استعادت القوات العراقية مدينة الفلوجة من براثن “داعش” قبل أشهر عديدة، وكان صباح رشيد أكثر من مستعد للعودة إلى موطنه. لكن الشرطة حذرته من العودة.
فقد زرع مقاتلو “داعش” الفارون عبوات ناسفة في ضاحيته الواقعة جنوبي الفلوجة، والتي لم يتم نزعها حتى الآن، كما قالوا له. وقيل أن ثمة جثثاً للمتمردين ما تزال ملقاة ولم تتم إزالتها.
لكن السيد رشيد، 30 عاماً، من النوع العاقد العزم، انتقل عائداً إلى بيته المسلوب على أي حال. وكان هو وعائلته قد هربوا من “داعش” قبل ثلاثة أعوام ولم يرد الانتظار أكثر. وهكذا عاد هو وأفراد عائلته أخيراً وخيموا خارج منزلهم المتداعي، حيث لا تدفئة ولا كهرباء أو مياه جارية. وقاموا بتسخين الماء على نار الحطب. وانتظروا وسط حنق متصاعد بسبب تأخر المساعدة الحكومية الموعودة.
بعد ثمانية أشهر تقريباً من استعادة الفلوجة، ظهر أن حكومة العراق استطاعت السيطرة على واحدة من قواعد الدعم الرئيسية لمجموعة “داعش”. لكن ذلك الانتصار يبدو تحت الخطر الآن.
لم تظهر الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة أن باستطاعتها تأمين وإعادة بناء المدينة السنية المدمرة والتخفيف من حدة المعاناة الطائفية، أو تقديم مساعدات لحوالي 250.000 مواطن عائد. ويخشى المسؤولون العراقيون والأميركيون الآن من احتمال أن يتبنى سنة الفلوجة “داعش” إذا لم تعطهم الحكومة العراقية سبباً للثقة فيها.
ويقول مسؤولون محليون إن هناك خلايا نائمة لـ”داعش” ما تزال نشطة، وأن العديد من السكان يستمرون في مساعدة المتمردين. كما استؤنفت حرب رجال العصابات: ففي واحد من الحوادث الأحدث، قتلت قنبلة وضعها مفجر انتحاري في سيارته ضابطي شرطة يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي.
كانت بذور النصر غير المكتمل موجودة هناك منذ البداية. فلطالما كانت الفلوجة مهملة من الحكومة، كما أنها كانت المدينة العراقية الأولى التي تسقط وتصبح تحت سيطرة “داعش”. وحتى مع طرد المجموعة في الغالب، واجهت الحكومة افتقاراً واسع النطاق إلى ثقة المواطنين.
كما أن المعركة من أجل استعادة المدينة عولت بشكل كثيف على قوات المليشيات الشيعية، والعديد منها يتلقى الدعم من إيران، حيث ظهرت في الحال تقريباً تقارير عن إساءة معاملة طائفية ضد المواطنين السنة. وفي إحدى الحالات، قال محافظ الأنبار المجاورة إن مقاتلي المليشيات وحلفاءهم أقدموا على إعدام 49 سنياً من الفلوجة إعداماً ميدانياً بينما مارسوا التعذيب بحق آخرين.
على الرغم من أن الحكومة حاولت إبقاء المليشيات بعيدة عن الفلوجة لتفادي تعذيب المواطنين السنة، فإن العديدين دخلوها في زي رجال الشرطة، كما قال مشرعون سنة. وقال مسؤولون محليون إن انتشار رجال المليشيات الشيعة أصبح الآن مقصوراً على نقاط التفتيش في أطراف الفلوجة التي تبعد نحو 40 ميلاً إلى الغرب من بغداد.
يقول سلام عجمي، عضو المجلس البلدي في الفلوجة: “بالطبع حدثت انتهاكات في بعض الأماكن”. وأضاف أن بعض الموطنين السنة يتعاونون الآن مع القوات الأمنية للمساعدة في اجتثاث الخلايا النائمة لتنظيم “داعش” في المدينة.
أظهرت زيارة للفلوجة قام بها صحافيو “التايمز” أن معركة الصيف الماضي قد تركت بعض أجزاء المدينة غير متأثرة نسبياً، لكنها سوت أجزاء أخرى بالأرض. وثمة العديد من الشوارع المليئة بالبنايات المتهدمة والأسطح المنهارة والسيارات المحروقة، وكلها يعلوها الغبار الرمادي. وثمة هيكل عربة هامفي يجثم بالقرب من منزل رشيد.
بالنسبة للسيد رشيد، فقد تلاشت فرحة العودة إلى الديار بفعل الاستياء من المسؤولين السنة المكلفين بإعادة بناء المدينة.
وقال بينما كان نجلاه الشابان يغذيان نار المخيم بعشب جاف: “إننا لا نحصل على أي شيء سوى الوعود —ونحن على ما نحن عليه”.
يعيش أعضاء العائلة بفضل غذاء اشتروه من سوق افتتح حديثاً في منطقة قريبة. أما ضاحيتهم الخاصة، العلمين، فلا تعرض سوى صورة قاتمة للمنازل التي اخترقتها الطلقات النارية وشوارع مهجورة.
من جهته، قال الشيخ طالب العيفان، رئيس المجلس المحلي للفلوجة الذي وعد العائدين بأن المساعدات في طريقها إليهم: “لقد تلقت الفلوجة دروساً قاسية -ونأمل أن يكون هذا آخر درس قاس لنا”.
كان السيد العيفان يتحدث في غرفة باردة مظلمة داخل بناية قال إنها كانت تستخدم كمقر لـ”داعش”، وهي الآن مكتب مؤقت للمجلس. وكان التيار الكهربائي يتردد جيئة وانقطاعاً. والسيد العيفان هو نفسه من العائدين. وكانت منازله الثلاثة – واحد لكل زوجة- قد دمرت خلال احتلال “داعش” للمدينة، كما قال. وما يزال يعيش في منزل صديق له منذ عودته في شهر آب (أغسطس) الماضي. وقال: “يجب على الناس أن يتوقعوا التأخير. إنهم يحتاجون إلى أن يصبروا”.
من جهته، قال البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة إنه قام بإجراء إصلاحات مؤقتة لمستشفى التعليم الرئيسي في المدينة ولخمس مدارس ومراكز صحة. واستعادت الوكالة الكهرباء والماء بشكل جزئي في العديد من المناطق، وأزالت الركام ووظفت 300 عامل محلي لتنظيف الشوارع.
تقول ليز غراند، نائبة الممثل الخاص للأمم المتحدة في العراق، إن عمل إضفاء الاستقرار الذي تقوم به الوكالة هو المساعدة في ترقيع الفلوجة إلى أن يتم تنفيذ المزيد من الترميمات الدائمة. وكانت الوكالة قد أنفقت مبلغ 8.6 مليون دولار من أصل 18.5 مليون دولار مخصصة –وهو جزء صغير من أصل المبلغ المخصص لإعادة بناء المدينة.
وقال السيد عجمي، رجل المجلس، إن المجلس لديه القليل من المال. وجعلت أسعار النفط المنخفضة اقتصاد العراق يتعثر. والحياة صعبة في كل مكان وليس فقط في الفلوجة، كما قال.
وقال حسين أحمد، 53 عاماً، والذي عاش في مخيم المشردين ثلاثة أعوام، إنه فقد صبره مع المجلس. وكان قد عاد إلى الفلوجة ليجد منزله مدمراً –وهو المنزل الثالث الذي يفقده. وقال إن المنزلين الآخرين كانا قد دمرا خلال المعارك ضد مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق.
وأضاف: “لقد تضررنا بشكل بشع بسبب داعش. وها نحن نتضرر الآن من حكومتنا”.
وأشار السيد أحمد إلى مجموعة كبيرة من البنايات المهدمة: “هذه المنطقة حررت في حزيران (يونيو)، وما تزال على حالها حتى الآن”.
وطأطأ آخرون رؤوسهم عندما أضاف السيد أحمد قائلاً: “إنني أتحدث نيابة عن آلاف الناس عندما أقول إن الحكومة قد أهملتنا”.
ما تزال الفلوجة في حالة مأساة ملحمية منذ العام 2003. وكانت المدينة قد قصفت خلال معارك متكررة -أولاً بين الولايات المتحدة وقوات صدام حسين في العام 2003، ثم بين قوات البحرية الأميركية وبين مقاتلي تنظيم القاعدة. وكان قد تم إبعاد معظم المتمردين من المدينة بمساعدة مقاتلي العشائر السنية.
لكن التمرد ولد مجدداً في شكل “داعش”. واجتاح التنظيم الفلوجة في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2013 وأصبحت المدينة قاعدة مهمة لعملياته. وكان أحد الأسباب التي دفعت الحكومة إلى مهاجمة المدينة في أيار (مايو) الماضي -حتى قبل الالتفات إلى الحملة الحاسمة من أجل استعادة الموصل التي تقع إلى الشمال- هو لجم حملة سيارات انتحارية كارثية ضد بغداد، والتي كانت تدار من الفلوجة.
والآن، يعمل الجيش الأميركي مع القوات العراقية لمنع مقاتلي “داعش” من العودة مرة أخرى إلى الفلوجة، وكما قال الناطق الكولونيل جونال دوريان: “لقد أثبتوا أنهم عنيدون”.
تشكل الفلوجة مصدر قلق وحيد بالكاد لدولة لديها 3.1 مليون مشرد داخلياً. ويتم صب موارد الحكومة في معركة الموصل، بينما تحاول أيضاً إعادة بناء الفلوجة والرمادي في محافظة الأنبار، بالإضافة إلى ترميم مدينة تكريت التي تقع أبعد إلى الشمال.
من أصل أل 320.000 شخص الذين هربوا من الفلوجة إلى مخيمات المساعدات، عاد نحو 250.000 إلى مدينتهم منذ منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، وفقاً لما ذكرته الأمم المتحدة. وهم يتوقون إلى العيش في موطنهم ثانية.
في جنوب الفلوجة، هز الملازم أول في الشرطة العراقية، وليد محمد، رأسه بينما يشعل السيد رشيد ونجلاه نار المخيم. وقال: “قلنا له إن هناك خطراً عليهم… إنهم هم المسؤولون إذا حدث شيء لهم ولنا نحن”.
تقول السيدة اليزابيث كويك، من مجلس اللجوء النرويجي في العراق، متحدثة عن السماح للمواطنين بالعودة إلى مناطق خطيرة محرومة من الخدمات العامة: “هذا شيء مقلق بشكل لا يصدق”.
وقال السيد رشيد إنه عاد بعد أن قتل انفجار سيارة مفخخة أحد العائدين في منطقة قريبة من المفترض أنها طهرت. وبعد أن انتقل السيد رشيد إلى المدينة، قتلت امرأة بسبب انفجار حدث يوم 31 كانون الثاني (يناير)، وقالت الشرطة إنها كانت ترمم منزلها في نفس المنطقة.
وقال السيد رشيد إنه معتاد على المخاطر. ورفع قميصه ليكشف عن ندوب قرمزية على بطنه من أثر قنبلة فجرها مقاتلو “داعش” في سيارة العائلة في أواخر العام 2013. وما يزال المقعد الأمامي للسيارة جاثماً في الساحة الأمامية للمنزل.
فجأة، ظهر رجل طويل رمادي اللباس: محمد سعيد، 49 عاماً، وهو جار للسيد رشيد الذي لم يره من العام 2013. وكان السيد سعيد قد عاد في صبيحة ذلك اليوم، بعد ثلاثة أعوام من هروبه من المدينة. وكان منزله متسخاً ومن دون كهرباء ولا ماء. لكنه كان يتحرك في داخله.
قبّل السيد سعيد السيد رشيد على الوجنتين. وقال له: “أنا سعيد جداً. إنه مكان خطير ومرعب لكننا عدنا إلى موطننا”.
ديفيد زوكشينو
صحيفة الغد