“الدولة الإسلامية” تترنح. فمع تراجع مواردها المالية إلى النصف على مدى الأشهر الستة الماضية، وحيث أصبحت وسائلها وعملياتها الإعلامية في حالة يرثى لها، وبينما يقتطع الهجوم في غرب الموصل أراضيها قطعة تلو الأخرى، أصبحت نهاية ما تدعى “الخلافة” الداعشية عبر الشرق الأوسط وشيكة كما يبدو. وفي حين أن تحقيق نصر حاسم على المجموعة يظل بعيداً عن الحتمية، فإنه يمكن تصور أن تتمكن القوات الأميركية وحلفاؤها -وفق المعدلات الراهنة- من هزيمة “داعش” عن طريق قتل وأسر مقاتليه، وطرد التنظيم من المدن الرئيسية لما شكل في الماضي خلافته المزعومة، وفي نهاية المطاف استعادة الرقة، معقله السوري الحصين.
عندئذٍ، سوف يتحول التركيز إلى ما سيفعله مقاتلو “داعش” الأجانب بعد ذلك -الذين وصل عددهم في ذروته إلى عشرات الآلاف القادمين من دزينة من البلدان. وهناك احتمالات عدة.
عندما ينتهي أي صراع، سواء كان ذلك بالقوة الجبرية أو بتسوية متفاوض عليها، من المرجح أن يتفرق الإرهابيون العابرون للحدود الوطنية في اتجاهات عديدة. وما من شك في أن مقاتلي “داعش” يمتلكون قدرة الحركة: ففي أثناء تمترسهم في مواقعهم، استخدم مقاتلو “داعش” الأنفاق والشبكات تحت الأرضية بمهارة لنقل الرجال والمواد، وأتقنوا إنتاج ونشر السيارات المفخخة بالعبوات الناسفة للإبقاء على خصومهم بعيدين.
من المرجح أن يظل “المقاتلون الأشداء”، خاصة الأجانب القريبين في الدائرة الداخلية لزعيم “داعش” أبو بكر البغدادي، وكذلك كبار قادته، في العراق وسورية، وأن يسعوا إلى الانخراط في المقاومة السرية التي سيخوضها “داعش، 2.0”. ووفق جميع الاحتمالات، فإن هذه الشذرات المتمردة من “داعش” التي تخوض حرب عصابات ستتحول إلى منظمة إرهابية سرية. وإلى جانب الغارات المتفرقة والكمائن، وربما الهجمات الكبيرة المشهدية باستخدام التكتيكات الانتحارية، فإن هؤلاء المقاتلين سيأخذون استراحة، ويعاودون التسلح، ويتمتعون بفترة نقاهة.
خلال هذا الوقت، ربما يبدل المتشددون ولاءاتهم بين القليل من الجماعات المختلفة على أرضيات متعددة، بما فيها “داعش”، وجبهة فتح الشام، وأحرار الشام (التي تشكل مسبقاً تحالفاً فضفاضاً من الوحدات الإسلاموية والسلفية)، وسوف يسعون فعلياً إلى التواجد في المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة وما تزال خارج سيطرة قوات الحكومتين السورية والعراقية وحلفائهما. وكما أشار خبير الإرهاب بروس هوفمان، فإنه إذا استمرت حظوظ “داعش” في التراجع، فربما تكون هناك جماعة من الجهاديين الذين يرون في التقارب مع تنظيم القاعدة خياراً وحيداً لمواصلة كفاحهم. وتشير مقابلات أجريت مع مقاتلين غربيين في “داعش” إلى أن الفروقات الأيديولوجية بين تنظيمي القاعدة و”داعش” كبيرة جداً بحيث يصعب جسرها بسرعة، لكن هذا ربما يتغير مع مرور الوقت.
ثمة مجموعة ثانية من المقاتلين هم أولئك “العملاء الأحرار” أو المرتزقة الذين يُمنعون من العودة إلى بلدانهم الأصلية. ويمكن توقع أن يشكل هؤلاء لفيفاً من الجهاديين عديمي الجنسية الذين يسافرون إلى الخارج بحثاً عن المسرح الجهادي التالي -اليمن، لييبا، غرب أفريقيا أو أفغانستان- من أجل حماية وإدامة وتوسيع حدود ما تدعى الخلافة. وهؤلاء هم ذرية “المجاهدون” المتشددين الأصليين الذين شغلوا ذات مرة صفوف تنظيم القاعدة وقاتلوا في أفغانستان ضد السوفيات، وفي الشيشان ودول البلقان. ومن المرجح أن ترحب التنظيمات الموالية لـ”دعش” والجهاديون السنيون المحليون في تلك الأماكن بهذا الدفق من الرفاق الذين قسّتهم المعارك.
ثم هناك المجموعة الثالثة من المقاتلين الأجانب “العائدون”. وهذه المجموعة هي أكبر مصدر قلق للعاملين في دوائر مكافحة الإرهاب. وربما يحاول هؤلاء المقاتلون العودة إلى بلدانهم الأصلية، مثل تونس أو السعودية، أو أن يذهبوا أبعد من ذلك إلى أوروبا أو آسيا أو أميركا الشمالية. ولدى الدول التي تمتلك هياكل دفاع وطني قوية -شرطة حدود جيدة التدريب، وأجهزة مخابرات بمواصفات عالمية عالمية- فرصة أفضل لإحباط تأثيرهم. ولكن، ليست قدرات كل الأجهزة الأمنية الغربية متساوية، وسوف يواجه بعضها حتماً أوقاتاً أصعب في احتواء التهديد من أجهزة أخرى أكثر كفاءة. ومما يزيد القضية تعقيداً عدم قدرة الدول-الأمم، خاصة تلك في الاتحاد الأوروبي، حتى التوصل إلى توافق حول تعريف “المقاتل الأجنبي”.
ليس العائدون مجموعة متجانسة كما قد يبدو على لاسطح. سوف يكون البعض من بين “خائبي الأمل” -أولئك الذين ذهبوا إلى سورية بحثاً عن المدينة الفاضلة، والمغامرة، والعثور على فرصة للتعبير عن هويتهم الدينية، لكنهم وجدوا أنفسهم بدلاً من ذلك في شيء مختلف جذرياً. ووفقاً للمقابلات والأبحاث الأخرى ذات الصلة، فإن السوريين المحليين -الذين قال المقاتلون إنهم ذهبوا إلى هناك من أجل “إنقاذهم”- لم يحترموهم. وقد ناضل هؤلاء المقاتلون للدفاع عن أنفسهم عندما تعلق الأمر بالحصول على الأشياء الأساسية، مثل الطعام والتمويل، واشتبكوا مع محن الحرب ومصاعبها. لكن من الممكن استخدام هؤلاء عند عودتهم إلى الغرب لإرشاد الشباب الآخرين الذين تطرفوا. وربما يحتاج هؤلاء المقاتلون إلى عناية نفسية، وليس إلى قضاء وقت في السجن.
هناك مجموعة فرعية ثانية من العائدين، والتي سندعوها “المسرَّحون، وإنما ليس خائبي الأمل”. وتماماً كما يتم تحفيز المتشددين للانضمام إلى القتال للعديد من الأسباب، فإنهم ربما يغادرونه لأي عدد من الأسباب أيضاً: زواج وشيك، إجهاد من المعارك، أو لأنهم يفتقدون عائلاتهم. لكنهم ما يزالون مع ذلك ملتزمين بالجهادية. وقال مقاتل عائد مؤخراً: “لقد غادرت الدولة الإسلامية، ولكن إذا حدث قتال آخر في أي مكان آخر، فإنني ربما أذهب”. وهكذا، يبدو أن هذا الشخص أصبح خائب الأمل من “داعش” كمنظمة، وإنما ليس من الجهاد ككل.
المجموعة الأخيرة من العائدين هم العائدون “التشغيليون”: المقاتلون العائدون الذين يحاولون إحياء الشبكات النائمة، وتجنيد أعضاء جدد، أو تنفيذ هجمات من نوع عمليات الذئب الوحيد. وسوف يكون هؤلاء في وضع جيد لمحاولة شن هجمات تحت قيادة وسيطرة ما يتبقى من “داعش” في الشرق الأوسط. وهم الأكثر فتكاً. وربما تكون هجمات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، التي نفذها مقاتلون أجانب تدربوا في سورية وتم إرسالهم إلى فرنسا، هي أوضح مثال على ذلك. ويشكل العائدون التشغيليون مصدر قلق أكبر في واقع الأمر، حيث تم نشر المئات من الناشطين مسبقاً في أوروبا، مع مزيد من المئات يختبئون على عتبة أوروبا في تركيا.
بالنسبة للغرب، سوف تتطلب مكافحة هذه النوعيات المختلفة مجموعة واسعة من الاستراتيجيات. يجب أن تقوم القوات الأمنية وبقية التحالف الذي يحارب “داعش” بقتل أو أسر المقاتلين المتشددين الأشداء الذين يتبقون في العراق وسورية. ويتطلب الانقضاض على العصابات المتنقلة من المسلحين جهوداً متواصلة لبناء قدرات الشركاء من الدول الضعيفة والهشة -تدريب قوات الأمن وتزويدها بالإمدادات، وتقوية حكم القانون، وتعزيز حكم رشيد وتحقيق مجموعة من الأهداف متوسطة إلى بعيدة الأجل.
بينما يتشتت انتباه الاتحاد الأوروبي بتداعيات الخروج البريطاني وتدخل روسيا في الانتخابات الوطنية، سوف يتدفق المتشددون الجهاديون عائدين إلى أوروبا، بعضهم عازمين على توجيه الضربات. وبينما سيتقاطر الإرهابيون العابرون للحدود الوطنية بلا شك على ليبيا واليمن، فإن التحدي الحقيقي سوف يتجسد في منع وقوع المزيد من الهجمات في جميع أنحاء الكوكب، بما في ذلك المدن الأوروبية الكبرى.
كولِن كلارك؛ وأمارناث أماراسينغام
صحيفة الغد