أقرت لجنة الشؤون المصرفية بمجلس الشيوخ الأمريكى مؤخراً مشروع قانون يقضي بفرض عقوبات جديدة على إيران حال الفشل في التوصل لاتفاق شامل بشأن برنامجها النووي، بحيث يسري مفعولها اعتباراً من الأول من يوليو 2015، وقد لوح أعضاء اللجنة بتقديم مشروع القانون للتصويت النهائي إذا لم تتوصل طهران لاتفاق يقضي بتجميد برنامجها النووي، وتقديم الضمانات اللازمة بشأن عدم السعي لامتلاك سلاح نووي قبل يوم 24 مارس القادم، وهو الموعد الذي سبق تحديده للتوصل لمثل هذا الاتفاق الشامل.
وفيما هدد الرئيس الأمريكى “باراك أوباما” باستخدام حق النقض “فيتو” للحيلولة دون إقرار العقوبات الجديدة على إيران من قبل الكونجرس، مشدداً على ضرورة مواصلة المفاوضات، مع جعل كافة الخيارات مطروحة على الطاولة؛ أكد وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” أن مسألة فرض عقوبات أمريكية جديدة سيعرقل فرص التوصل لاتفاق بشأن برنامج طهران النووي، وتقويض المكاسب التى تحققت خلال الجولات السابقة من المفاوضات.
الخلافات الداخلية بشأن المفاوضات النووية مع الغرب
تلقي المفاوضات النووية التى تجريها إيران منذ فترة، وكثافة جولاتها، منذ وصول الرئيس “حسن روحانى” لسدة الحكم، بظلالها على الواقع الداخلي في طهران، حيث تنقسم الدولة منذ ذلك الحين – بشكل واضح- بين مؤيد لها ومعارض. فمؤسسة الرئاسة تخوض جولات متعددة حول البرنامج النووي المثير للجدل برئاسة وزير الخارجية “جواد ظريف”، وأثمرت عن شبه تقدم أدى لتحقيق بعض المكاسب سواء من ناحية الإفراج عن بعض الأرصدة المجمدة أو التغاضي عن بعض الأنشطة الاقتصادية الإيرانية مع دول الاتحاد الأوروبي.
غير أن مؤسسة الرئاسة تواجه معارضة حقيقية من جانب الحرس الثوري الذي يخشى قادته من أن يؤدي تحقيق تقدم جدي نحو اتفاق شامل إلى التأثير على نفوذهم السياسي والاقتصادي، نظراً لسيطرة الحرس الثوري على ما يقرب من 50% من المقومات الاقتصادية للدولة الإيرانية، فهؤلاء يدركون تماماً أن تحقيق التسوية لهذا الملف وما يستتبعه من رفع للعقوبات الاقتصادية المفروضة منذ فترة بعيده على إيران، سيؤدي حتماً لدخول أطراف أخرى تؤثر سلباً على النسبة الكبيرة التى يحتفظ بها الحرس الثوري من النشاطات الاقتصادية، لاسيما فيما يتعلق بقطاعات النفط والغاز والإنشاءات، والتى احتفظت بها مؤسسة الحرس الثورى حتى الآن باعتبارها الأقدر على خلق كيانات وواجهات أمامية تستطيع من خلالها الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على إيران، فضلاً عن كون هذه المكاسب الاقتصادية أحد أشكال العطايا الممنوحة لهذه المؤسسة باعتبارها الضامن الأهم لاستمرارية النظام في إيران وضمانة لولاء أعضاءها.
بالتوازي مع ذلك، فإن مؤسسة الإرشاد بقيادة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية “علي خامنئي” الذي يمسك بزمام الأمور فيما يتعلق بمسألة حسم القرار السياسي بشكل عام، وخصوصاً التوجهات المرتبطة بالعلاقات الخارجية، ومنها ملف المفاوضات النهائية مع الغرب، لاتزال تمارس لعبة التوازن بين مؤسسات الدولة ومن ثم علاقاتها بعضها ببعض، فالمرشد يدرك مدى تأثر الواقع السياسي الداخلي سلباً حال نجاح العملية التفاوضية، فضلا عن تبعات الانفتاح على الغرب على الوضع الاجتماعي في طهران، ومن ثم استمرارية سيطرة التيار والفكر الثوري على الموقف السياسي، ورغبته في ذات الوقت في الاحتفاظ به على شكله الحالي، مع إدراكه التام لصعوبة استمرارية الوضع الاقتصادي بشكله الراهن وتداعيات ذلك على الموقف الداخلي.
وعليه، فإن “خامنئي” يسعى لإحداث انفراجة تُمكن النظام من الترويج الداخلي كأولوية لنجاح نهج الثورة في إجبار الغرب على التجاوب مع الحقوق الإيرانية، وفرض النظام لرؤيته فيما يتعلق بشكل التسوية بالنسبة للملف النووي، ورفع العقوبات الذي تستتبعه توقعات بقفزة اقتصادية نوعية ومعدلات نمو اقتصادي قد تصل إلى حوالى 8% سنوياً، تُمكنه من فرض مزيد من السيطرة على الأوضاع، مع احتفاظه بوضعيته كحكم نهائي بين المؤسسات المتصارعة.
تبعات التحركات الإقليمية للحرس الثوري الإيراني
تُلقي التحركات المستمرة للحرس الثوري الإيراني وأجهزة الاستخبارات الإيرانية في العديد من دول الشرق الأوسط بظلالها على استمرارية الجهود المبذولة من جانب مؤسسة الرئاسة لإحداث تقدم في المفاوضات النووية مع القوى الغربية، والتحركات الموازية للحوار مع الولايات المتحدة بشكل خاص ظاهرياً، في حين أن السياسة الإيرانية التي تنتهج تكتيك “تلازم المسارات” تسعى للتوصل لاتفاق متكامل يضمن لطهران ليس فقط الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، بل والتمدد بشكل أوسع للعب دور إقليمي أكثر اتساعاً وتأثيراً.
تُساند إيران النظام السوري وتحول مساعداتها له لمنع سقوطه، وذلك بالتعاون مع حليفها الرئيسي بالمنطقة “حزب الله”، والذي يقوض أيضاً العملية السياسية في لبنان، مروراً بدور إيران في العراق، وكذلك في اليمن، وتسعى في مقابل التوصل لاتفاق مع الغرب فيما يتعلق ببرنامجها النووي أن يضمن لها الاحتفاظ بالإنجازات التي حققتها في الصدد، والحفاظ أيضاً على دورها الإقليمي والاعتراف به من قِبل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، ودخولها في أي معادلة محتملة مرتبطة بالموقف الإقليمي، بل والتسليم باعتبارها القوة الإقليمية الأكثر تأثيراً بالشرق الأوسط.
لذلك، فإن ازدواجية الحركة الإيرانية باستخدام كافة أدواتها المتاحة والصراع الداخلي الدائر بين المؤسسات المحافظة والإصلاحية، التي تسعى من خلاله الدولة الإيرانية للتأكيد عليه وتصدير صورة ذهنية للخارج بوجودة، هو في حقيقته لا يعدو أن يكون استخداماً من جانب طهران لأنماط متفاوتة من أدواتها، سعياً وراء تحقيق أقصى مكاسب ممكنة، وإن بقى الصراع الداخلى حقيقياً ولكن في إطار النظام القائم وبرعاية مرشد الثورة نفسه.
الانعكاسات الداخلية لتقدم المفاوضات النووية
تكتسب المفاوضات التي تتبناها مؤسسة الرئاسة برعاية من مرشد الثورة ذاته، أهمية تتجاوز إحراز تقدم على صعيد البرنامج النووي والتوصل لتسوية بشأنه، حيث إن ثمة أبعاداً ترتبط بانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في طهران بشكل عام.
على المستوى الداخلي، فإن الرئيس “روحانى” الذي يمثل التيار الإصلاحي يتطلع لانعكاسات تؤدي لمزيد من الحريات الداخلية على مستويات حرية الصحافة والإعلام والتعبير بشكل عام، وحقوق الإنسان، وتعزيز الأطر الديموقراطية – بعيداً عن المساس بثوابت النظام الإسلامى والفكر الثوري – وهو ما يلقى استهجاناً واسعاً من جانب المحافظين باختلاف فئاتهم، نظراً لتحسبهم من تداعيات ذلك على مدى قدرتهم على السيطرة على الموقف الداخلي، خاصةً وأن توجهات الإصلاحيين تلقى رواجاً واسعاً لدى غالبية الفئات الشبابية الطامحة لمزيد من الحريات، وما يمثلونه من ثقل وضغط على النظام. وقد واجه عدد من رموز الإصلاحيين – سواء التابعين للحكومة الحالية أو المناصرين للرئيس “روحانى” – انتقادات واسعة بسبب أسلوب إدارة ملف المفاوضات الذي يضطلع به وزير الخارجية “ظريف”.
التداعيات المتوقعة على المنطقة
تبدو فرص التوصل لاتفاق متكامل بين الغرب وإيران خلال الفترة القصيرة القادمة محدوداً، وإن كانت أفضل نسبة متوقعة لذلك لا تتجاوز بأي حال من الأحوال نسبة 50%، نظراً لاحتياج طهران مزيداً من الوقت، بل إن تكتيك “إطالة المفاوضات” يصب في مصلحتها، وفي مقابل ذلك لا تملك الإدارة الأمريكية التي تعاني ضغوطاً داخلية كبيرة تلك الرفاهية. وبالتالي فإن الرئيس “أوباما” الساعي لتسوية تضمن تحقيق مكاسب هامة في أحد أبرز الملفات التى تواجه إدارته، سيعمل على تقديم تنازلات متواصلة تصب في مصلحة طهران التي تجيد ممارسة اللعبة باستخدام أدواتها المتنوعة وفرض إرادتها، الأمر الذي سيكون حتماً في غير صالح أطراف عربية كثيرة، لاسيما القوى الرئيسية الفاعلة، وفي مقدمتها مصر والسعودية، خاصةً وأن الأخيرة مشتبكة في عدد من الملفات مع الحركة الإيرانية الفاعلة في كل من سوريا ولبنان، وتناقض المواقف بين “الرياض” و”طهران” بشأن هذين الملفين.
ومن ثم فإن إيران تمارس الضغط على السعودية لدفعها للتنازل عن دعمها لجهود إزاحة النظام السوري وتغيير موقفها من الرئيس السورى “بشار الأسد”، بإثارة قضايا حساسة تتجاوز في أهميتها التحركات السعودية بالشأن السوري، كما هو جار حالياً في اليمن ودعم “طهران” للحوثيين هناك، فضلاً عن قضايا الأقليات الشيعية بالمملكة، والقلاقل في البحرين، وأيضاً الاحتفاظ بتأثير قوي على المشهد العراقى والقرار فيه، وهو ما يؤثر بالتبعية سلباً على مصر نظراً لتشابك المصالح بينها وبين السعودية، ومساندة الأخيرة لاستقرار الدولة المصرية، بالإضافة إلى تداعيات عدم استقرار الموقف في الخليج العربي على الأمن القومى المصري، خاصةً أن طهران تستثمر رغبة الغرب والولايات المتحدة في عدم إضاعة فرصة التفاوض معها، في الضغط على دول المنطقة وتحقيق مكاسب على حسابها تخدمها في العملية التفاوضية.
أولويات الحركة الإيرانية وأدواتها خلال المرحلة القادمة
لاشك أن الحركة الإيرانية بالمنطقة قد زاد اتساع مجالها مؤخراً على خلفية القلاقل التي واجهت دولها الرئيسية وعلى رأسها مصر، وانشغال السعودية بالتعقيدات التي خلفتها الأزمات في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، الأمر الذي أتاح الفرصة لإيران لملأ الفراغ الناشئ عن ذلك الوضع، وتكريس أدواتها من خلال حلفائها التقليديين أو الانتهازيين الذين سعوا لاستثمار التقلبات السياسية في دولهم لتغيير المعادلات التقليدية التى استقرت بفعل ثبات هذه الأنظمة لفترات طويلة وعدم وجود نخب حقيقية قادرة على تعويض هذا الخلل، حيث عمدت إيران منذ اللحظة الأولى إلى استثمار الوضع غير المستقر لتدعيم الأقليات كما حدث فى اليمن، ومحاولة فرض واقع جديد يؤثر على المصالح الاستراتيجية للقوى الفاعلة بالمنطقة، حيث إن تواجدها في منطقة “باب المندب” يلقي بظلاله على أمن البحر الأحمر وحركة الملاحة من وإلى “قناة السويس”، وهو ما يؤثر حتماً على المصالح المصرية، وكذلك السعودية التي باتت محاصرة بفعل التواجد الإيراني غير المباشر باليمن والذي قد يتطور لاحقاً، فضلاً عن التواجد المباشر في العراق.
وتسعى إيران لفرض نفوذها على الممرات المائية الرئيسية بالمنطقة، حيث أصبحت تؤثر على اثنين منهما: “هرمز” و”باب المندب”، خاصةً مع تواجد قطعها البحرية قرب الأخير بدعوى حماية قوافلها البحرية من مخاطر عمليات القرصنة، وعمليات تهريب السلاح للحوثيين من خلال أطراف موالية لها في الصومال. كما أن إيران تمارس نفوذها في المشرق العربي من خلال أدواتها الموالية لها في العراق الذي بات قراره السياسي منقسماً ومتأثراً بالحركة الإيرانية منذ فترة بعيدة، فضلاً عن نفوذها الواسع في سوريا ولبنان، بالإضافة لاتصالاتها الواسعة مع حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في الأراضي الفلسطينية.
وواضح أن إيران قد أجادت – حتى الآن – فرض أجندتها على سير الأحداث في تلك المناطق، مستفيدة من تعقيدات المرحلة وانعكاساتها على الدول الرئيسية، ومستثمرة أيضاً المسعى الغربى وتحديداً الأمريكي لتسوية الملف النووي الإيراني، وكذلك ملف الإرهاب وعلى رأسه معضلة تنظيم “داعش” وانتشاره في العراق وسوريا، وإدراكها لحاجة الدول الغربية المتزايد للدور الإيرانى لحسم هذا الملف، مقابل تراخ متعمد من جانب طهران تجاهه باعتباره أحد أبرز الأوراق التفاوضية التي تستثمرها في الضغط على واشنطن، وإبراز دورها الإقليمي الذي تتحسب منه الولايات المتحدة في الوقت ذاته، نظراً لتأثيرات هذا الدور على أمن إسرائيل من ناحية، والقلق من ردود أفعال الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة بالشرق الأوسط من ناحية أخرى.
إضافة لذلك، فإن إيران تعي جيداً خطورة التسرع في حسم الملفات المطلوبة في ظل إدراكها لصعوبة الاعتماد على الولايات المتحدة والثقة فيها، لذلك فإن طهران ستسعى خلال المرحلة القادمة لإطالة أمد العملية التفاوضية، وبالتالي التدخل بشكل حاسم في الملفات التي تتشابك مصالحها فيها سعياً منها لمزيد من التعقيد الذي سيؤدي حتماً لكسب مزيد من الوقت بالنظر لتسارع الأحداث وتشابكها، وتداخلها مع مصالح أطراف أخرى سواء من دول المنطقة أو القوى الدولية الأخرى، وبما سيصب في صالح تعزيز الثقل السياسى لإيران، ودفع القوى الغربية لإبداء مزيد من المرونة تجاهها، والقبول بها وفقاً للمنظور الإيراني، الأمر الذي سيعزز من فرص الاقتناع بها باعتبارها القوة الرئيسية الأكثر تأثيراً بالمنطقة والاعتراف بحيوية دورها، وإسهام ذلك أيضاً في دفع الدول الرئيسية بالشرق الأوسط للقبول بها كفاعل رئيسي لا يقل أهمية عنها، بل ويزيد، نظراً لقدرته التأثيرية على واقع الأحداث فعلياً على الأرض، وهو المكسب الحقيقي للنظام الإيراني بشكل خاص الذي لطالما سعى للترويج لكون النموذج الثوري الإسلامي الذي يتبناه الأكثر قدرة على فرض نفسه بواقعية في مواجهة الغرب، رغم أنه يسعى في المقام الأول إلى الحفاظ على نفسه ومكتسباته في الداخل الإيراني.
مصطفى سالم
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة