ربما يكون محمد أكبر خطر يتهدد الأردن. فعلى مدى ما يقرب من ثلاث سنوات، قاتل الشاب البالغ من العمر 25 عاماً إلى جانب “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم القاعدة، ثم إلى جانب “داعش”. وبعد أشهر قضاها على الخطوط الأمامية، أصبحت لدى محمد الآن خطة جديدة: العودة إلى وطنه الأردن.
يقول محمد، الذي يتواجد الآن على الحدود السورية-الأردنية في انتظار الدخول إلى الأردن، من خلال تطبيق لخدمة الرسائل المشفرة: “هناك الكثيرون منا الذين أصبحوا خائبي الأمل من الدولة الإسلامية؛ من الذين أصيبوا بجراح؛ من الذين تعبوا”. ويضيف: “قريباً سوف تضطر الدولة إلى قبولنا”.
بينما يندفع التحالف والقوات الحليفة الآن عبر الموصل في العراق، ويُطبقون على عاصمة “داعش” في الرقة السورية، تستعد الدول العربية لما يسميه البعض “كارثة”: أمواج من مقاتلي “داعش” وهم يعودون إلى الوطن.
وليس هناك مكان تتضح فيه إمكانيات حدوث الكارثة أكثر من الأردن وتونس؛ البلدين اللذين شهد مواطنوهما وهم يغادرون للانضمام إلى “الدولة الإسلامية” بأعداد أكثر من معظم الدول الأخرى، واللذين يجاوران مناطق يسيطر عليها “داعش” في سورية وليبيا، على التوالي.
السجون في هذين البلدين مكتظة، ويُنظر إليها على أنها أرضٌ خصبة لتفريخ المزيد من التطرف. ويمكن أن يؤدي سجن المقاتلين العائدين إلى جعل الأمور أسوأ فحسب على المدى الطويل. كما أن الأجهزة الأمنية متمددة أكثر من اللازم ومرهقة، كما هو حالها.
يتطلع الأردن وتونس إلى أوروبا لرؤية النماذج حول كيفية تحديد واعتقال وإعادة تأهيل جيل من الجهاديين الذين ربما يجلبون معهم ميدان المعركة إلى الوطن.
قلق في الشارع
يقاتل ما بين 5.000 و6.000 تونسي في سورية والعراق، وهو رقم أعلى من أي بلد مفرد آخر. وفي الوقت نفسه، يقاتل ما بين 2.000 و3.000 أردني مع “داعش” أو القاعدة أو واحدة من المنظمات التابعة لهما. وليست الأخطار التي يشكلها هؤلاء المقاتلون مجرد تكهنات، فقد بدأ دفق مستمر من المقاتلين بشَق طريقهم فعلياً، عائدين إلى الأوطان.
في كانون الأول (ديسمبر)، خلف هجوم في مدينة الكرك الأردنية الجنوبية 10 قتلى، وكان مدبرُه أردنياً عائداً من سورية. وكان ثلاثة من المهاجمين قد حاولوا سابقاً السفر إلى سورية، لكن السلطات أوقفتهم.
وفي تونس، كان مدبر هجوم متحف باردو، الذي أسفر عن مصرع 21 سائحاً في العام 2015، تونسياً كان عضواً سابقاً في “داعش”. ويُزعم أن اثنين من المهاجمين تلقوا التدريب على يد المجموعة بينما كانا في ليبيا.
بحلول الأول من كانون الثاني (يناير)، يُعتقد أن نحو 200 مقاتل عادوا إلى الأردن، في حين أعلنت السلطات التونسية في كانون الأول (ديسمبر) أن 800 مقاتل عادوا إلى تونس من ليبيا والعراق وسورية.
جعلت الهجمات المواطنين متخوفين بشدة من عودة المقاتلين. وفي كانون الأول (ديسمبر)، تظاهر التونسيون ضد عودة مقاتلي “داعش” السابقين، وحمل المحتجون شعارات مثل “أغلقوا الأبواب أمام الإرهاب” أمام البرلمان التونسي. وهنا في الأردن، يعرف الكثيرون ابن جار، أو زميل، أو أحد الأقارب البعيدين، ممن ذهبوا للقتال في سورية.
يقول محمد، 45 عاماً، وهو صاحب بقالة في عمان، إنه يعرف “العديد” من العائلات التي سافر أبناؤها إلى سورية: “من الأفضل لهم أن يموتوا في سورية من العودة لتخريب وطننا”.
وبعد شهرين تقريباً من هجوم الكرك، يخشى الكثير من الأردنيين الآن أن تكون هناك خلايا سرية تعمل في البلد، بل ويقول ناشط مخضرم في المخابرات الأمنية، والذي كان قد نجح في اختراق خلايا إرهابية في الماضي، إنهم أصبحوا الآن في حيرة إزاء كيفية التعامل مع الأعداد اليوم.
ويقول مسؤول أمني مقرب من عمليات مكافحة الإرهاب، وغير مخوَّل بالتحدث إلى الصحافة: “ما نزال لا نعرف ما سنفعله مع كل هؤلاء”؟
السجون “جامعات لداعش”
في إطار التصدي للتهديد، حاول الأردن أن يستبق المنحنى. ففي نيسان (أبريل) 2014، قبل أشهر من غزو “داعش” للموصل وتأسيس خلافته المعلنة ذاتياً، مرر الأردن قانوناً يجرِّم السفر إلى منطقة من مناطق الصراع، وتمويل المنظمات الإرهابية، أو تلقي الدعم من مجموعة إرهابية، أو ترويج الأيديولوجية الإرهابية.
ثم أقرت تونس قوانين مشابهة لمكافحة الإرهاب بعد سنة من ذلك، بما فيها تأسيس وحدة خاصة من القضاة.
لكن القضاء الأردني اضطر في كثير من الأحيان إلى التعامل مع تهم أصغر، مثل السفر أو محاولة السفر إلى منطقة نزاع أو ترويج الأيديولوجية الإرهابية، والتي يسهل إثباتها بتعقب وسائل التواصل الاجتماعية أو مراجعة تاريخ الهاتف المحمول. ومع ذلك، لا تجلب هذه الجرائم سوى أحكاماً بخمس سنوات في السجن، مع تخفيف الحكم في كثير من الأحيان إلى سنتين ونصف عندما يقدم المشتبه بهم التماساً يضم إقراراً بالذنب.
ويعني هذا أن معظم الأردنيين المسجونين بتهم تتعلق بالإرهاب في العامين 2014 و2015 قد استحقوا الآن إطلاق سراحهم.
ولكن، وفق جميع الاحتمالات، سوف يغادر الكثيرون السجن أكثر تطرفاً مما كانوا عندما دخلوه. ولم يتسبب إرسال الإرهابيين إلى السجن في جعلهم أكثر تطرفاً فقط، وإنما كان يؤدي أيضاً إلى تطرف المحبوسين بسبب جرائم أقل خطورة. ويساوي الأردن بين أولئك الذين يضعون إشارة “إعجاب” بالدعاية المؤيدة لـ”داعش” على “فيسبوك” وبين المتشددين المتطرفين أنفسهم.
يقول عبد القادر الخطيب، وهو محامي دفاع يمثل الجهاديين: “هذه السجون ليست مراكز إعادة تأهيل، إنها جامعات داعش”.
ويضيف السيد الخطيب: “بدلاً من استئصال أيديولوجيتهم، يقومون هم بتلقين المئات في السجون ويحولونهم إلى متطرفين متشددين. هذه قنبلة موقوتة”.
ومن جهتها، تواجه تونس أيضاً “أزمتها القانونية” الخاصة. فهناك، وجد قضاة مكافحة الإرهاب أنفسهم غارقين فوق طاقتهم بسبب عدد القضايا التي يتعاملون معها. وقد أحيلت نحو 2.200 قضية إلى الوحدة القضائية الخاصة بمكافحة الإرهاب في العام 2016؛ حيث يتبين غالباً أن العديد من الدعاوى تتعلق بقضايا جرمية عادية، كما يقول قضاة تونسيون.
وكما هو الحال في الأردن، من الصعب العثور على أدلة دامغة تدين المشتبهين. وعادة ما يُضطر القضاة إلى إصدار أحكام بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات على المقاتلين العائدين. والكثير من المشتبه بهم لا يُدانون من الأساس.
وكما في الأردن أيضاً، لم تستطع تونس أن تفصل نحو 1.000 مدان بالإرهاب لديها عن أولئك المسجونين بتهم أقل. وتعمل السجون هناك بقدرة 150 في المائة، فيما يعود إلى حقيقة أن الغالبية العظمى من نحو 22.000 تونسي في السجون هم رهن الاحتجاز على ذمة المحاكمة؛ حيث يقضون ما يصل إلى 18 شهراً في انتظار أن تنظر المحاكم التي تعمل بأكثر من طاقتها في قضاياهم.
تقول آمنة القلالي، مديرة مكتب منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تونس: “هناك مخاطر متزايدة من ذهاب المساجين إلى التطرف في السجون المكتظة؛ حيث أظهرت السلطات التونسية عجزها عن السيطرة على الوضع”.
وتضيف: “إنهم يخلطون معاً المخالفين من مستوى منخفض مع أولئك الذين يُزعم أنهم شاركوا في الإرهاب. ويزيد ذلك من التعرض لاحتمال التحول إلى التطرف والإجرام بالنسبة للمدانين بجرائم صغيرة مثل مجرد تدخين سيجارة ماريوانا”.
محمد زورقي، الذي كان قد تطرف ذات مرة في سجن تونسي، هو من الناشطين الذين يدفعون إلى إجراء إصلاح عاجل للسجون. ويقول السيد زورقي: “كل ما يتطلبه الأمر هو مجموعة من خمسة أفراد لجعل المئات يتطرفون. إذا لم نوفر أئمة مرخصين ليبينوا الطريق الصحيح للإسلام، وإذا لم نقم بزيادة كوادر السجون، فإن الآلاف سيسلكون طريق التطرف”.
على خُطى أوروبا
نظراً لمحددات القانون، يبحث الأردن وتونس أمر تطبيق إجراءات “استثنائية” من النوع الذي استخدمته الدول الأوروبية –والتي عادة ما تثير مخاوف متعلقة بحقوق الإنسان.
الإجراءات الأمنية، التي تم تمريرها بموجب قوانين مكافحة الإرهاب أو حالات الطوارئ، تتيح للسلطة التنفيذية اعتقال ومراقبة، بل وحتى سحب الجنسية من المشتبه بضلوعهم بالإرهاب والمدانين به.
وأحد الأمثلة البارزة هو “إجراءات التحقيق ومنع الإرهاب” البريطانية. وحسب هذه الإجراءات يكون المشتبه بتورطهم في الإرهاب والمدانون الذين أطلق سراحهم حديثاً لسنتين موضوعاً لـ”التعقب الإلكتروني”، وتترتب عليهم مراجعة مراكز الشرطة بانتظام، وهم ممنوعون من السفر إلى الخارج، ويُطلب منهم الإقامة في بيوت مسجلة، ويُحظر عليهم التواجد في أماكن عامة محددة للحيلولة دون تطرف الآخرين.
كما طبقت فرنسا إجراءات مماثلة بعد إعلان حالة الطوارئ في أعقاب هجمات باتاكلان في العام 2015. وتسمح سلطات حالة الطوارئ لوزير الداخلية أو الأجهزة الأمنية بوضع أي فرد يُعد تهديداً أمنياً تحت الإقامة الجبرية، وإجراء عمليات تفتيش من دون مذكرة.
لكن الإجراءات الإدارية الأشد بهذا الخصوص ربما تكون في أستراليا؛ حيث تمتلك الحكومة الفيدرالية الآن السلطة لاحتجاز المدانين بالإرهاب بعد انتهاء فترة محكومياتهم لثلاث سنوات إضافية -قابلة للتجديد سنوياً وإلى أجل غير مسمى.
ويراقب الأردن وتونس ويدرسان استخدام قواعد مماثلة للتعامل مع المقاتلين العائدين. ويقول محمد المومني، الناطق بلسان الحكومة: “نريد أن نبحث في طرق تجعلنا نمتلك القدرة القانونية، بعد خمس سنوات، على مراقبة وإيقاف ومعاقبة أولئك الذين يغادرون السجن بتهم الإرهاب”.
ثمة قانون داخلي مقترح، والذي من شأنه أن يمنح الحاكم السلطة لتجديد احتجاز مدان بالإرهاب بعد انقضاء محكوميته، أو وضع مواطن تحت الإقامة الجبرية. كما سيسمح للحاكم أيضاً بأن يطلب من المقاتلين العائدين أو المدانين بالإرهاب الحضور بانتظام إلى مركز الشرطة المحلي والحصول على إذن بتغيير مكان الإقامة، أو العمل، أو مغادرة البلاد، أو حتى إجراء المعاملات المالية.
وباستعارة إجراء آخر من بريطانيا، يستطيع الأردن أن يجبر المقاتلين العائدين على ارتداء أساور إلكترونية توفر إحداثيات تحديد الموقع الجغرافي GPS.
ويفكر المسؤولون التونسيون في تجريد المشتبهين بالإرهاب من حقوق السفر داخل البلد والعمل أو إجراء المعاملات المالية -مما يتركهم تحت الإقامة الجبرية بحكم الأمر الواقع.
ويقول مسؤول تونسي مقرب من وزارة الداخلية: “سوف تكون للمواطنين التونسيين المشتبه بتورطهم في الإرهاب جنسية بالاسم فقط”.
تحديات إعادة التأهيل
مع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو إعادة التأهيل وإعادة الدمج، وأكبر عائق يقف أمام ذلك هو المال.
جربت أوروبا مجموعة متنوعة من الأساليب، من برنامج يوفر للمقاتلين السابقين الدعم النفسي والإرشاد والتعليم في الدنمارك، إلى برنامج “تشانيل” البريطاني، الذي يعزل الإرهابيين السابقين في جمهور عام من غير الجهاديين، ويقطعهم عن مصادر التطرف.
لكنها كلها كانت مكلفة جداً، ويواجه الأردن وتونس عجوزات متزايدة في الميزانية. وبالنسبة لكلا البلدين، لا تشكل إعادة التأهيل وإعادة الإدماج أولوية.
يدير الأردن مُسبقاً برنامجاً متواضعاً لنزع التطرف لمدة شهر واحد، والذي يربط المدانين بالإرهاب بأطباء نفسيين وعلماء اجتماع وعلماء دين. لكن دبلوماسيين أوروبيين على معرفة واسعة بالبرنامج يقولون إنه “غير كافٍ”.
ويقول مسؤولون تونسيون إنهم يفتقرون إلى الأموال لتعيين أئمة تجيزهم الحكومة لقيادة الصلوات وتقديم النصح في السجون، ناهيك عن وضع برنامج شامل لتوفير التعليم ومهارات
العقاب هو الخيار الأسهل
يقول ديفيد ويلز، خبير مكافحة الإرهاب في بريطانيا: “إن إبعاد شخص ما لسنتين أو خمس سنوات والأمل بأن تذهب المشكلة هو خيار تذهب إليه العديد من الحكومات، لأنه أسهل، وأرخص كلفه، ويمكنك أن تقول معه للجمهور إنهم أصبحوا أكثر أمناً”. لكن ذلك لا يكفي، كما يقول الخبراء.
تقول إيفا إنتينمان، زميلة البحث ومديرة برنامج في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي: “كل فكرة الردع (من خلال) إصدار أحكام السجن الطويلة –هناك أدلة كثيرة تقول أنها لا تساعد. إنك إذا نظرت إلى إرهابي يكون سعيداً بالموت من أجل قضية، فلماذا قد يقوم حكم بالسجن لمدة 20 عاماً بردع أحد؟”.
بالنسبة لأحمد، وهو تونسي عاد مؤخراً من معسكر تدريب لـ”داعش”، فإن المفتاح هو الأمل. وقال للمونيتور في الخريف الماضي بينما كان يقوم بإصلاح مضخة مياه في ورشته في تونس العاصمة: “إذا أصبحَت لنا حصة في مستقبلنا، سوف نحمي بلدنا ولن ندمره”. وأضاف: “بغير ذلك سيكون البديل هو الجهاديون، وهم يعرضون مكافأة. الآن وفي الآخرة”.
تايلور لك
صحيفة الغد