وفي ظل تحولات المشهد السياسي، ستسعى هذه الحكومة، في سباق مع الزمن، إلى تهويد المدينة، مستغلة الانقسام الفلسطيني، وعدم ارتقاء العرب والمسلمين في دعمهم السياسي والمالي للمقدسيين إلى مستوى التحدي الذي يعصف بالمدينة من جهة، فضلاً عن تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة قبل أيام، وتعهده بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى مدينة القدس، من جهة أخرى. هل يضرب ترامب بعرض الحائط كل الاعتبارات، وتنقل إدارته سفارة بلاده إلى القدس؟ قد يعزز هذا التوجه حالة التشرذم التي تعيشها المنطقة برمتها وفي المقدمة منهم الفلسطينيون بتلاوينهم السياسية المختلفة.
واعتبر معظم رؤساء أميركا القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ولا حق للفلسطينيين فيها، وحبذ
رؤساء آخرون، وخصوصاً بعد اتفاقات أوسلو، تأجيل تحديد مستقبل المدينة إلى مفاوضات الوضع النهائي التي تتضمن قضايا جوهرية إضافة إلى المستوطنات والحدود واللاجئين.
ويمكن تقسيم مواقف الولايات المتحدة من قضية القدس إلى عدة فترات منذ عام 1947، ففي 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المذكور، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، يوصي بجعل مدينة القدس كياناً منفصلاً خاضعاً لنظام دولي خاص، وأيدته الإدارة الأميركية، لكنها غيرت فيما بعد موقفها منه، وأصبحت تتبنى فكرة إنشاء مجلس عربي/ إسرائيلي مشترك، وتطالب، في الوقت نفسه، بتدويل الأماكن المقدسة فقط، وليست المدينة بالكامل. وفي يونيو/ حزيران 1967، وبعد أسبوع من وقف إطلاق النار، حدد الرئيس الأميركي، ليندون جونسون، مشروعاً بخصوص الموقف المشتعل في المنطقة، ويتبين منه أن الولايات المتحدة ترفض عودة إسرائيل إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو/ حزيران1967، فالمكاسب الإقليمية من جراء الحرب لا يمكن التخلي عنها. ولم ينته الأمر هنا، فقد أصدرت الأمم المتحدة القرارين 2253 و2254 في 14/ 7/ 1967 اللذين يطالبان إسرائيل بالتوقف عن أي إجراء يغيّر من وضع مدينة القدس، وإلغاء جميع ما قامت به من إجراءات، وامتنع سفير الولايات المتحدة في المنظمة عن التصويت عليهما.
مع مجيئه إلى رئاسة الولايات المتحدة في 1968، قدّم ريتشارد نيكسون مبادرة بدت أكثر تعاوناً مع الجانب العربي عن سابقه ليندون جونسون، فقد شملت تعديلاتٍ على ما يتعلق بقضية القدس، منها عدم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وعدم نقل السفارة الأميركية إليها. وبقيت الولايات المتحدة تعتبر القدس منطقةً محتلة خلال الفترة 1970-1971، حيث أكد ذلك جورج بوش الأب الذي كان سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة في 25/ 9/ 1971، ثم جاءت فترة الرئيس جيمي كارتر الذي نشط في إبرام اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. ولم يتمكّن الرئيس المصري في حينه، أنور السادات، من الوصول مع إسرائيل إلى حل بخصوص قضية القدس. وبصفة عامة، اتصفت إدارة كارتر بالثبات بشأن هذه القضية، وأكدت فصل القدس عن بقية الأراضي المحتلة، والتعامل معها على نحو منفصل وضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة لجميع السكان، وبغض النظر عن طوائفهم الدينية.
جاء الرئيس التالي، رونالد ريغان، أكثر تحيزاً لصالح إسرائيل، وأصدر عدة بيانات في مناسبات مختلفة، أكد فيها أن القدس عاصمة إسرائيل، وأنه يجب أن تبقى دائماً تحت السيادة الإسرائيلية، وأصر ريغان في خطابه في 5/ 9/ 1982 على معارضة إقامة الدولة
الفلسطينية، وقال: “لا دولة فلسطينية في الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة”. أما الرئيس اللاحق، جورج بوش الأب، فشهدت فترته خلافاتٍ في وجهات النظر بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كان سببها تشدد الأخيرة بخصوص القدس، ورغبة الإدارة الأميركية بإيجاد حل تفاوضي بخصوصها، لكن هذا لم يمنع الكونغرس من إصدار قرار في الأثناء، وتحديداً في 22/ 3/ 1990، ونص على بقاء القدس عاصمة موحدة لإسرائيل. وجمّد الرئيس بوش صرف ضمانات قروض للحكومة الإسرائيلية بقيمة 400 مليون دولار، وربط صرفها بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية المحتلة عام 1967. وقد انتقد هذه النقطة المرشح بيل كلينتون في حملته الانتخابية منافساً لبوش، كما تضمن برنامجه الانتخابي التأكيد على أن القدس هي العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل. ولدعم هذا التوجه، وافقت إدارته، فيما بعد، على نقل سفارة الولايات المتحدة في تل أبيب إلى القدس المحتلة، شرط ألا يكون ذلك قبل 1999، العام الذي كان سيفضي إلى إقامة دولة فلسطينية من خلال مفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وبحيث يرتبط ذلك بمفاوضات الوضع النهائي بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، والاتفاق على مستقبل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة.
وتمّ الحديث مراراً، في أثناء إدارة جورج بوش الابن، عن ضرورة نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، لكن ذلك لم ينفذ، بل تمّ الاهتمام بإرسال وفود أمنية إلى دفع فكرة تمكين شروط التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وتحسينها، جنباً إلى جنب مع خطاب أميركي، كان يؤكد أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. واللافت أن إدارة أوباما، تالياً، كانت الأكثر إصراراً على ضرورة تجميد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، وليس تفكيك المستوطنات باعتبارها معالم احتلالية، مقدمة لدفع المفاوضات بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، إلى الأمام، لكن إسرائيل أدارت ظهرها لتلك المطالبات الأميركية. وثمة اعتقاد كبير بأن السبب الرئيسي لامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، في نهاية عهد أوباما، وتمرير إصدار قرار من مجلس الأمن، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، يدين الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس، هو امتعاض إدارة اوباما من سياسة حكومة نتنياهو، خصوصاً إزاء النشاط الاستيطاني الذي كان عقبة جوهرية في فرض تسويةٍ، غير متوازنة أصلاً، مع الفلسطينيين، ترعاها الولايات المتحدة الأميركية.
ولم تُواجَه سياسة انحياز الإدارات الأميركية المتعاقبة لإسرائيل وتعنتها إزاء القضايا الجوهرية المفصلية، وفي مقدمتها قضية القدس، بردود عربية حقيقية، سواء من الدول العربية التي تربطها علاقات ومصالح مع الولايات المتحدة، أو من جامعة الدول العربية التي اكتفت، على الدوام، بإدانات وبيانات استنكار للسياسات الإسرائيلية التهويدية مدينة القدس، في وقت أسقطت الولايات المتحدة أكثر من مشروع قرار دولي يدين تلك السياسات.
وعلى الرغم من تضمين قرارات جامعة الدول العربية من 1967 إلى 1973 بنوداً مهمة حول القدس، إلا أن هناك تراجعاً واضحاً عن شعار التحرير إلى شعار إزالة آثار العدوان.
وتميزت الفترة التي تلت عام 1973 ببرود سياسي عربي، سواء في الجامعة أو كل دولة عربية على حدة، وتمّ التأكيد في الخطاب العربي الرسمي على إمكانية تحقيق السلام، في مقابل انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها الجزء الشرقي من المدينة، و بطلان كل الإجراءات الإسرائيلية في الجزء المذكور، وتكرّرت البنود الخاصة في القدس في مؤتمرات القمم العربية بين 1973 -2016 في البيانات الختامية، وأصبحت بمثابة جزء من خطاب روتيني من دون جدوى، ومن دون دعم مادي ومعنوي يرقى إلى حجم التحديات التي يواجهها المقدسيون، لمقاومة هجمة التهويد المنظمة التي تجتاح المدينة من جهاتها الأربع في ظل انحياز أميركي للسياسات والرؤى الإسرائيلية إزاء مستقبل القدس.