أثار ذبح 21 مصريا مسيحيا في ليبيا على يد تنظيم “داعش” تساؤلات حول أوضاع المسيحيين في هذا البلد الذي يشهد انتشارا للمليشيات المسلحة بأنواعها المختلفة منذ سقوط نظام القذافي في عام 2011. ورغم أن البعض عول على الثورة الليبية في تأسيس نموذج للتعايش المجتمعي يُحدث حالة من الإندماج بين مكونات المجتمع علي أساس هوية مشتركة تنفصل عن الإنتماءات الضيقة، ولكن سرعان ما إتضح أن التعويل علي مثل هذا السيناريو أمر غير واقعي.
فالدولة الليبية بعد سقوط نظام القذافي استدعت تعقيدات ومشكلات ممتدة، واجترت الثورة (وهو ما حدث في دول عربية أخرى) معها مخزونًا طائفيًّا هائلا يُعزز من الكراهية والتباينات المجتمعية، وباتت الانتماءات القبائلية والجهوية المحرك الجوهري للأحداث. بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهور الميليشيات الجهادية المسلحة شكل محفزًا آخر من محفزات الكراهية، لتدفع نحو (تطييف) المجتمع بشكل أعمق وامتداد التكفير ، لا سيما أن جزءًا لا يُستهان به من هجمات هذه الميليشيات كان يستهدف بالأساس الطائفة المسيحية داخل ليبيا.
الأوضاع المسيحية في ليبيا:
تتكوّن الخريطة المسيحية في ليبيا من تجمعات محلية تعدادها محدود بالنسبة للعدد الإجمالي للسكان. فوفقًا لتقديرات وردت بتقرير الحريات الدينية لعام 2013 الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، يبلغ عدد السكان في ليبيا نحو 6 ملايين، وحوالي 97% من إجمالي السكان مسلمون سنة، أما النسبة الباقية (3%) فهي تتوزع بين المسيحيين واليهود والهندوس والبهائيين والبوذيين والأحمديين.
وفي هذا السياق، تُشير منظمة (الأبواب المفتوحة Open Doors) في تقرير صادر لها في 2015 إلى أن عدد المسيحيين (من مواطني الدولة) في ليبيا يُقدر بـ35 ألف مسيحي. وخلال فترة ما قبل الثورة، كانت ليبيا تُعد سوقًا مهمة للعمالة الأجنبية، ومن ثم بات المكون الخارجي جزءًا هامًّا في التجمع المسيحي الليبي، فقد وصل عدد المسيحيين الأقباط (المصريين) -بحسب بعض التقديرات- إلى حوالي 300 ألف قبطي، بالإضافة إلى نحو 80 ألفًا من الروم الكاثوليك، وأعداد من المنتمين للطائفة الإنجيلية، وطائفة (العنصرة) التي تمثل جماعات مسيحية مسئولة عن إدارة المستشفيات ومراكز التعليم المفتوح وتقديم خدمات مجتمعية أخرى.
ويذهب الأساقفة في طرابلس ومصراتة وبنغازي -وفقًا لتقرير الحريات الدينية 2013- إلى وجود نحو 50 ألف مسيحي قبطي هم في الغالب من المصريين المقيمين في ليبيا، أما رجال الدين الكاثوليك، فإن تواجدهم الأساسي في المدن الليبية الكبرى؛ حيث يعملون بصورة رئيسية في المستشفيات ودور الأيتام ورعاية المسنين. كما يتولى كاهن في طرابلس وأسقف مقيم في تونس قيادة الطائفة الإنجيلية. وذلك فيما يتولى رئيسُ أساقفة الروم الأرثوذكس في طرابلس والكهنة في طرابلس وبنغازي الإشراف على ما يقرب من 80 كنيسة أرثوذكسية.
وبعيدًا عن هذه التقديرات، فالأمر المؤكد أن أعداد المسيحيين داخل ليبيا شهدت تراجعًا خلال السنوات الأخيرة، خاصةً مع رحيل العديد من الأجانب من ليبيا بعد تدهور الأوضاع؛ حيث شكلت هذه الأوضاع بيئة مواتية لتنامي العنف ضد المسيحيين؛ فالدولة تراجعت قدرتها على بسط نفوذها على الكثير من أراضيها، وذلك في ظل انتشار السلاح بصورة غير مسبوقة، ومن ثمَّ تعاظم دور الميليشيات المسلحة، وبدت الساحة متخمة بالكثير من الفاعلين الطامحين لتعظيم مصالحهم ونفوذهم على حساب الأطراف الأخرى. وكان الفاعل الجهادي هو الآخر له حضور كبير في فترة ما بعد الثورة، عبر تأسيس تنظيمات بعضها تابع لتنظيم القاعدة، والبعض الآخر تابع لتنظيم الدولة الإسلامية.
وكان من شأن هذه المتغيرات فرض مزيدٍ من الضغوط على المسيحيين داخل ليبيا، حتى إنها احتلت المرتبة الثالثة عشرة من إجمالي خمسين دولة في التقرير الصادر عن منظمة (الأبواب المفتوحة) لعام 2015 The World Watch List، والذي يرصد حالات الاضطهاد والمشكلات التي يتعرض لها المسيحيون في دول مختلفة. وكان من أهم مظاهر ذلك الاضطهاد: القتل بسبب الديانة، والتعذيب، والاختطاف، ومهاجمة دور العبادة المسيحية.
دلالات استهداف المسيحيين:
وبوجه عام، تنطوي عملية استهداف المسيحيين في ليبيا على عدد من الدلالات والتوظيفات من الجائز اختزالها فيما يلي:
أولا- الطائفية الحاكمة: فحالة الفوضى والهشاشة المؤسساتية التي عايشتها الدولة الليبية في مرحلة ما بعد القذافي، أدت إلى تزايد التهديدات الأمنية لكافة الطوائف المجتمعية، بيد أن هذا الأمر ارتبط أيضًا بحالة استهداف مقصودة للمسيحيين، وقد تكفلت الأحداث بإثبات هذه الفرضية، إذ إن النمط المعتاد في العمليات التي تمت ضد المسيحيين يدلل على أنها كانت لأسباب دينية بحتة، وتتجلى هذه الفرضية -على سبيل المثال- في الحادث الذي وقع في يناير الماضي، حينما قامت عناصر تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية باقتحام مجمع سكني (يضم مسلمين ومسيحيين مصريين) في مدينة سرت، ومن خلال فحص مستندات الهوية الخاصة بالمقيمين قام التنظيم باختطاف 13 مسيحيًّا قبطيًّا دون التعرض للمسلمين، فضلا عن الهجمات المتكررة على الكنائس، ومن أهمها تفجير الكنيسة القبطية في مدينة مصراتة في ديسمبر 2012 والذي نتج عنه مقتل مسيحيين اثنين. وهذه الأحداث تُدلل على نمط العنف الممنهج ضد المسيحيين.
ثانيًا- الفاعل الرئيسي: فاستقراء أحداث القتل والاختطاف التي وقعت في ليبيا خلال السنوات الماضية، يوضح أن الميليشيات الجهادية التكفيرية هي الفاعل الرئيسي في أغلب تلك الأحداث، فلا يزال الكثيرون يتذكرون قيام تنظيم أنصار الشريعة في فبراير 2014 بالإعلان عن مكافأةٍ لأي شخص مقيم بمدنية بنغازي يساعد في التخلص من المسيحيين الأقباط.
علاوةً على ذلك فقد كانت التنظيمات الإسلامية تعلن عن العمليات التي تقوم بها، ومنها -على سبيل المثال- إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في 12 يناير الماضي عن احتجازه 21 مسيحيًّا قبطيًّا، وقد قام التنظيم حينها بنشر صور المحتجزين. ومؤخرًا (12 فبراير 2015) أذاع التنظيم فيديو على مواقع إلكترونية تابعة له يظهر فيه 21 قبطيًّا وهم يرتدون ملابس الإعدام، فيما ظهر تسجيل فيديو لاحقا بعد ذلك يشير إلى أنه تم ذبحهم بالفعل. ناهيك عن الحالات الأخرى، مثل مقتل سبعة أقباط بالقرب من بنغازي في فبراير 2014، وقتل أسرة قبطية في مدينة سرت الليبية خلال شهر ديسمبر 2014. وبالرغم من عدم الكشف عن مرتكبي هذه الحالات، فإن الاتهامات متمحورة بشكل أساسي حول الميليشيات الإسلامية، لا سيما مع تشابه معطيات هذه الحالات مع الحالات الأخرى التي تم الإعلان عن مرتكبيها.
ثالثًا- التوزيع الجغرافي: فالنسبة الأغلب من العمليات الموجهة ضد المسيحيين في ليبيا تمركزت في مناطق وسط وشرق ليبيا، وهذا يرجع إلى عدة عوامل، أهمها: تنامي الفوضى الأمنية بالمنطقة، وانتشار السلاح، وتزايد نفوذ التنظيمات الإسلامية المسلحة داخل هذه المنطقة، ورغبة هذه التنظيمات في فرض نمط تدين محدد على الأماكن الخاضعة لسيطرتها، وتعد مدينة سرت من النماذج الرئيسية المطروحة في هذا السياق، حيث تراجعت سيطرة الدولة على عدد من المباني الحكومية، وتمكن تنظيم الدولة الإسلامية خلال الفترة الأخيرة من السيطرة على محطات إذاعية وتلفزيونية بالمدينة استخدمها في إذاعة خطبٍ لأبي بكر البغدادي (زعيم تنظيم الدولة الإسلامية)، وارتبطت هذه التطورات بمساعٍ لفرض أنظمة مجتمعية معينة تتماشى مع الرؤى الدينية لعناصر التنظيمات الإسلامية.
رابعًا- التوظيف الدعائي: وهو النمط الذي يستند إليه تنظيم الدولة الإسلامية منذ ظهوره في سوريا والعراق؛ حيث إن التنظيم يوظف العمليات التي يقوم بها في التكريس لصورته الذهنية كتنظيم عنيف، وهذا النمط تم استدعاؤه في تعاطي تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا مع المسيحيين. وعطفًا على هذا، نشر التنظيم يوم (12 فبراير) الجاري في مجلته الرسمية الناطقة بالإنجليزية “دابق” -التي تداولها أنصار التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي- تقريرًا بعنوان “انتقام للمسلمات اللواتي اضطهدهن الأقباط الصليبيون في مصر”، ويتضمن التقرير صورًا لـ21 قبطيًّا مختطفًا وهم يرتدون ملابس الإعدام، كما ربط هذا التقرير بين اختطاف الأقباط والأزمات داخل مصر على غرار أزمة كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين. إحدى الإشكاليات التي تدلل عليها مثل هذه الدعاية أنها تؤطر لرؤية أيديولوجية وطائفية للمجتمع، وتضع المسيحيين داخل ليبيا في موضع العدو غير المرغوب فيه.
خامسا- التوظيف السياسي، حيث إن ثمة ربطا بين الهجمات على المسيحيين المصريين في ليبيا، والدور المصري خاصة في مواجهة الجماعات الإرهابية سواء في سيناء أو شرق ليبيا، بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر في 30 يونيو.
يظل أن الطائفة المسيحية في ليبيا تعاني انتهاكات عديدة بعد سقوط نظام القذافي، لاسيما إثر انتشار تنظيمات جهادية بعد الثورة تكفر الاخر، ولا تتورع عن قتله بدم بارد تحقيقا لتفسيرات إيديولوجية لا تمت للإنسانية بصلة.
المصادر:
1) Open doors, “2015 World Watch List”,
2) Usa department of state, “International Religious Freedom Report for 2013”,
http://www.state.gov/documents/organization/222515.pdf
3) Raymond Ibrahim, “Christians are a Litmus Test of Libya’s Decline”, middle east forum, January 12, 2015,
http://www.meforum.org/4972/christians-are-a-litmus-test-of-libya-decline
4) Fredrick Nzwili, “Christians in Libya cast anxious eye at religious freedom”, washigton post, January 10, 2014,
http://www.washingtonpost.com/national/religion/christians-in-libya-cast-anxious-eye-at-religious-freedom/2014/01/10/eda2c72c-7a26-11e3-a647-a19deaf575b3_story.html –/////>
5) الجزيرة نت، “تنظيم الدولة ينشر صورًا لمصريين أقباط مختطفين بليبيا”، 13/2/2015،
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/2/12/تنظيم-الدولة-ينشر-صورا-لمصريين-أقباط-مختطفين-بليبيا
6) صحيفة الحياة اللندنية، “مبانٍ حكومية في سرت في قبضة مسلحين”، 15/2/2015.
محمد بسيوني عبد الحليم
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية