يكتسب كتاب “القيصر الجديد” لستيفين لي ماير أهمية خاصة في وقت يثير فيه اسم روسيا لغطا كبيرا لم يسبق له مثيل في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية والعالمية.
ويتناول ماير المراسل الدبلوماسي السابق لصحيفة نيويورك تايمز في واشنطن وموسكو والمتخصص في الشؤون الروسية ومنطقة أوراسيا، في كتابه قصة صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسدة الحكم ورؤيته لمكانة ودور روسيا في العصر الحديث.
وقد حصد الكتاب عددا كبيرا من الإشادات لكشفه عن مكامن شخصية بوتين وتطور أفكاره السياسية، ويصف الناشر الكتاب بأنه وثيقة تتسم بالبحث العميق في أغوار قائد عالمي يعتبر الأخطر على السلم والاستقرار في العالم، بينما أجمعت عدة صحف أميركية على أن الكتاب يعتبر وثيقة يجب أن يطلع عليها كل سياسي أميركي.
وبحسب الكتاب فإن بوتين افتقد منذ الصغر مهارات العمل مع الفريق، إلا أنه كان يحمل روحا قيادية وطموحا ليس له حدود، ويخلص إلى أن وجود لحظتين حاسمتين في حياة الرئيس الروسي الأولى مشاهدته للمسلسل السوفيتي “السيف والدرع” عام ١٩٦٨ عندما كان عمره ١٦ عاما فقط. أما الثانية، فهي تفكك وسقوط الاتحاد السوفيتي أمام عينيه في ديسمبر/كانون الأول عام ١٩٩١.
كان الحدث الأول هو اللحظة التي قرر فيها أن يعمل كل ما في وسعه لتحقيق حلم الطفولة بالانضمام إلى جهاز المخابرات السوفيتي الذي كان يعرف باسم “كي جي بي”، أما الثاني فقد كان عامل دفع له لعمل كل ما في وسعه لجعل روسيا عظيمة من جديد.
حقق بوتين الشاب حلمه وانتمى للكي جي بي، إلا أنه لم يبرز في مجال عمله، وحتى عندما ترشح للعمل في المهمات الخارجية، فشل في تحقيق نجاحات ملفتة للنظر، لسبب واضح وهو أن المخابرات السوفيتية كانت تستند إلى ضوابط صارمة في عملها، أما بوتين فقد كان لديه شغف في التمرد على القوانين والتعليمات وأحب اللجوء إلى الارتجال والتجربة.
إلا أن تلك المؤهلات كان لها يومها وكانت برهانا ساطعا على أن بوتين قد لا يحسن العمل ضمن الفريق، لكنه بلا شك يجيد القيادة بشكل مستقل. ففي خضم الأحداث التي رافقت سقوط جدار برلين ونزول الجماهير إلى الشارع ومهاجمة مقار الأجهزة الأمنية التي اعتبرها الألمان الشرقيون في ذلك الوقت رموزا للقمع والاضطهاد في دول المحور السوفيتي، كان لبوتين شأن آخر.
“كانت هناك لحظتان حاسمتان في حياة بوتين؛ الأولى مشاهدته للمسلسل السوفيتي “السيف والدرع” عام ١٩٦٨ عندما كان عمره ١٦ عاما فقط. أما الثانية، فهي تفكك وسقوط الاتحاد السوفيتي أمام عينيه في عام ١٩٩١”
وصلت الجموع الغاضبة إلى مقر الكي جي بي في مدينة دريسدن بألمانيا الشرقية، وكان بوتين ضابط المخابرات الشاب في داخل المقر يراقب من الشباك ما يحدث ويفكر بما يجب فعله بعد أن باءت كل محاولات زملائه للحصول على دعم من موسكو بالفشل. تجلت عندها قدرة بوتين على العمل منفردا. نزل بزيه العسكري وبلا سلاح، ووقف أمام الحشد الغاضب وخاطب المحتجين بنبرة يسودها الهدوء والحزم في آن واحد وبلغة ألمانية واضحة “هذا المبنى يتمتع بحراسة مشددة.. جنودي مسلحون وقد أعطيتهم الأوامر بفتح النار على أي شخص يدخل المبنى”. كانت النتيجة أن تفرق الحشد.
بعد ذلك يتطرق الكاتب لتفاصيل صعود بوتين حتى بلوغه رأس السلطة في بلد كان حتى الماضي القريب أحد قطبي العالم، ولا يزال يمتلك مقومات سياسية وعسكرية واقتصادية تؤهله للعب دور حيوي على الساحة السياسية الدولية. وقد طرحت العديد من النظريات التي حاولت تفسير عقيدة الرئيس الروسي السياسية، وقد تراوحت بين السعي لإحياء تراث الاتحاد السوفيتي وتحقيق الثراء والنفوذ وتعزيز مكانة روسيا كبلد رئيسي في مجال النتاج النفطي.
ولكن كتاب ماير يضيف لكل ذلك نظرية أخرى وهي رغبة بوتين في استعراض القوة؛ فقد بدأ عهده بحروب الشيشان الدامية، ثم جورجيا وبعدها أوكرانيا. وفي خضم معاناته في المستنقع الأوكراني نزل بكل ثقله كطرف مقاتل في الأزمة السورية إلى جانب نظام بشار الأسد. ولم يكن خيار بوتين في سوريا نابعا من فراغ، فقد التزم منذ البداية الجانب المعادي لقوى الثورة في الربيع العربي.
يعتبر بوتين الغرب بشكل عام قصير النظر، وأنه بدعمه للقوى المعادية لنظم عربية مستقرة إنما يساهم في فتح الباب لصعود التنظيمات “الإسلامية المتطرفة”، ويرى ماير أن بوتين لطالما كانت لديه مشكلة ربط النضال من أجل الديمقراطية بفرص صعود التيارات الراديكالية، وذلك نتيجة لخلفيته الأمنية وتجربة سقوط الاتحاد السوفيتي والفوضى التي سادت في روسيا.
“عندما ترشح بوتين للعمل بمهمات خارجية، فشل في تحقيق نجاحات ملفتة، لأن المخابرات السوفيتية كانت تستند إلى ضوابط صارمة في عملها، أما هو فكان لديه شغف بالتمرد ويحب اللجوء إلى الارتجال والتجربة”
وقد استغل الرئيس الروسي المنابر الدولية غير مرة للمجاهرة بمعارضته القوية للطريقة التي يدير بها الغرب القضايا السياسية وخاصة ذات الطابع الدولي، فتارة يتهم الغرب بأنه أوصل الخميني للسلطة في إيران واليوم يصارع لكبح الجماح النووي للنظام الإيراني، وتارة أخرى يذكر الغرب بنتيجة دفعه نحو الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية وكانت النتيجة فوز حماس بالسلطة هناك.
ولم يغفل الكتاب جانب حب السلطة والظهور لدى بوتين، حيث شبه شغفه بجعل منتجع سوشي على البحر الأسود مدينة المدائن بأسطورة مدينة بطرسبورغ التي كانت تسمى أيام الاتحاد السوفيتي باسم “لينينغراد” تيمنا بالزعيم الشيوعي السوفيتي فلاديمير لينين. يقول ماير إن بوتين أراد أن يؤسس مدينة تصبح فيما بعد “بوتين غراد”، لتكون البداية لعصر روسي جديد كما بنى القيصر بطرس الأول بطرسبورغ لتكون انطلاقة جديدة لروسيا.
أما الفصل الخامس والعشرون من كتاب “القيصر الجديد” فقد جاء بعنوان بلدنا روسيا، وكرسه ماير لأسلوب بوتين في الحكم وإدارة البلاد، حيث يتفرد بالقرار بصورة واضحة لدرجة أن البرلمان المنتخب قد فقد أي تأثير كسلطة تشريعية ولم يعد يمتلك أي دور في اتخاذ القرار.
المصدر : الجزيرة