تجري حالياً عملية طرد ما يدعى “داعش” الإرهابي من معاقله العراقية والسورية. لكن التنظيم كان انبعث عدة مرات بوحشية في الماضي -وقد يكون هذا الانبعاث الأخير عالمياً.
* * *
باريس – أصبحت لدى الإرهابيين ألعاب جديدة الآن، وهم يجعلون العالم يتعرف عليها. فبينما واصلت القوات العراقية المدعومة بالطائرات الحربية الأميركية والقوات الخاصة الأميركية اندفاعها نحو الموصل، يقاتل ما يدعى “داعش” بسلاحه الجوي الخاص: الطائرات المسيَّرة من دون طيار المتوفرة على نطاق تجاري، والتي تحمل شحنات من المتفجرات الصغيرة.
كان “عدد التماثل” في قوة النيران كبيراً جداً إلى درجة أنه يبدو، للوهلة الأولى، مضحكاً تقريباً. لكن قلق خبراء مكافحة الإرهاب لا يأتي من أن طائرة مسيرة واحدة تحمل قنبلة يدوية واحدة تستطيع إحداث الكثير من الضرر. وإنما يأتي الخوف والقلق من إمكانية قيام عدة طائرات مسيرة بتوجيه ضربات في وقت متزامن لتعطيل وتحطيم معنويات أعداء “داعش” وليس في ميدان المعركة فقط، وإنما أيضاً في مدن أوروبا، وربما حتى في الولايات المتحدة نفسها.
يرسم بروس هوفمان، مؤلف كتاب “من داخل الإرهاب”، سيناريو قاتماً جداً: “صورة لباريس يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 -الليلة التي ذبح فيها أناس في حفل راقص وفي مقاهي الرصيف- حيث أدخل عليها هجمات تنفذها الطائرات المسيرة. كانت السلطات ستصبح قد غلبت على أمرها تماماً. ومن شأن هذا أن يثير أكبر مخاوفنا من إمكانية هجمات حضرية متزامنة -الآن حيث تكون أسراب هذه الطائرات على رأسها”.
في ميدان المعركة، يتم حالياً تنفيذ هجمات منسقة متعددة بالطائرات من دون طيار فعلاً. وقد ذكرت شبكة “سي بي نيوز” الأميركية الإخبارية من الجبهة في الموصل مؤخراً أنها تجري إعاقة عمليات الحكومة العراقية المدعومة أميركياً لاستعادة الجزء الغربي من المدينة بواسطة “أسراب من ثلاث إلى خمس” طائرات تجارية معدلة تعمل بالمراوح، والتي تحمل قنابل يدوية صغيرة وقذائف مدفعية.
في الأثناء، يفاخر “داعش” بسلاحه الجديد، وينشر صوراً لمقاتليه في غرفة فصل دراسي وهم يدرسون الطائرات المسيرة “من دون طيار”، ويبدو المقاتلون وكأنهم هناك في دورة تدريب مهني، لكن المهنة هي الجهاد. كما نشر “داعش” أيضاً أشرطة فيديو تبث صوراً مباشرة أثناء العمل، والتي التقطتها طيوره الصغيرة وهي تحلق فوق أهداف، ثم تقوم بإسقاط المتفجرات، محققة دقة مثيرة للدهشة في الإصابة، بما في ذلك الدخول من فتحة سيارة مدرعة.
ولكن، في سياق الإرهاب الحضري من النوع الذي يصفه هوفمان، فإن استخدام الطائرات المسيرة للإرباك وتشتيت الانتباه يكون إشكالياً بشكل خاص. وكما يلاحظ تقرير استقصائي مفصل لموقع البحث المستقل “بيلينغ كات”، فإن الطائرات المسيرة تعطي “داعش” القدرة على تحويل فضاء المعركة من بُعدين إلى ثلاثة أبعاد، نظراً إلى قدرة هذه الطائرات على إسقاط قنبلة أو قنبلتين صغيرتين في أي مكان تختاره “من دون تحذير وبدقة مثيرة للدهشة”.
في واحد من أشرطة فيديو “داعش”، كما يقول “بيلينغ كات”، فإننا “نرى أن ضربة الطائرة المسيرة قد استخدمت لتشتيت انتباه الجنود على الأرض عن الخطر الأكبر المقبل المتمثل في شاحنة انتحارية مفخخة، والتي تنفجر محدثة تأثيراً مميتاً”.
ويقول هوفمان: “تاريخ الإرهاب يقول إن الأسلحة التي تستخدم في ميدان المعركة تنتقل إلى المسرح المدني”.
حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بدا كل هذا وكأنه خطر افتراضي. وأشارت ورقة ممتازة من وضع دون راسلر لصالح “مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت” إلى أن “استخدام مجموعة صغيرة من الطائرات المسيرة، أو سرب من الطائرات المسيرة التي تقاد بارشادات ذاتية، ينطوي على إمكانية رفع نسبة القتل الذي يتسبب به الهجوم، كما يرفع أيضاً أثره النفسي ومستوى تطوره”.
عند تلك النقطة، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، لم تكن هذه العملية قد “لوحظت”. لكنها أصبحت تُلاحظ الآن ويتطور التهديد بوتيرة سريعة.
يقول دان غيتينغر، المدير المشارك في مركز دراسة الطائرات المسيرة في كلية بارد: “في الشهر الماضي، تغيرت الأمور فيما يتعلق بالطائرات المسيرة المسلحة الاستهلاكية”، ويضيف: “لقد نشر داعش قدراً وافراً من أشرطة الفيديو، بشكل رئيسي حول الموصل”. ويقول إن الخطر الذي تشكله هذه الطائرات نفسي أكثر من كونه فسيولوجياً، وهذه هي طبيعة الإرهاب”.
ويقول غيتينغر أيضاً: “من غير الممكن تجاهل الرسائل… منذ البداية كان واضحاً أن الطائرات المسيرة لعبت بكثافة في استراتيجية الرسائل لدى داعش”.
من جهتها، تلاحظ ميا بلوم من “مبادرة بحث مينيرفا” التي ترصد نشاط “داعش” على وسائل الإعلام، مثل “تلغرام” والشبكة الألكترونية المظلمة، أن لدى دائرة الإعلام في “داعش” وحدة خاصة للطائرات المسيرة، والتي تستخدم صوراً فضائية لصناعة أشرطة فيديو تصور التفجيرات الانتحارية. وتقول إن الأمر لم يعد مجرد صورة، وإنما شهادة واسم أيضاً. وهم يتعقبون السيارة خلال سيرها متوجهة إلى أهدافها معلمة بعد المونتاج بنقاط حمراء، إلى أن تنفجر.
وتضيف بلوم: ” كلما أصبحوا يخسرون أكثر، شعروا أكثر بالحاجة الملحة إلى عرض قوتهم واستعراض أهميتهم . وتشكل أشرطة الفيديو الانتحارية والعروض لتنفيذ الهجمات الإرهابية في الغرب كلها جزءا من ذلك. ويشكل ذلك تهديداً محمولاً جواً”.
ويقول بارد غيتينغر: “لم تعد الطائرات المسيرة المسلحة المشتراة من السوق الاستهلاكي شيئاً افتراضياً”. وكان واحد من الهجمات الأكثر رعباً في الأسابيع القليلة الماضية هو الذي نفذ في اسطنبول مؤخراً عشية السنة الميلادية الجديدة في النادي الليلي “رينا” المطل على مضيق البوسفور. وراح ضحية الهجوم تسعة وثلاثين شخصاً على يد قاتل واحد -لكنه كان مستعداً جيداً ومسلحاً بكثافة ومداراً جيداً. كان مسلحاً مفرداً، ولم يكن “ذئباً منفرداً” على الإطلاق.
في الحقيقة، يمكن أن يشكل عبد القادر مشاريبوف، الذي اعتقل في نهاية المطاف لتنفيذه العمل العدواني، نموذجاً لنوع إرهاب “داعش” الذي يُحتمل أن يستخدمه: القاتل المدرَّب – “النائم” القابع منتظراً أن يتم تفعليه. وعلى الرغم من أنه لم يستخدمها، فإنه تم في عمليات البحث التي أفضت إلى اعتقاله اكتشاف طائرتين مسيرتين تجاريتين في واحد من الأمكنة التي استقر فيها لبعض الوقت.
* * *
ثمة القليل من الشك حول خطط “داعش” للاستمرار في القتال متى شاء وأينما شاء وكيفما شاء، حتى عندما يتم طرده من الموصل وعاصمته السورية، الرقة، كما يبدو الآن مرجحاً.
ويقول كلود مونيكيت، أحد المسؤولين البلجيكيين البارزين عن مكافحة الإرهاب: “لا نعرف ما هو الشكل الذي سيتبناه “داعش” عندما يهزم….. ما نعرفه هو أنهم استعدوا لأن يتلقوا الهزيمة- والتواري تحت الأرض”. وكان “داعش” قد سحق في العراق في العام 2007. لكنه أعاد تجميع نفسه وأعاد تأسيس نفسه في سورية، وعاد مرة أخرى للانتقام. ويضيف مونيكيت: “لديهم مقاومة استثنائية”.
وكما تشير بلوم، يبدو أن الإعلام على المواقع المتصلة بـ”داعش” يمهد أرضية العمل لشن هجوم معاكس عالمي “حرب هجوم وإعادة تموضع”، كما يفاخر التنظيم.
وعلى سبيل المثال، تشير الدعاية إلى أن “داعش” طرد من مدينة كوباني –عين العرب- في العام 2014، ولكن لم يتبق منها شيء: “وعليه، تهانينا لكم يا وزارة الدفاع الأميركية على هذا ’الانتصار‘. تهانينا للصليبيين على أكوام الصخور في كوباني…”.
فيما تتقلص مساحة الأراضي التي يسيطر عليها “داعش”، يوضح التنظيم أنه ينوي توسيع آفاقه. وسوف تعتمد استراتيجية “داعش” في انتهاج هذه الحرب الطويلة على مدى أشهر وسنوات قادمة، على قدرته على إعادة تأسيس قواعد بين الجهاديين في أجزاء أخرى من العالم، من ميادين معارك “بوكو حرام” في شمال شرق نيجيريا إلى الشواطئ المضطربة في ليبيا، وإلى صحراء سيناء المعزولة وجبال أفغانستان وغابات جموبي في الفلبين -وكلها أماكن حاول “داعش” تجنيد أتباع موالين وبناء شبكات له فيها.
لكن “داعش” لا ينوي التوقف هناك. “إننا نريد باريس بإذن الله قبل روما وقبل أسبانيا. وبعد أن نسوّد عيشتكم وندمر البيت الأبيض وبيغ بن وبرج إيفل -بإذن الله… نريد كابول وكراتشي والقوقاز وقم والرياض وطهران. نريد بغداد ودمشق والقدس والقاهرة وصنعاء والدوحة وأبو ظبي وعمان. سوف يعود المسلمون للسيادة والقيادة في كل مكان”.
لتحقيق هذه الغاية، يواصل التنظيم مسبقاً الطرق على عنصر الدعاية، على أمل تجنيد مسلمين ساخطين، وحتى غير مسلمين في أوروبا وفي الولايات المتحدة. ووفق بلوم، فإن “داعش” ميز بعض إرسالياته بهاشتاغ “تسويد العيش يهم”. وقد أعطى الخطاب المعادي للإسلام للرئيس الأميركي دونالد ترامب بالإضافة إلى سياساته التفريقية بوضوح، دفعة دعائية كبيرة لـ”داعش”.
كما كتب بريان جنكينز، من مؤسسة “راند”، فإن الخطر الذي يمثله “داعش” على الولايات المتحدة يتعلق أقل بالتسلل والاختراق مما يتعلق بالإلهام. لكن نشاطاته في أوروبا، وخاصة في تركيا في العامين الأخيرين، تقدم فكرة جيدة عن الكيفية التي يعمل من خلالها.
يشير أحمد يايلا، ضابط مكافحة الإرهاب في الشرطة التركية، والذي يعمل راهناً أستاذاً في جامعة جورج تاون في ولاية فيرجينيا، إلى التقسيم الواضح للعمل في هجمات “داعش” التي نفذت في تركيا. فمن جهة، يتم استخدام المجندين المحليين لتنفيذ التفجيرات الانتحارية التي تتطلب مهارة قليلة. ومن جهة أخرى، فإن الهجمات التي تشتمل على عمل على الغرار العسكري هي عمل الجهاديين الذين قوّت قلوبهم المعارك، والذين يفدون عادةً من الخارج -ثم يظلون في المكان في تركيا، غير ناشطين ويبدون غير ضارين، إلى أن يقوموا بتوجيه ضربتهم.
ينطبق الهجوم على النادي الليلي “رينا” على النوع الأخير. ووفق بايلا، فقد دخل القاتل إلى تركيا بشكل قانوني وعاش فترة من الوقت بهدوء -حوالي العام- مع زوجته وأبنائه في مدينة ريفية، حتى تم تفعيله قبل حوالي عشرة أيام من تنفيذه الهجوم عشية رأس السنة الملادية الجديدة. وكان قد انتقل إلى شقة في اسطنبول، حيث وصلته الأسلحة إلى باب شقته بواسطة شبكة سرية تابعة لـ”داعش”.
وكان من المفترض أصلاً أن يتم الهجوم في مكان في اسطنبول مشابه لـ”تايمز سكوير”، لكن مشاريبوف اتصل بمسؤوله في سورية بواسطة تطبيق “تلغرام” وأخبره بأن هناك الكثير من الشرطة والجنود، وبذلك تم نقل مكان الهجوم إلى النادي الليلي “رينا”، حيث قتل بسهولة رجل شرطة كان يحرس مدخل النادي، ومضى ببرود إلى حيث ذبح العشرات من الناس.
وكان الهجوم الإرهابي الذي شُن في باريس يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2015 قد نفذه خليط من القتلة المدربين بشكل مشابه، يحملون البنادق، وبضعة مجندين كان يفترض أن يفجروا أنفسهم فقط. ووفق مونيكيت، فإن شبكة الدعم التي كان من المفترض أن تساعد في وضع أرضية العمل لهجمات باريس أصبحت بعد ذلك الشبكة التشغيلية لهجمات بروكسيل في آذار (مارس) من العام الماضي.
لكن واحدة من المذابح الأكثر إثارة للذعر، كانت تلك التي نفذها مواطن تونسي يعيش في فرنسا والذي لم تكن له أي اتصالات مع “داعش. ووفق مسؤولين أميركيين وفرنسيين، فإن التونسي صدم بسيارة شحن كبيرة كان يقودها حشوداً من الناس الذين يشاهدون ألعاباً نارية احتفالا بيوم الباستيل في مدينة نيس الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، فقتل 86 شخصاً وجرح أكثر من 400 آخرين. وعلى الرغم من أنه لم تكن له أي اتصالات مع “داعش”، أعلنت المجموعة مسؤوليتها عن العملية.
ويقول هوفمان من جامعة جورج تاون: “ربما كان ذلك تطفلاً تاماً”. ويضيف: “ولكن، طالما كان لديك الامكانية لإلهام ذلك النوع من العمل، فإنك تستطيع البقاء في العمل إلى الأبد. وذلك ما يفسر لماذا يعمل “داعش” على خطوط متعددة: العملية الموجهة، والذئب الوحيد الذي يستلهم أيديولوجية المجموعة”، أي الذي يتم توجيهه عن بعد بواسطة تطبيق التلغرام أو أي وسائل أخرى، و”الذئب الوحيد الحقيقي”.
على هؤلاء الناس -الراغبين في استخدام أي وسائل تحت أيديهم من سيارات شحن ذات حمولة تصل إلى 19 طناً إلى الطائرات المسيرة الطنانة الناعمة- على هؤلاء يعتمد “داعش” في بقائه على قيد الحقيقة، وفي الحقيقة، في انبعاثه من جديد.
كريستوفر ديكي
صحيفة الغد