يشكل مدخلُ التحدي والاستجابة مدخلا جوهريًّا في فهم ديناميات التفاعل المصري مع الأزمة الليبية، فالتحديات التي باتت تمثلها ليبيا لم تعد مقصورةً على الداخل الليبي، فنحن إزاء دولة شبه مفككة تتعاظم فيها نفوذ ميليشيات مسلحة وحركات تكفيرية على غرار تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميًّا بتنظيم “داعش” الذي أضحى التهديد الأبرز للقاهرة، خاصةً مع الفيديو الذي أذاعه التنظيم يوم (15 فبراير) الجاري حول قتله 21 مسيحيًّا مصريًّا، ليدفع بذلك الدولة المصرية إلى تبني خيار التدخل العسكري المباشر، وهو نمط مغاير من الاستجابة كانت تُحجم القاهرة عن تبنيه طيلة الأشهر الماضية.
وكانت السلطةُ المصرية تتجنب التدخل العسكري المعلن في ليبيا لاعتبارات كثيرة، بعضها مرتبط بالمعطيات المعقدة للواقع الليبي، والبعض الآخر متعلق بالواقع المصري الذي يتسم هو الآخر بحالة من التشابك. ولكن هذه المفردات لا يُمكن وصفها بالثبات؛ فالأوضاع تتطور، ومع هذه التطورات يكون على الدول التعاطي بمقاربات مختلفة حفاظًا على أمنها ومصالحها.
دوافع العملية العسكرية على داعش:
عقب إذاعة الفيديو الخاص بقتل المسيحيين المصريين في ليبيا على يد تنظيم “داعش” يوم (15 فبراير 2015)، اجتمع مجلس الدفاع الوطني لبحث تطورات الأزمة، ليخرج بعدها الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” في كلمة متلفزة ويصرح بأن السلطات المصرية تحتفظ بحق الرد بالأسلوب والتوقيت المناسبين للاقتصاص من القتلة. وهو التصريح الذي اعتُبر بمثابة تمهيدٍ للعملية العسكرية التي نفذتها طائرات مصرية على مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) داخل ليبيا يوم 16 فبراير الجاري.
خلال الشهور الأخيرة، شهدت ليبيا حالة اقتتال داخلي بين فصائل متعارضة، وفي خضم هذه الأوضاع كانت القاهرة تتجنب أي تدخل عسكري مباشر معلن في ليبيا، حتى أنها نفت ما أوردته بعض المصادر الغربية منذ أشهر حول قيامها بتنفيذ هجمات جوية داخل ليبيا بالتعاون مع دولة الإمارات، ومن ثم اكتفت الحكومة المصرية بدعم الحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا بقيادة عبدالله الثني، والمتحالفة مع قوات اللواء خليفة حفتر. واستمرت هذه المتغيرات هي الحاكمة لتوجهات النظام المصري حتى جاء حادث مقتل 21 مسيحيًّا مصريًّا لتشكل سياقًا جديدًا محفزًا للخيار العسكري المباشر، وقد ارتكز هذا السياق على دافعين رئيسيين.
يتصل الدافع الأول بديناميات الداخل المصري، وردود الأفعال تجاه عملية مقتل المسيحيين المصريين، فقد تبلور اتجاه ضاغط في الشارع والإعلام المصري يطالب السلطة الحاكمة بالتدخل العسكري، ومهاجمة معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا. وفي هذا السياق، أوضح استطلاع للرأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) حول الضربات التي وجهتها مصر لداعش، أن 85% من المصريين الذين شملهم الاستطلاع موافقين على العملية العسكرية، و8% غير موافقين، و7% لا يستطيعون التحديد. كما أن 76% ممن أُجري معهم الاستطلاع موافقون على توجيه هجمات أخرى لتنظيم الدولة الإسلامية للقضاء عليه، بينما 11% يرفضون، و13% لم يحددوا موقفهم.
أما الدافع الثاني؛ فقد ارتبط بفكرة الأمن القومي للدولة المصرية، والذي بات أكثر تعرضًا للتهديد بفعل الأوضاع المتردية في ليبيا، والتي أفضت إلى بزوغ تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وتمدد نفوذه وسيطرته على مناطق داخل ليبيا، فالتنظيم تمكن من السيطرة على مدينة درنة، وفي الآونة الأخيرة، تمكن من السيطرة على محطات إذاعية وتلفزيونية بمدينة سرت، ليستخدمها في إذاعة خطب لأبي بكر البغدادي (زعيم تنظيم الدولة الإسلامية)، علاوةً على المساعي المستمرة لفرض أنظمة مجتمعية وأنماط تدين معينة مستمدة من مرجعية التنظيم.
وهكذا وجدت السلطات المصرية أن تنفيذ العملية العسكرية في الوقت الراهن سيحقق الرضاء الشعبي المطلوب، كما أنه سيضغط على تنظيم الدولة الإسلامية داخل ليبيا، ويحقق الردع اللازم للتنظيم، فضلا عن القوى والمجموعات التي تعمل على الحدود بين الدولتين في عمليات التهريب والتسلل، خاصة أن هذه العملية العسكرية جاءت بعد يوم واحد من إحباط محاولة للتسلل بالمنطقة الحدودية بالسلوم، والتي على إثرها تم القبض على 165 شخصًا.
المناطق المستهدفة:
ذكر بيان صادر عن المؤسسة العسكرية المصرية صباح يوم (16 فبراير) الجاري، أن الجيش قام بتوجيه ضربة جوية مركزة ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر تنظيم داعش الإرهابي بالأراضي الليبية، وربط البيان هذه الهجمات بحق الدولة المصرية في الدفاع عن أمن واستقرار المواطنين والقصاص والرد على الأعمال “الإجرامية للعناصر والتنظيمات الإرهابية داخل وخارج البلاد”.
وشارك في العملية العسكرية 6 مقاتلات إف 16 (f16) نفذت ثماني ضربات جوية استهدفت مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية في مدينة درنة، ومن ضمن المواقع التي تعرضت للقصف -وفقًا لصقر الجروشي قائد سلاح الجو الليبي التابع للحكومة المعترف بها دوليًّا- مركز تدريب المنصوري، ومركز تدريب الشاعري، وهي مراكز يتم فيها تدريب المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية والقادمين من خارج ليبيا، وتتباين التقديرات المتعلقة بحجم الخسائر التي تكبدها تنظيم الدولة الإسلامية؛ حيث إن هذه التقديرات تذهب إلى مقتل ما يتراوح بين 40 و64 مقاتلا في التنظيم، منهم ثلاث قيادات تنظيمية، علاوة على تدمير مخازن للأسلحة ومقرات للتنظيم.
source: Alistair Dawber,” ISIS: Egypt joins attacks with air strikes avenging massacre”, The Independent, February 16, 2015.
تركيز العملية العسكرية على مدينة درنة يرجع بالأساس إلى سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة منذ شهر نوفمبر الماضي، ومنذ ذلك الحين تُعد المدينة المعقل الرئيسي للتنظيم والذي يستخدمه في تدريب أعضائه، بالإضافة إلى توظيف المدينة كمنطلق يمكن من خلاله التوسع في مناطق أخرى داخل ليبيا. وثمة إشكالية أخرى متمثلة في كون المدينة قريبة جغرافيًّا من طبرق والبيضاء، والمدينتان تُعدان من المقرات الرئيسية للحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا.
من هذا المنطلق، فإن العملية العسكرية المصرية -التي تمت بالتنسيق مع الحكومة الليبية- تخدم حكومة عبدالله الثني وحليفها اللواء خليفة حفتر من جهتين، فهي من ناحية تُضعف تنظيم الدولة الإسلامية داخل درنة، ومن ناحية أخرى تُعطي لقوات اللواء حفتر المزيد من أريحية الحركة تجاه درنة، وعرقلة أي محاولة من جانب تنظيم داعش للتوسع تجاه البيضاء ومقر الحكومة الليبية في طبرق.
المسارات المستقبلية:
أظهرت الحكومة الليبية في طبرق دعمها التام للعملية العسكرية المصرية، وبدا أن ثمة تنسيقًا حادثًا بين الحكومتين في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ولم يتوقف الأمر على هذا، ولكن خرجت بعض التصريحات من قادة ليبيين تُرجح أن هذه العملية لن تكون الأخيرة، وأن هناك عمليات عسكرية مستقبلية.
الأمر المؤكد أن العمليات العسكرية المستقبلية -في حال حدوثها- ستظل مقتصرة على ضربات جوية لأهداف محددة بدقة بالتنسيق مع الحكومة الليبية، وقد يكون من الصعب -إن لم يكن مستحيلا- الشروع في عملية عسكرية برية؛ فمثل هذه العملية ستؤدي إلى ضغط شديد على الموارد الاقتصادية، ناهيك عن الأزمات الداخلية في مصر، والمواجهة المستمرة مع التنظيمات المتطرفة داخل سيناء والتي تستنزف الكثير من قدرات المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى ذلك فإن خوض حرب داخل ليبيا أمر غير مضمون العواقب في أراضٍ جديدة على القوات التي ستكون مجبرة حينها على الدخول في حرب مع قوات غير نظامية أكثر خبرة بتضاريس المكان.
وفي هذا السياق، فإن الدولة المصرية تسعى إلى تعزيز عمليتها العسكرية في ليبيا بمساندة دولية وإقليمية عبر إقامة تحالف لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا على غرار التحالف الدولي ضد التنظيم في سوريا والعراق. وعطفًا على هذا، طالبت مصر وفرنسا بعقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي، واتخاذ تدابير جديدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا. كما ذكر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مقابلة مع إذاعة “أوروبا 1” الفرنسية في القاهرة يوم (17 فبراير) الجاري “أنه ليس هناك من خيار آخر غير التدخل تحت غطاء أممي، مع الأخذ في الاعتبار أهمية أن يكون الشعب الليبي راضيًا، وأن تستدعينا الحكومة الليبية للعمل على بسط الاستقرار”.
وبوجه عام، فإن القضية في حقيقتها مرتهنة بالتهديد الذي لن يقتصر على دول الجوار، ولكنه سيمتد إلى دول أوروبا المقابلة لليبيا، وبالتالي سيكون على الدول الغربية أن تحدد بالضبط ماذا تريد من ليبيا، وما هو التوقيت المناسب للتدخل حفاظًا في المقام الأول والأخير على مصالحها.
المصادر:
1) صحيفة “اليوم السابع”، نص بيان القوات المسلحة بشأن توجيه ضربات جوية لداعش في ليبيا، 16/2/2015.
2) صحيفة “الشرق الأوسط”، “الرئيس المصري يدعو لتدخل أممي في ليبيا”، 17/2/2015.
3) مركز بصيرة، “استطلاع رأي حول الضربات التي وجهتها مصر لداعش”، 17/2/2015.
http://www.baseera.com.eg/pdf_poll_file_ar/Daaesh.pdf
4) صحيفة “الشروق” المصرية، “الجيش يوجه ضربة جوية على الحدود مع ليبيا”، 16/2/2015.
5) صحيفة “الشروق” المصرية، “الجيش يدك معاقل داعش ليبيا، 17/2/2015.
6) Stratfor, ” Egypt Launches Airstrikes Against the Islamic State in Libya”, February 16, 2015,
https://www.stratfor.com/sample/analysis/egypt-launches-airstrikes-against-islamic-state-libya
7) Jared Malsin and Chris Stephen, ” Egyptian air strikes in Libya kill dozens of Isis militants”, the guardian, 17 February 2015,
http://www.theguardian.com/world/2015/feb/16/egypt-air-strikes-target-isis-weapons-stockpiles-libya
محمد بسيوني عبد الحليم
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية