يقول الرئيس دونالد ترامب إنه يريد إقامة “مناطق آمنة” في سورية. ويقصد من ذلك إبقاء المشردين، الذين قد يكونون بغير ذلك ميالين للانضمام إلى حوالي 5 ملايين لاجئ سوري، في داخل بلدهم. ولكن، ما الذي قد يستطيع إنجازه على هذا الصعيد؟
أول شيء يجب على أي رئيس جديد معرفته هو أن المنطقة الآمنة يجب أن تتضمن توفير حماية مشددة لها، والتي تقدمها قوات برية وجوية على حد سواء. وهذا هو ما يميزها عن منطقة القتل.
على مدى ست سنوات من الصراع في سورية، صدرت العديد من الدعوات إلى إقامة مناطق حظر طيران. وقد تجنبت تلك الدعوات بشكل متعمد بحث الطرف الذي سيتولى الدفاع عن هذه المناطق على الأرض، وكأن بالإمكان حماية المدنيين من علو شاهق بارتفاع 30.000 قدم. وفي الحقيقة، عمل موضوع الحماية الأرضية البرية كعامل إيقاف للمحادثات الخاصة بكيفية حماية المدنيين السوريين من نظام قاتل.
في سورية اليوم، هناك على الأقل ثلاث مناطق صراع نشطة يمكن أن يتم تحويلها إلى مناطق آمنة. ويحتل “داعش” الآن مناطق في وسط وشرقي سورية؛ وجزء من وادي نهر الفرات إلى الشمال من حلب حيث الجنود الأتراك وقوات الثوار من الجيش السوري الحر يضيقون الخناق على بلدة الباب التي يسيطر عليها “داعش”؛ وفي محافظة إدلب الشمالية الغربية، حيث ما تزال مجموعة “جبهة فتح الشام” التابعة لتنظيم القاعدة هي القوة الرئيسية.
من الممكن أن تفرز الهزيمة العسكرية المفترضة المقبلة لـ”داعش”، إذا تم التعامل معها بشكل مناسب، كل المناطق الآمنة -واحدة تمتد من نهر الفرات إلى العراق. لكن التعامل المناسب يتطلب إجراء تحول استراتيجي رئيسي من جانب واشنطن. فالقوات البرية التي تقاتل “داعش” حالياً هي وحدات حماية الشعب، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني -الذي تصنفه الولايات المتحدة على أنه تنظيم إرهابي. ومن المنتظر أن تدخل وحدات حماية الشعب وبعض القوات العربية المساعدة عاصمة “داعش” في مدينة الرقة.
مع ذلك، ليس القتال في المناطق الحضرية وظيفة رجال مليشيات مدربين تدريباً خفيفاً. إنه يتطلب استخدام المهارات المتخصصة التي تعتبر ميزة لجيوش العالم الأول -مهارات تقلل إلى الحد الأدنى خسائر القوات المقتحِمة والسكان المدنيين على حد سواء.
لطالما حث هذا الكاتب على تشكيل قوة تحالف برية بمشاركة من يرغب بقيادة الولايات المتحدة. ويشمل ذلك مشاركة قوات قتالية أميركية ماهرة في الخداع، سوية مع قوات برية من بلدان كالأردن وتركيا وفرنسا والسعودية ودولة الإمارات العربية والبحرين. وكانت البلدان الثلاثة الأخيرة قد تطوعت بقوات لقتال “داعش”، ويتطلب تجييش الآخرين دبلوماسية عنيدة. ولكن، إذا كان “داعش” هو التهديد الذي يتحدث عنه دونالد ترامب -ووافق الناس في باريس وبروكسل واسطنبول وأنقرة والذين عانوا كلهم من هجمات الإرهاب على يديه- فلماذا نترك أمر هزيمته لرجال المليشيات؟
بالإضافة إلى وضع الهزيمة العسكرية لتنظيم “داعش” بيد محترفين عسكريين، يجب أن تأخذ خطة البنتاغون لشمالي سورية عدة عوامل بعين الاعتبار. إذ يجب أن تغطي الحملة العسكرية كل شرقي سورية (وليس الرقة وحسب)، والقضاء على “داعش” في دير الزور وكل سورية. ومن الأساسي بشكل مطلق وضع خطة استقرار لما بعد القتال لتأسيس حوكمة محلية، والتي تستطيع الاعتماد على المجالس المحلية السورية التي كانت قد أجبرت على النزول تحت الأرض من جانب “داعش” والمعارضة الوطنية السورية والموظفين السوريين المدنيين وقوات سورية الديمقراطية في مناطقها المحلية. وأخيراً، يجب على القوات التي تهزم “داعش” التخطيط لتوفير حماية برية وجوية مستدامة للمناطق المحررة.
وليس هذا ببساطة مسألة هزيمة “داعش”. إن تحويل وسط وشرقي سورية من “الخلافة” وتحويلها إلى مناطق آمنة يعني إبقاء قوات الرئيس الأسد في الخارج. ومن شأن السماح لنظام مجرم فاسد بالحلول محل “داعش” أن يهيء المسرح لصعود المجموعة الجهادية مرة أخرى، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تدافع المدنيين السوريين على الهرب إلى تركيا والعراق.
قد تصبح المنطقة التي تتم مهاجمة “داعش” انطلاقاً منها في وادي نهر الفرات من جانب تركيا منطقة آمنة. وتواجه تركيا وحلفاؤها الثوار السوريون صعوبة جمة في طرد المجموعة الإرهابية من الباب، البلدة العربية السنية الضخمة التي تقع إلى الشمال الغربي من حلب. ولكن، وبافتراض أن تتم استعادة الباب في نهاية المطاف، سيكون “داعش” قد طُرد من جيب كبير الحجم يمتد جنوباً من الحدود التركية. ومع ذلك، يتطلب تأسيس منطقة آمنة تواجد قوة برية تركية مستدامة وكبيرة، وغطاءاً جوياً مدعماً بثوار سوريين وطنيين يرغبون في قتال كل القادمين: المليشيات الشيعية والقاعدة و”داعش” والأسد.
في محافظة إدلب، يستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعب دور حاسم في تأسيس منطقة آمنة -إذا كان راغباً وقادراً. وإذا استطاعت روسيا المساعدة في تحييد المليشيات غير المنضبطة والميليشيات الشيعية إيرانية القيادة بينما يعزز وقفاً أصيلاً للأعمال العدائية في شمال غربي سورية، سيكون الثوار الوطنيون قادرين على الانفصال عن “جبهة فتح الشام” والعمل مع واشنطن وموسكو لهزيمة القاعدة والدفاع عن المدنيين.
مع ذلك، ولغاية تحويل إدلب إلى منطقة آمنة، يؤمل أن تمتنع موسكو عن شن أنواع الهجمات الجوية مثل تلك التي شنتها على حلب بينما تحافظ على بقاء نظام الأسد وداعميه الإيرانيين تحت ضبط شديد. فهل ستفعل موسكو ذلك؟ وهل تستطيع؟ وهل سيفرض الروس، من الناحية الفعلية، منطقة حظر طيران على نظام الأسد متى ما أصبحت “جبهة فتح الشام” في ذمة التاريخ؟ وهل ستنجم الظروف التي تمكن المعارضة الوطنية السورية فعلياً من قتال تنظيم القاعدة. من أجل أن تنعم إدلب بالهدوء والأمان لمواطنيها، ثمة الكثير من العمل الكثيف الذي يجب إنجازه بعد.
يقال إن ترامب والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بحثا خلال اجتماعهما مؤخراً في واشنطن تأسيس منطقة آمنة في جنوب غربي سورية بين دمشق والحدود الأردنية. وكانت هذه المنطقة تنعم بهدوء نسبي. ومع ذلك، وحتى تصبح هذه منطقة آمنة حقاً للمدنيين، فإن دوراً مركزياً للقوات البرية وسلاح الجو الأردنيين سيكون مثالياً.
فقط في حال تأسيس منطقة آمنة لما بعد “داعش” يمكن أن يكون تواجد “قوات أميركية برية على الأرض” في شكل تشكيلات قتالية ضخمة ممكناً. وما لم يختف مقاتلو “داعش” ببساطة من وسط وشرقي سورية، فإن المناطق ذات الكثافة السكانية يجب أن تحرر من قبضتهم على يد عسكريين محترفين.
سيكون من شأن وضع رجال الميليشيات ضد “داعش” فقط تعميق حالة من الكراهية الإنسانية وجعل تداعياتها السياسية السيئة أكثر سوءاً.
طوال ست سنوات تقريباً، كان المدنيون السوريون في مصلب إطلاق النار. وقد دفعوا هم وجيرانهم والأوروبيون الغربيون ثمن إجرام الأسد و”داعش”. ويمكن أن تؤدي عملية انتقالية سياسية كاملة تزيح الأسد وعائلته وحاشيته عن المسرح، إلى جعل كل سورية منطقة آمنة. ومع ذلك، في الأثناء، يجب على واشنطن وموسكو مراجعة استراتيجيهما لحماية المدنيين من ويلات الحرب.
فريد هوف
صحيفة الشرق الأوسط