ونحن نسافر في النظرية الأدبية/الروائية، ونسعى لتمثَل مفاهيمها، ومنطق اشتغالها، نلتقي بتعبيرات تكاد تكون بليغة في اختصار المفهوم، أو توضيح مسار تشكل ظاهرة أدبية أو إنتاج مقولات وتعبيرات أكثر بلاغة، يختصر بها المنظرون مسار الوعي بالجنس الأدبي،مثل التعبيرات التي رافقت علاقتنا بالنظرية الروائية « الإيهام بواقعية ما يحكى»، « ليس هناك نص بكر»، « موت المؤلف»، وما شابه.
غير أن الملاحظ، أن بلاغة هذه الجمل، وقدرتها على الإيضاح، وتدليل إكراهات الفهم، لا يجعلها مُلزمة للوعي التام والنهائي، كما أن معناها أو الوعي بمحتواها المعرفي، ومقصديتها التنظيرية تحتاج إلى مرافقة تجلَيها، من خلال تطور حالة الكتابة، وتاريخية تشكلها، وعملية التحول التي يعرفها الأدب، وهو ينتقل من حالة إلى أخرى.
فالمعنى النظري، أو الوعي المعرفي بالمفهوم، يظل يتشكل تاريخيا، عبر التطور الذي يرافق فعل الكتابة الأدبية داخل الجنس الأدبي.
كما تنتقل هذه المقولات – بدورها- إلى موضوع للفهم، والأدب إلى وسيط للإدراك.
يُنتج هذا التفاعل بين الأدب ومقولات تنظيره،حالة ثقافية تجعل التفكير المعرفي دائم التحول.
ولهذا، يعرف الأدب بكل تعبيراته الأجناسية انتقالات في تحديده، وتحولات في مفهومه، دون أن يؤثر ذلك في جوهر منطقه، والذي يُؤصَل لأدبيته.
كما أن السياقات الإنتاجية للأدب بشكل عام، والتي تتسم بالاختلاف والتنوع المجتمعي والحضاري، تساهم – من جهة- في إضاءة هذه التعبيرات، ومن جهة ثانية، تعمل على توسيع دائرتها، ومنحها أفقا جديدا.
التحول صفة الأدب، ومنطق التاريخ، وجوهر حياة المجتمعات، ولذا، فإن توصيف هذه الصفة يظل مرتبطا بمرافقة تحولات الكتابة الأدبية.
عندما كتب الروائي العربي الرواية في بداية الأمر، كتبها بوعي حالته الثقافية السياقية التي تجعله ينتج حالة أجناسية جديدة مقارنة بما ترسخ في ذاكرته الثقافية من وعي بنظرية الأجناس. ولذلك، فقد عاش الروائي العربي زمن التكون الأجناسي الروائي حالة تاريخية، عكست رغبته في إنجاز الجديد، في عالم الأشكال التعبيرية، بالرهان على نموذج الرواية الأوربية، كما تم تأصيلها في تربة المجتمع البورجوازي الغربي، والانشداد إلى وعي ذاكرته الثقافية، والذي مكَنه من إنتاج فهم خاص لجنس الرواية .
ولهذا، فقد كان المبدع العربي يخوض تجربة الشكل الروائي، بأفق تحقيق نفس النموذج الغربي، وفي ذات الوقت كان فعل الإنتاج العربي للشكل الروائي، يتم وفق المُقارن مع الذاكرة السردية العربية، ونعني بذلك المقامة، والسير الشعبية، والرحلات والخطب، والحكايات التاريخية وغير ذلك من الأشكال السردية العربية التي كانت تفعل بشكل ضمني في عملية الإدراك والإنتاج الروائيين عند الروائي العربي.
هذا ما يجعل مختلف التعبيرات التنظيرية، توجد – باستمرار- في حالة التكوَن، نظرا لكون دلالتها مرتبطة بحالة الأدب المتحولة، وغير المستقرة على نظام واحد، كما تغتني هذه المقولات، بجديد الممارسة الأدبية في سياقات مختلفة.
» ليس هناك نص بكر»، يشكل هذا التصريح النقدي للناقد الروسي «ميخائيل باختين» بعض أهم مفاتيح إدراك الجنس الروائي. ولعلها من بين التعبيرات التي اختصرت زمن تشكل الرواية، باعتمادها إحالة مرجعية إما تاريخية، تجعل الرواية حالة استمرارية لنصوص سابقة تعرف التحول، أو نصوص لاحقة تجعل الرواية جنسا غير مغلق، إنما مفتوح على المحتمل والممكن والقادم.
سمح هذا التعبير النقدي الباختيني بالنظر إلى الرواية باعتبارها قادمة من تاريخ الأشكال والنصوص، ومتجهة نحو الأشكال والنصوص المستقبلية، وفي هذا إعلان ضمني، يجعل الرواية دائمة التشكل، ولا تتحقق إلا من خلال هذا الأفق المفتوح على الماضي والمستقبل. تظهر بين فترة وأخرى روايات، تُجدد النقاش في المعرفة الروائية، على اعتبار أن الجنس الروائي حاضن بامتياز لنظريته الأدبية.
نلتقي في هذا الصدد برواية الكاتب العراقي» رسول محمد رسول» المعنونة ب « يحدث في بغداد» ( 2014)(1) ، والتي تثير قضية الكتابة الروائية من داخل التخييل الروائي.
تبدو الأجواء المُعلنة للرواية، حكيا عن بغداد التي تهزها الانفجارات، ويؤرق ليلها السيارات المفخخة، ويجعلها زمن العتبة، زمن الانتظار الذي طال، فضاء مرتبكا، وممزقا، تُجسَده طبيعة التواصل الاجتماعي اللامباشر بين أفراد المجتمع البغدادي، من خلال هيمنة التواصل عبر وسيط الهاتف، مع غلبة تسريد كلام المتكلمين، غير أن هذه الأجواء سرعان ما تبدأ في التلاشي سرديا، أو تتراجع أمام سؤال الكتابة الروائية، وتحويل النص التخييلي» يحدث في بغداد» إلى محطة للتفكير في الرواية كتابة ونقدا/قراءة.
ولهذا، فقد انعكس هذا الأفق التنظيري التخييلي على مستوى طبيعة السارد /سعيد، الذي جاء بصفته ناقدا للرواية ، ثم على مستوى اللغة النقدية التي أصبحت لغة سردية، تقدم الحدث الروائي، وتصف شخصياته.
شكل المستويان معا، السارد /الناقد ولغته عنصر انزياح عن موضوع أجواء بغداد، والانشغال بقضايا الكتابة والقراءة.
« ينحني الصابر للوجع» عنوان مخطوط رواية تركها الكاتب الروائي « مرهون الشاكر» بعد وفاته، يتوصل صديقه سعيد الدهان، سارد « يحدث في بغداد» بأوراق الرواية، من أجل نشرها، غير أنه يكتشف نقصانها، وافتقادها لفصلين اثنين.
يتحول نقصان مخطوط» ينحني الصابر للوجع» إلى موضوع رواية « يحدث في بغداد».
يُحول سعيد رواية صديقه الراحل» مرهون» إلى موضوع للبحث، وقضية رأي عام، تنخرط فيها وزارة الثقافة، واتحاد الكتاب والأدباء، والصحافة والإعلام، ويتهم السارد سعيد زوجة مرهون «نهى» بسرقة الفصلين.
ينشغل السرد بالفصلين المفقودين من خلال صيغتين اثنتين: صيغة التحقيق القضائي والذي يعتمد القانون والشاهد، وصيغة المعرفة النقدية التي يمارسها السارد سعيد وزوجته مريم، من خلال تحليل مقاطع من فصول رواية « مرهون»، ومحاولة إيجاد العلاقة الممكنة بين رشيد الشخصية النصية في مخطوط الرواية، وزوجته «سهى» وبين مؤلف الرواية « مرهون» وزوجته الثانية « نهى»، من أجل تفسير سبب سرقة نهى للفصلين.
ينمو الفعل الروائي في « يحدث في بغداد» تبعا لاشتغال صيغتي البحث.
شيئا فشيئا، تتراجع صيغة التحقيق، بخروج نهى من الحياة، بعد عمليتها الانتحارية التي تأتي لتُكسَر مسار هذه الشخصية في الواقع، وتُلقي بغموضها على الشخصية الروائية في مخطوط « مرهون»، لينتصر السرد في « يحدث في بغداد» لصيغة المعرفة النقدية باعتبارها من أكثر الإمكانيات لتحليل الرواية-المخطوط، والتعرف على دلالة العنوان» ينحني الصابر للوجع»، وعلاقته بسياقه الشعري.
تُحوَل « يحدث في بغداد» الرواية إلى مساحة تخييلية للتفكير في مرجعيات الرواية كتابة وقراءة، من خلال مفهوم التناص، من جهة، عبر تحويل التناص من تقنية سردية روائية، إلى موضوع للتفكير داخل الرواية، في محاولة لإنتاج إدراك معرفي بالعلاقة بين الممارسة الروائية ومرجعياتها النصية( عنوان المخطوط)، ومن جهة ثانية من خلال العلاقة التناصية بين التخييلي» ينحني الصابر للوجع»، والواقعي-المُفترض» يحدث في بغداد».
تُحقق رواية « رسول محمد رسول» تجليا تناصيا، يُعيد مفاهيم عديدة للتأمل المعرفي، من خلال الأسئلة التالية: كيف يمكن تجديد الوعي بالعلاقة الممكنة بين التخييلي والواقعي في الكتابة الرواية؟، وإلى أي حد يمكن الحديث عن تعدد الذوات الكاتبة للنص الواحد؟، وكيف يتحول التخييل مرجعا للكتابة؟ هل وضعية الكتابة في رواية» يحدث في بغداد»، والتي تنشغل بصيغ القول السردي، تُعبر عن العلاقة الجدلية بين الرواية والمجتمع المتحول؟ وهل بغداد-العتبة، وزمن انتظار الاستقرار الآمن للإنسان والحياة والحضارة، يفترض كتابة مُشاكسة، تُعيد النظر في كل المقولات السابقة؟. تلك بعض الأسئلة التي تنتجها العلاقة التناصية بين « يحدث في بغداد» و « ينحني الصابر للوجع».
كاتبة مغربية
زهور كرام
القدس العربي