كانت المفاوضات السورية، بين النظام والمعارضة، في مسار «جنيف» (1 و2 و3) اشتغلت على أساس بيان دولي، تم التوافق عليه في العام 2012، وقد استندت إليه مجمل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، بخصوص سورية، فإذا بها، منذ بداية هذا العام، تدخل في مسار «آستانة»، أي في مسار جديد ومغاير، يختلف في أطرافه وموضوعاته ومرجعياته عن المسار السابق؛ حتى ولو جرى اعتبار الاجتماعات التفاوضية القادمة في جنيف (أواخر هذا الشهر) باعتبارها الجولة الرابعة.
فوق ذلك فقد أضحى مشهد المفاوضات السورية بالغ التشويش والتعقيد، أكثر من قبل، إذ كان سابقاً ثمة الائتلاف الوطني، ثم «الهيئة العليا للمفاوضات» (مع أطراف أو منصّات أخرى)، فإذا بنا اليوم نرى المعارضة الرئيسية، والتي كانت سابقاً ترفض أي تشكيك بوحدانية تمثيلها للمعارضة في المفاوضات، تنقسم على نفسها، إذ بات لدينا «الائتلاف» و «الهيئة» والفصائل العسكرية، من دون أن نغفل المنافسات أو المنازعات في كل طرف منها.
هكذا، وفي خضم النقاش الحاصل في شأن هذا التحوّل، وبعيداً عن الرغبات أو التقييمات الذاتية، يفترض هنا ملاحظة المسائل الأساسية الآتية:
أولاً، إن السوريين، وهذا يشمل الطرفين المتصارعين والمعنيين مباشرة (أي النظام والمعارضة)، ليسا هما من يحدّد طبيعة المفاوضات، إذ بيّنت مفاوضات «جنيف»، في جولاتها الثلاث السابقة، التي أجريت خلال السنوات الأربع الماضية، ومفاوضات «آستانة»، التي أجريت مطلع هذا العام، أن الأطراف الخارجية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، هي التي تحدد مسار المفاوضات وموضوعاتها وأولوياتها، وحتى أطرافها، مع غياب ملحوظ للدور العربي، على رغم تبايناته (لا أعتقد أن دخول الأردن على خط مفاوضات آستانة يغطي على غياب دور عربي بمعنى الكلمة).
ثانياً، هذه المفاوضات استمرت وفقاً لقاعدة دولية وإقليمية مفادها عدم تمكين أي من الطرفين التغلّب على الآخر، لا بالوسائل السياسية ولا بالعسكرية، لا النظام ولا المعارضة. ويستنتج من ذلك أن الأطراف الخارجية، سواء اعتبرت مساندة للنظام أو مساندة للمعارضة، ظلت تشتغل على أساس المحافظة على ديمومة الصراع الدامي والمدمر في سورية، الذي استنزفها، وهجّر شعبها، وقوّض إجماعاتها الداخلية، وأطاح بسيادتها، وأضعف البني الدولتية فيها، بدل الاشتغال على إنهائه. وطبعاً هذا يستثني إيران التي عملت وفقاً لأجندتها الرامية إلى تعزيز نفوذها وهيمنتها في المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مروراً بسورية، وعلى قاعدة: «إيران أو فلتخرب البلد»، الذي يتماهي مع شعار «الأسد أو تخرب البلد». هذا يفيد، أيضاً، أن التدخل الروسي، على وحشيته وبشاعته، جرى في إطار التفاهم الدولي والإقليمي، لا سيما بعد انكشاف التباعد في الأجندة بين إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى.
ثالثاً، لم تجر العملية التفاوضية، ولا في أي وقت، وفقاً لمعطيات الثورة، بمعانيها واستهدافاتها، المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وإنما هي جرت وتجري وفقاً لسياسة الأمر الواقع، أي موازين القوى، والمعطيات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع على سورية (وليس الصراع في سورية). وقد شهدنا أن مشروع «الهيئة العليا للمفاوضات»، الذي قدم للأطراف الدولية قبل أشهر، رضخ لهذه المسألة في نصه على الشراكة في الحكم، بين النظام والمعارضة، مع تفهم أن هذا الأمر يعني حصر الصراع بتغيير رأس السلطة، والانتهاء من نظام الأسد؛ وبالطبع فهذا أمر كبير الأهمية، وضروري، لكنه لا يلبي الحد الأدنى للأهداف التي توخاها الشعب السوري من ثورته، لا سيما بعد كل الأثمان الباهظة التي تم دفعها.
رابعاً، في حين يبدو النظام موحّداً، في خطاباته وأجندته وحتى في تشكيلته التفاوضية، كما لاحظنا، فإن المعارضة، في المقابل، تبدو غير ثابتة، وغير موحدة، لا في خطاباتها، ولا في أجندتها، وبالطبع ولا في تشكيلتها التفاوضية، كما ظهر مؤخّراً، ما يضعف صدقيتها، وفاعليتها، وهذا لا ينبثق من وجود منصّات مختلفة للمعارضة، فقط، وإنما هو ينطبق على وفد المعارضة الأساسي الذي يفترض أن «الهيئة العليا للمفاوضات» تمثله، أو تعبر عنه، إذ أن هذا التمثيل جرى كسره في مؤتمر الآستانة (الشهر الماضي) بإيلاء بعض ممثلي الفصائل العسكرية مهمة المفاوضات، ولا يهم إن جرى ذلك بالتنسيق مع الائتلاف، أو الهيئة المذكورة، إذ إننا نعرف أن هذا التنسيق هو بكل صراحة مجرد تغطية لحالة إملاء أو ارتهان خارجية.
بالمحصلة فإن المعارضة الأساسية باتت لها «منصّات» عدة، تتمثل بالهيئة العليا، والائتلاف، والفصائل العسكرية، تتنافس في ما بينها على حصة التمثيل، وحيّز المكانة، وليس على الموضوعات والقضايا.
هذا كله يكشف عن حقيقة العملية التفاوضية الجارية، بأبعادها وآفاقها، ما يطرح السؤال في شأن الانخراط في هذه العملية أو مقاطعتها، وهو سؤال مشروع ومطلوب لكن الإجابة عليه معقّدة ومشوبة بالالتباسات أيضاً.
المعضلة الأساسية في الإجابة المفترضة تنبثق من غياب البدائل، أو الخيارات، أمام المعارضة السورية، بما لها وما عليها، بخاصة في ظروف انسداد أفق الخيار العسكري، وضعف فاعلية الدول المفترض أنها مساندة للثورة السورية، وخروج الشعب السوري من معادلات الصراع، بعد التهجير والحصار، ودخول روسيا على خط الدعم العسكري المباشر للنظام.
يستنتج من ذلك أن معطيات تفاوضية هي على هذا النحو لا تضع المعارضة السورية، على ضعف بناها السياسية والعسكرية والمدنية، سوى أمام خيار واحد ينبغي أن ينبني على أساس تحجيم الخسائر والأخطار، إلى أقصى حد، بإنهاء حال التقتيل والتدمير والتهجير في البلد؛ أولاً. وثانياً، السعي للبناء على الوضع الدولي، والمتغيرات الحاصلة في الصراع على سورية، لإيجاد التقاطعات المناسبة التي تمكّن المعارضة من التعويض عن الخلل في موازين القوى، وتالياً إيجاد حل للمسألة السورية، يتأسس على رحيل نظام الأسد، كمرحلة لا بد منها لإنهاء الاستعصاء الحاصل، في الصراع الدامي الدائر منذ ستة أعوام.
بديهي أن كل ذلك يعني أن المسألة خرجت من أيدي السوريين، نظاماً ومعارضة، وأن النظام الدولي هو الذي بات يتحكّم، بصورة أكبر، ليس فقط بمسألة إنهاء القتال بين مختلف الأطراف، وإنما حتى بتشكيل سورية المستقبل. وتالياً، فإن ذلك يعني أن الموازنة هنا بين الواقع والأخلاق تحيلنا، أيضاً، على سؤال أخلاقي آخر يتعلق بجدوى استمرار المعطيات التي تسمح بالتشجيع على استمرار القتل والتدمير والتهجير في سورية، الذي أودى بشعب سورية وبثورته، في آن معاً، في حال تم تقويض العملية التفاوضية الجارية، على علاتها، أو على رغم كل التحفظات عليها.
والمشكلة هنا أن المعارضة في كل مرة تجد نفسها، في الظروف التي تحدثنا عنها، ووفق المحددات التي تحكمها، في حال ضعف وارتهان أكثر من قبل، وأنها في كل مرة ترفض ما كانت رفضته سابقاً. وللتذكير فإن هذا ما حصل سابقاً، مثلاً، في رفضها بيان جنيف، ثم في اتكائها عليه، وهو ما حصل، أيضاً، في رفضها أي مفاوضة مع الطرف الروسي، ثم في قبولها ذلك بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب مكانتها التمثيلية، كما حصل مثل هذا الأمر في موافقتها على تقاسم التمثيل مع المنصّات الأخرى بعد أن كانت ترفض ذلك جملة وتفصيلاً، إلا إذا كان تحت سقفها ووفقاً لمعاييرها. ومن ناحية سياسية، أيضاً، لا ننسى أن المعارضة خفضت سقفها التفاوضي التفاوضي من إصرارها على طلب «هيئة حكم انتقالية، وفقاً لبيان جنيف (2012)، إلى القبول بمجرد حكومة شراكة، ومن إسقاط النظام إلى إنهاء حكم الأسد، بعد المرحلة الانتقالية أو أثناءها.
القصد أن الصراعات السياسة لا تخاض بالشعارات والرغبات وإنما تخاض بعوامل القوة، والمكانة، والمعطيات المناسبة والمواتية، فكيف إذا كان الشعب السوري يفتقد كل ذلك، وإذا كانت معارضتهم هي على هذه الحال من التشرذم وضعف الفاعلية؟ ثم ما الذي يتبقى للسوريين، في أوضاعهم الصعبة، إذا كان الصراع الدولي والإقليمي على بلدهم هو العامل المتحكّم أو الأكثر فعالية؟
ماجد كيالي
صحيفة الحياة اللندنية