحكمه. بالتالي، ربما كانت السنوات الست مفيدةً لدرس واقع الثورات، وفهم مشكلاتها، من أجل التحضير لانتصارها. لهذا، بدل اليأس والقنوط، والانسحاب، يجب درس الوضع جيداً، وتحديد ما هو مطلوب لكي تنتصر. نحن في بداية مسار ثوري، سوف يفضي حتماً إلى التغيير، ويخضع زمنه لما يمكن أن يسرّع في تطوير الوعي وتحديد الرؤية والأهداف. العمل النظري ضرورة هنا من أجل ذلك، وهو أساس تسريع نضج بلورة البديل الذي يتشكّل في الثورة.
سلامة كيلة
صحيفة العربي الجديد