أكد جيريمي غرينستوك، المبعوث البريطاني إلى العراق بعد 2003 والذي عمل إلى جانب بول بريمر المكلف إدارة سلطة التحالف الأمريكية المؤقتة في بغداد في تلك الفترة، ان خصوم الحل العادل في فلسطين المتعاطفين مع إسرائيل في السلطة الأمريكية -آنذاك- لعبوا دورا في التأثير على حسابات الإدارة الأمريكية ودفعها إلى الخيار العسكري وغزو العراق بدلا من خيارات أخرى ردا على هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على أمريكا.
وأشار غرينستوك في كتاب صدر له مؤخراً بعنوان: «العراق: ثمن الحرب» وكان قد كتبه في عام 2005 وطلبت الحكومة البريطانية منه عدم نشره آنذاك، وأعيد تحريره، وقرر الكاتب وضعه في التداول في الأشهر الأخيرة من العام الماضي بعد إضافة مقدمة وخاتمة قيمتين إليه، بأن مجموعة من القياديين الأمريكيين من المحافظين الجدد المحيطين بالرئيس جورج بوش الابن والمؤيدين لإسرائيل دفعوه إلى إعطاء الضوء الأخضر للهجوم على العراق، بدلاً من أفغانستان، بعد العمليات الإرهابية التي وقعت في نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، مع ان منفذي الهجوم ارتبطوا بمنظمة «القاعدة» المتحالفة مع حركة طالبان الأفغانية. وفي طليعة هذه المجموعة المحرّضة كان نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتز والمسؤولين الآخرين في وزارتي الدفاع والخارجية ريتشارد بيرل، دوغلاس فايث، لويس ليبي وايليوت ابراهامز (الذي طُرح اسمه لمنصب نائب وزير الخارجية في حكومة دونالد ترامب الجديدة).
واستخدم هؤلاء لإقناع بوش الابن، حسب غرينستوك، حجة ان العراق بقيادة صدام حسين وجه تحدياً لسلطة أمريكا في العالم كدولة عظمى كما دعم ما سمي الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل وشكل خطراً على الاستقرار في العالم وعلى أهم منطقة تصدير للنفط فيه بالإضافة إلى امتلاكه أسلحة الدمار الشامل.
وعبّر المؤلف عن دهشته لعدم التركيز الكافي على العامل الإسرائيلي في تشجيع الغزو الأمريكي للعراق قائلا في الصفحة (79): «ان التعلق الأمريكي بإسرائيل يشمل عنصراً من الأيديولوجية والعاطفة وقليلاً من البراغماتية» وهذا الأمر، في رأيه، يعود لعوامل دينية وتاريخية.
ومن الأمور اللافتة في الكتاب، انه توقع في الجزء الذي كتبه في عام 2005 ان تؤدي الأخطاء التي ارتكبت في الغزو إلى تصاعد الإرهاب في العراق نفسه وفي منطقة الشرق الأوسط والعالم أيضا. فالشعوب العربية والإسلامية عموما، ناقمة على الطريقة التي تم التعامل بها مع العراق والتي يتم التعامل بها مع القضية الفلسطينية من قبل أمريكا وإسرائيل وحلفائهما.
وتساءل في القسم الأول من الكتاب عن الأسباب التي دفعت بالرئيس صدام حسين للعب الأوراق الخاطئة في تعامله مع تهديدات وسياسات أمريكا والغرب في الأشهر السابقة للغزو الأمريكي للعراق، ولماذا لم يوضح حقيقة الأمر حول أسلحة الدمار الشامل التي اتُهم باقتنائها والتي استُخدمت كحجة لغزو البلد، ولماذا تعامل مع المفتشين الدوليين بطريقة غير واضحة، وهل كان يخفي أسراراً حول هذه الأسلحة أو انه كان يلعب لعبة سياسية فيها الكثير من المراهنة؟ وردّ على هذا السؤال بقوله ان المحللين سيناقشون هذه القضايا في السنوات المقبلة لفترات طويلة إذ ان عليهم فهم ما كان يجري في عقل صدام وقادة من أمثاله. وأنه هو شخصيا يعتقد ان الرئيس العراقي كان يسعى لإظهار نفسه أمام شعبه بانه القائد القوي الذي لا ينكسر أمام التهديدات وانه لا يخشى الدول العظمى وقادتها شأنه شأن فيديل كاسترو وقادة الثورات في العالم الذين اعتبرهم مثله الأعلى.
وانتقد غرينستوك في الفصل (21) طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع العراق قبل وبعد إطاحة النظام حيث اتُخذت قرارات غير متلائمة مع الواقع سياسيا وأمنياً ما أتاح للعراقيين الغاضبين الانتقال إلى مرحلة تسلم مبادرة القرار وتنفيذه.
وبطريقة ذكية وغير مباشرة، أشار إلى ان أمريكا ناقضت نفسها عندما تصرفت في العراق كدولة امبريالية برغم ان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد نفى ان بلده «امبراطورية» ولكنه أرسل «والياً» على العراق (بول بريمر) ليشرف على كل شؤون هذا البلد الذي حُطمت مؤسساته.
وبرغم كل ذلك فان غرينستوك ذكر في أكثر من مناسبة انه حاول التعاون مع بول بريمر خلال الفترة التي قضاها كمبعوث لبريطانيا في العراق وانه شعر ان بريمر خضع لضغوط كبيرة من الإدارة الأمريكية التي تدخلت في معظم الأحيان سلباً في قراراته وخصوصاً في طريقة تعامله مع الميليشيات الشيعية ورغبته في توقيف وسجن قادتها.
كما أسف المؤلف لكون الأمم المتحدة بقيادة كوفي انان لم تستطع القيام بالدور الذي كان بإمكانها القيام به في عراق ما بعد الاحتلال لأن مثل هذا الدور لم ترتح إليه دول العالم والعراقيون واستغلته منظمات المقاومة الإرهابية التي نشأت في البلد والتي اتهمها الكاتب باغتيال المندوب الأممي الدولي المقيم في العراق سرجيون دي ميلو في عملية تفجيرية.
في الخاتمة التي وضعها المؤلف الصيف الماضي بعد ان قرر الانتظار إلى ما بعد صدور تقرير القاضي تشيلكوت في لندن حول المسؤولية في حرب العراق، طرح الكاتب مواقف شديدة الصلابة ضد الغزو العسكري الأمريكي للعراق حيث قال في الصفحة (417): «التحالف بقيادة الولايات المتحدة ادعى انه يعطي العراقيين فرصة، ولكن السنوات الأثني عشرة الأخيرة تخللها عنف لا نهاية له وقليل جداً من التحسن في مستوى حياة الشعب العراقي. ويبقى السؤال عما لو أن ديكتاتورية صدام في حكم العراق استمرت، فهل كانت ستفيد الشعب العراقي أكثر من الفوضى التي سببها النظام العراقي السياسي الجديد؟ الجواب على هذا السؤال يبقى مؤقتا، حسب قوله.
والخطأ الأكبر الذي ارتكبه التحالف بقيادة أمريكا لدى غزو العراق، حسب غرينستوك كان السماح بانفلات الحالة الأمنية في البلد مباشرة بعد انتهاء الهجوم العسكري.
لقد كان على الرئيس جورج بوش الابن ألا يطلب فقط من قادته العسكريين تحقيق دولة عراقية من دون صدام حسين، بل كان عليه تأمين دولة عراقية عاملة وفاعلة وممارسة لوظيفتها كدولة في العراق بعد صدام. وهذا الأمر كان يتطلب تحضيراً وتخطيطا مسبقين لمثل هذا الواقع المنتظر وللموارد المالية المطلوبة للمرحلة المقبلة، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد كان مصمماً على تجاهل الالتزامات الضرورية لتحقيق مثل هذا الهدف.
وأضاف المؤلف قائلا ان الفراغ في الدولة الذي انتشر ما بعد غزو العراق كان شبيها بالذي حدث بعد سقوط الأنظمة العربية في مراحل ما بعد ثورات الربيع العربي في المنطقة. كما أن أمريكا وحلفاءها لم يقوما بالخيارات الناجحة في انتقاء الشخصيات التي اتاحتها لها قيادة النظام الجديد. وهذا الأمر، في رأيه، مهد لنشوب نزاعات طائفية واثنية ولنشوء منظمات إرهابية نجحت في استقطاب بعض المسؤولين العسكريين في النظام السابق، ومدت نفوذها في العراق وسوريا وأماكن أخرى من الشرق الأوسط والعالم.
وهنا يقول الكاتب جملة خطيرة ولكنها شديدة الأهمية بالنسبة لما حدث ويحدث في العالم في هذه الفترة من التاريخ، وهي: «الكثير من الناس في كوكبنا الحالي الآن يرون إن من غير المقبول السماح للولايات المتحدة، بمفردها وعلى هواها، ان تقرر وتفسر وتطبق الشرعية الدولية». وهذا، في رأيه، الثمن الذي تم دفعه بسبب عدم إبقاء الأمم المتحدة داخل قرار غزو العراق أو عدمه من البداية إلى النهاية.
امتدح غرينستوك في الصفحات الأخيرة سياسات الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وقراراته الانسحاب العسكري من مناطق لا يحق ولا يجب لقوات بلاده البقاء فيها مقارنة بمواقف المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية سابقا من عهد بوش الابن ولاحقا.
وطرح المؤلف في الخاتمة السؤال التالي: هل انتشار الإرهاب في المنطقة يعود إلى سياستنا؟ (يقصد أمريكا والدول الغربية في العراق). ويجيب قائلاً انه لم يكن من الحكمة ترك مناطق جغرافية واسعة في فراغ لتنتشر المنظمات الإرهابية فيها وتدرب أتباعها وتعزز تسلحها على أراضيها. وثانيا، ما كان من المفيد توقيت الصراعات الطائفية والاثنية وإتاحة المجال لمجموعات مسلحة استقطاب الأحقاد الناتجة عن هذه الصراعات لتقوية انتشارها وزيادة أعداد الملتحقين بها في العراق وسوريا ومناطق أخرى.
ويبقى السؤال: هل كانت أمريكا والدول الغربية ترغب بالفعل في ترك العراق وليبيا وغيرهما في حالة استقرار ونمو؟
هنا يجب العودة إلى ما قاله جيريمي غرينستوك في بداية كتابه، فاذا كان صحيحاً (كما قال) انه كان لإسرائيل ومؤيديها في إدارة جورج بوش الابن الدور في دفع أمريكا إلى غزو العراق في عام 2003 فلماذا نتعجب عندما تترك الدول التي تتعرض لمثل هذه الغزوات في حالات من الفوضى والاقتتال الدموي مما يسهل الاستمرار في السيطرة عليها وعلى ثرواتها؟
فهل من مصلحة إسرائيل والمجموعات المؤيدة لها في الكونغرس الأمريكي وفي مجموعات الضغط الشعبية والإعلامية المعادية للعرب في أمريكا عودة العراق وليبيا وسوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية التي دُمرت، إلى أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية طبيعية وصحية؟ وهل كان بالفعل الهدف من غزو العراق وليبيا العثور على أسلحة الدمار الشامل ونشر الديمقراطية؟ في الماضي، كانت الإجابة على هذا السؤال إلى حد ما صعبة، حتى على الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، أما الآن فأصبح الجواب سهلاً، حتى على الإنسان العادي.
سمير ناصيف
صحيفة القدس العربي