بعد طول انتظار، أعلن رئيس الولايات المتحدة، في 10 سبتمبر 2014، ما سمي (استراتيجية مواجهة تنظيم الدولة “داعش”)، عبر خطاب عام ألقاه للأمريكيين، وتضمن الخطة والوسائل التي سيتم اتباعها في مواجهة تنظيم الدولة. وبعد يوم واحد فقط، تم الإعلان عن تشكيل النواة الأساسية للتحالف الذي سيقود عملية “العزيمة الصلبة” ضد تنظيم الدولة “داعش”، وذلك في اجتماع عقد في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية. لكن الجانب التركي رفض آنذاك توقيع البيان الختامي للإجتماع، ولم يتعهد بالمشاركة في العملية العسكرية، رغم أنه أبقي الباب مفتوحا من خلال تركيزه علي المساعدات اللوجيستية والإنسانية التي من الممكن أن يقدمها.
لقد بررت أنقرة موقفها آنذاك بسلسلة من الأسباب، كان أهمها إحتجاز تنظيم الدولة “داعش” لـ 49 مواطنا تركيا كرهائن، لديه بينهم دبلوماسيون، وأطفال، ونساء تم اختطافهم وأسرهم في مدينة الموصل في العراق في شهر يونيو .2014 وقد كانت الحكومة التركية تخشي من أن أي موقف علني حاد تجاه تنظيم الدولة قد يؤدي إلي قيام التنظيم بإعدام الرهائن، مع ما لذلك من انعكاسات خطيرة محتملة علي الداخل التركي. وبذلك، تكون تركيا قد خسرت الحرب مع تنظيم “داعش” قبل أن تبدأ.
ويعد هذا الأمر سببا من أسباب التحفظ الحكومي علي عدم اتخاذ أي موقف علني عدائي للتنظيم، علما بأنه قد كان هناك حرص علي إمكانية تقديم الدعم اللوجيستي لأية عمليات لمحاربة الإرهاب، خاصة المساعدات الإنسانية.
لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لإحجام أنقرة عن توقيع بيان جدة. فبالنسبة إلي الجانب التركي، فإن الدعوة إلي الحرب علي “داعش” تمت بتوقيت أمريكي وأجندة أمريكية، وهو أمر مثير للارتياب والحيرة لعدة أسباب، من بينها:-
1- علي مدي أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة، ظلت تركيا تحشد الجهود الدبلوماسية والسياسية لإقناع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بضرورة التحرك لوقف الأسد عند حده، مع تعاظم الجرائم والمجازر التي يقوم بها كما ونوعا، لكن ذلك لم يحرك أحدا، رغم استخدام الأسد للوسائل الأكثر فتكا ووحشية في العالم، بما فيها صواريخ سكود، وخرقه كل الخطوط الحمر، بما فيها استخدامه للأسلحة الكيميائية، ومواصلة قتله للمدنيين، عبر البراميل المتفجرة العشوائية.
2- لقد أسقط النظام السوري طائرة تركية، وتعرضت الأراضي التركية نفسها لعمليات إرهابية (تفجير سيارات ملغمة)، وتم استهداف أراضيها بقذائف مدفعية، وسقط جراء كل ذلك مواطنون أتراك. ومع ذلك، فلم يكن هناك رد فعل دولي علي الإطلاق. وحتي التضامن الذي من المفترض أن يكون قويا مع أنقرة من جانب حلفائها في الناتو، كان باردا وفاترا، واضطرت أنقرة إلي أن تلح عدة مرات لطلب الدعم، قبل أن يتم نصب عدة بطاريات لصواريخ باتريوت علي أراضيها، بالرغم من أن المادة الخامسة في ميثاق الحلف تعد الاعتداء علي أحد أعضائها بمنزلة الاعتداء عليها جميعا، وهو ما يوجب الدفاع عنه.
3- إنسانيا، تسبب الأسد في جعل أكثر من نصف الشعب السوري تقريبا (أكثر من 10 ملايين نسمة) بين لاجئ ونازح، وقد استوعبت تركيا وحدها أكثر من 1.6 مليون لاجئ، وتحملت تكاليف استيعابهم، التي بلغت نحو أربعة مليارات دولار، ولم يحرك المجتمع الدولي ولا الولايات المتحدة ساكنا. فحتي المساعدات الإنسانية للسوريين كانت دون مستوي التعاطف الإنساني، علما بأنها تري أن عمليات التحالف الجزئية التي تنفذ دون استراتيجية شاملة ستزيد من عدد اللاجئين لديها، وهو أمر لا يتم أخذه علي ما يبدو في الحسبان.
4- إن إعلان الحرب الأمريكية علي “داعش” حصرا يأتي تتويجا لسلة مواقف أمريكية متساهلة مع نظام الأسد، وبعد تقديم العديد من التنازلات له، الواحد تلو الآخر.
أضف إلي ذلك التساؤلات المتعلقة بالحملة برمتها، فهل المطلوب إضعاف “داعش”، أو “القضاء عليها”؟، وهل سيحصل التركيز علي الوضع السوري بشكل مواز للعراق، أم أن الأخير يحتل أولوية لدي واشنطن؟. والأهم من كل ذلك كيف يمكن مقاتلة “داعش” وفق الخطة الأمريكية من دون أن تؤدي النتائج في المحصلة إلي تقوية النظام السوري، وكيف يمكن لتركيا الدخول من دون أية ضمانات أو أفق واضح بشان العملية العسكرية أو بشأن مصير الأسد؟.
أمام هذه المعطيات، قررت أنقرة التريث، وعدم الانجرار للانضمام المجاني أو غير محسوب العواقب إلي التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم الدولة “داعش”. لكن تم تفسير موقفها هذا من قبل واشنطن وحلفائها الغربيين علي أنه دعم غير مباشر لتنظيم الدولة “داعش”. وقد شُنت حملات إعلامية علي الموقف التركي، متهمة إياه بمحاباة ودعم “داعش”، لكن ذلك كان يتناقض عمليا مع ما تراه أنقرة وما تقوم به علي النحو الآتي:
- فهي كانت من أولي الدول التي تدرج التنظيم علي لائحة الإرهاب لديها قبل أكثر من عام.
- قامت الحكومة التركية خلال عام 2013 بـ 41 عملية استخباراتية وأمنية بناء علي معلومات جهاز الاستخبارات التركية(MIT) ، وأجهزة الشرطة والدرك، وجري بموجبها اعتقال وترحيل 1100 مواطن أوروبي إلي بلدانهم، بعد أن كانوا في الطريق إلي سوريا للانضمام الي “داعش”، وقد توزع هؤلاء علي عدد كبير من البلدان، لاسيما ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وهولندا.
- دعت تركيا مرارا الجانب الغربي إلي التعاون في المجال الأمني والمعلوماتي إذا كان لديهما ما يمكن أن يفيد في جهود مكافحة الإرهاب، خاصة أن الحدود مع العراق وسوريا طويلة جدا، ومن الصعب مراقبتها بشكل فعال ودائم من دون تجهيزات حديثة، وتعاون استخباراتي.
- أعدت انقرة قائمة بـ 6 آلاف شخص للمتابعة في عام 2014، خوفا من انتقالهم إلي الداخل السوري للانضمام إلي تنظيمات متطرفة.
- حذرت تركيا الغرب والمجتمع الدولي منذ بداية الثورة السورية من أن استمرار الأسد في عمليات الإجرام الفظيعة بحق المدنيين من شأنه أن يؤدي إلي ولادة التطرف والإرهاب، وأن عدم وضع حد لنظام الأسد سيفاقم المشكلة، وسيخلق البيئة الملائمة لصناعة وتكاثر الجماعات المتطرفة، لكن أحدا لم يأبه بذلك آنذاك.
وستتناول هذه الورقة عدة محاور مختلفة تتعرض للموقف التركي علي نحو أكثر تفصيلا:
أولا- مخاوف أنقرة ومتطلباتها الموضوعية:
في 20 سبتمبر 2014، نجحت المخابرات التركية في تحرير الرهائن وإعادتهم سالمين إلي تركيا. وعلي الرغم من أن هذه الخطوة قد حررت الموقف التركي قليلا، فإنها لم تغيره جذريا، وهو الأمر الذي فسره كثيرون بأنه كان حجة أو ذريعة للأتراك للتهرب من الالتزام بالانضمام إلي التحالف.
لكن الحكومة التركية سرعان ما أكدت جديتها واستعدادها للمبادرة في نهاية شهر سبتمبر 2014، من خلال تقديم مشروع قانون للبرلمان يتضمن توحيد مذكرات سابقة، إحداها كانت تتيح للقوات المسلحة التركية التوغل في الأراضي العراقية إلي مدي محدود لملاحقة حزب العمال الكردستاني (PKK). أما الثانية والأخيرة، فكانت تتيح للقوات المسلحة التركية الرد علي مصادر النيران القادمة من سوريا، وإدخال تعديلات واسعة عليهما تعطي صلاحيات أكبر للقوات المسلحة التركية للدفاع عن الأمن القومي للبلاد فيما يتعلق بالوضعين العراقي والسوري، ولمواجهة مخاطر جديدة، من بينها المجموعات الإرهابية، وعلي رأسها تنظيم الدولة “داعش”.
وبالفعل في 2 أكتوبر 2014، وافق البرلمان التركي علي المذكرة التي جاءت أكثر تشددا من سابقتها، وتضمنت:
- أخذ كافة أشكال التدابير اللازمة في إطار القانون الدولي ضد كافة التهديدات الإرهابية، والمخاطر الأمنية التي تهدد الأمن القومي للبلاد.
- التغلب علي كافة التهديدات التي تشكلها كافة التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا علي تركيا.
- مواصلة الخطوات المتخذة لتحقيق الأمن حيال العديد من المخاطر، مثل الهجرة الجماعية.
- حماية المصالح التركية العليا بشكل مؤثر، في ضوء التطورات التي من الممكن أن تنتج أثناء الأزمة وبعدها.
- إرسال القوات المسلحة التركية إلي بلاد أجنبية للقيام بعمليات عسكرية وراء الحدود، إذا اقتضت الضرورة ذلك، بالشكل الذي تحدده وتقدره الحكومة.
- السماح بوجود قوات مسلحة أجنبية داخل الأراضي التركية، واستخدام تلك القوات للمنشآت اللوجيستية التركية، وفق الأسس التي ستعلن عنها الحكومة في البلاد، إذا اقتضي الأمر ذلك.
لكن الحكومة التركية ربطت التحرك، علي ضوء هذا التفويض، بحسابات استراتيجية تتعلق بالوضع السوري. فالحسابات التركية قبل “داعش” وبعده لم تتغير كثيرا من جهة العناصر التي تحكم القرار التركي، وتحدد طبيعة تدخلها في الموضوع، مع فارق أن المخاطر المتأتية بالنسبة لتركيا من الملفين السوري والعراقي بدأت تتسع وتتزايد، مما يعني ضرورة التحرك بشكل أسرع، فطالبت بضرورة تحقيق عدد من المتطلبات الموضوعية، إذا كانت الولايات المتحدة تريد انضمام تركيا إلي هذا التحالف. وتمثلت هذه المطالب في:
1- استراتيجية شاملة: تري “أنقرة” أن التحرك بشكل عشوائي ضد تنظيم الدولة “داعش”، ومن دون مراعاة ضرورة وجود استراتيجية متكاملة، سيؤدي في النهاية إلي الفشل الذريع. هناك ضبابية وعدم يقين فيما يسمي استراتيجية أوباما ضد تنظيم الدولة “داعش”، لاسيما عندما يتعلق الأمر بسوريا، فضلا عن تضارب المصالح والغايات بين البلدان المشاركة في هذا التحالف. فظاهر التحالف محاربة تنظيم الدولة “داعش”، وباطنه أشياء أخري. وعليه، فإن تركيا غير مستعدة للمشاركة في تحالف لا يمتلك استراتيجية متكاملة، ومن غير المعروف ما هو الهدف النهائي له، ومتي سيتم تحقيقه.
2- محاربة الأسد بموازاة محاربة “داعش”: وفقا للحكومة التركية، فإن هناك ضرورة حتمية للتعامل مع المسببات الرئيسية التي أدت إلي إنتاج تنظيم الدولة “داعش”، وخلق البيئة المناسبة لعمله، ولاجتذاب وتوظيف المزيد من المتطرفين، وعلي رأسها وجود نظام الأسد، وسياساته الإجرامية غير المسبوقة. تشدد الحكومة التركية علي أهمية العمل العسكري ضد “داعش”، لكنها تعتقد أنه لن يصل إلي نتيجة، ما لم تتم مواجهة الأسد، ودفعه إلي التنحي.
ولما كان الأسد وحلفاؤه يشكلون التهديد الأكبر علي أمن واستقرار تركيا خلال السنوات الماضية (قبل ظهور داعش)، فإنه من غير المنطقي أن تشارك أنقرة في حملة عسكرية تتجاهل استهداف نظام الأسد، بل تؤدي في النهاية إلي تقويته، ففي هذا تناقض استراتيجي مع مصالح أنقرة الأساسية.
3- إنشاء منطقة آمنة معززة بحظر جوي: وذلك علي أساس أن مواصلة حملة التحالف العسكرية، من دون أخذ المعطيات السابقة في الحسبان، ستؤدي لاحقا إلي انفجار قنبلة اللاجئين في الدول المستضيفة، خاصة أن العدد مرشح للتزايد، وذلك نتيجة لازدياد الأعمال العسكرية للنظام السوري، وتنظيم “داعش”، وقوات التحالف، بدليل تدفق أكثر من 150 ألف كردي سوري في أسبوع واحد (20 سبتمبر) إلي داخل تركيا (هذا العدد أكبر من الذي استوعبته أوروبا من اللاجئين السوريين خلال ثلاث سنوات)، وأن الحل الأمثل يكمن في انشاء مناطق آمنة داخل سوريا لاستيعابهم هناك.
4- تدريب وتسليح المعارضة السورية: إذ تري الحكومة التركية أن دعم وتدريب المعارضة المسلحة المعتدلة لا بد أن يتم موازاة العمل العسكري، وذلك لكي يستطيع مقاتلوها السيطرة علي الأماكن التي يتراجع “داعش” منها، وأن يتقدموا في الوقت نفسه للقضاء علي نظام الأسد، وأن عدم وصول الدعم المناسب للجيش الحر – حينما كان يسيطر علي معظم الأراضي السورية – أدي إلي تراجعه، وإلي تفوق الجماعات المسلحة المتطرفة، وكذلك النظام، عليها.
وقد ركزت أنقرة في حملتها السياسية والدبلوماسية الدولية علي مطلب المنطقة الآمنة، وذلك لعدة أسباب تصب في النهاية في تحقيق المطالب المذكورة سابقا، وأهمها:
1- تجاوز عدد اللاجئين لدي تركيا وفقا للمسئولين، 1.6 مليون نسمة، وهو رقم مرشح للتصاعد في ظل عمليات التحالف الدولي، مما يعني أن الأمر تحول إلي مشكلة تسبب ضغطا سياسيا داخليا، وضغطا اجتماعيا يولد احتكاكات وصدامات بين الفينة والأخري، وكذلك تسبب ضغطا اقتصاديا (صرفت نحو 4 مليارات دولار) قابلا للانفجار في أي لحظة، مما يكبل تركيا، لأنه يجب أخذ هذا المعطي في الحسبان عند الدخول في أي مواجهة داخل سوريا. ولا يمكن حل الموضوع إلا من خلال إنشاء منطقة ملاذ آمن، أو مناطق ملاذات آمنة داخل سوريا، يستطيع اللاجئون السوريون العودة إليها، وبالتالي يخف الضغط، ويتم تحرير تركيا من القيود، وتصبح أكثر قدرة علي المناورة.
2- مسألة منطقة الملاذات الآمنة تخدم هدف دعم المعارضة السورية، وتتيح لها أن تنتقل من تركيا إلي الداخل السوري لتعمل بقوة وفعالية من هناك مباشرة علي الأرض، كما أنها تخدم هدف وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة التي يحتاج إليها الشعب السوري بشكل أسرع وأكثر فعالية إلي الداخل مباشرة.
3- تري الحكومة التركية أنه لا يمكن للمعارضة المسلحة المعتدلة، مهما تكن قوية، أن تقاتل “داعش” والأسد في الوقت نفسه، من دون دعم حقيقي لها ولمدة طويلة، خاصة في ظل المعادلة الحالية الملتبسة. المنطقة الآمنة تخدم فكرة دعم المعارضة المسلحة المعتدلة بشكل ممتاز، فهي ستتطلب حظرا جويا، وهذا سيساعد هذه المعارضة المسلحة علي التقدم باتجاه معاقل الأسد المتبقية، دون أن تخاف من أن تنزل عليهم براميل الأسد، أو أن يعيد احتلال المناطق التي كانوا قد حررتها.
4- إنشاء مناطق الملاذات الآمنة سيتطلب بالضرورة تحييد سلاح الجو التابع لنظام الأسد، وأي تهديد قد يشكله علي هذه المناطق، وهذا يخدم أيضا فكرة تركيا في أنه من غير الممكن التغلب علي “داعش” من دون ضرب النظام السوري. والإصرار علي تجاهل هذا المنطق لن يؤدي إلا إلي مزيد من إضعاف المعارضة السورية المسلحة المعتدلة، وتقوية الأسد في النهاية. وهذا ما يتناقض حتي مع ما تدعي واشنطن أنها تسعي إليه، ألا وهو دفع الأسد إلي التنازل في مفاوضات سياسية. إذ كيف يمكن لأحد أن يتنازل إلا إذا شعر بأنه مستهدف أيضا، وأن المعادلة تضعفه ولا تقويه.
ثانيا- الورقة الكردية للضغط علي أنقرة:
لقد قررت إدارة الرئيس أوباما تجاهل الطرح التركي تماما. وبدلا من أخذ الحسابات التركية في الحسبان، قررت استخدام الورقة الكردية ضد أنقرة، علي أمل أن يؤدي ذلك إلي استجابتها. فمع تفاقم الأوضاع في مدينة عين العرب “كوباني”، وتقدم تنظيم الدولة “داعش” فيها، اشتدت الضغوط الإعلامية والسياسية الدولية علي أنقرة للتدخل البري، فيما كانت انقرة ترفض الزج بقواتها دون وجود استراتيجية متكاملة، ودعم دولي وتري أن الدخول من دون تحقيق المتطلبات الموضوعية التي طرحتها سيكون بمنزلة فخ ينصب لها.
وفجأة، تم تضخيم اسم مدينة “كوباني” بشكل هائل لم يسبق له مثيل، حيث طغي اسم تلك المدينة الصغيرة جدا، والمعزولة في أقصي شمال وسط سوريا “كوباني”، والخالية من السكان تقريبا، علي أسماء مدن ومحافظات كبري كحمص، وحلب، ودمشق. كانت واشنطن تتوقع عبر هذا الضغط تحقيق أحد أمرين: إما أن تقوم تركيا بتسليح الأكراد في المدينة، وتأمين الدعم اللوجيستي اللازم لهم لرد تنظيم الدولة”داعش”، وإما أن ترسل قواتها المسلحة إلي داخل المدينة للاشتباك مع تنظيم الدولة”داعش”. وفي أي من الحالتين، ستكون واشنطن قد سدت الثغرة الهائلة في استراتيجيتها في سوريا، والتي تتطلب الاستعانة بقوات برية حليفة لها علي الأرض، تري أنها غير متوافرة الآن.
بالنسبة إلي تركيا، لم يكن الخيار الأول ممكنا في الوضع الحالي، علي أساس أن حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي(PYD) يعد “أنقرة” عدوا، وقد سبق له خلال السنوات الماضية أن تعاون مع نظام الأسد، وقتل وقمع عربا وأكرادا مناصرين للثورة السورية، وهدد باستهداف أي جندي تركي يدخل الأراضي السورية. ومن غير المنطقي أن يقوم أحد ما بتسليح عدوه. الولايات المتحدة نفسها رفضت خلال السنوات الثلاث الماضية تزويد من يفترض فيهم أن يكونوا قريبين منها -أي المعارضة السورية- بالأسلحة، فكيف ولماذا ينتظر من تركيا أن تقوم بتزويد طرف يعدها عدوا، وتعده إرهابيا؟.
أما الخيار الثاني والأخير، فهو أكثر تعقيدا، لأنه يعني وضع القوات المسلحة التركية في عين العاصفة مباشرة بين ظهراني الأعداء، أي النظام السوري، وتنظيم الدولة”داعش” وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) من دون غطاء دولي، ولا دعم حقيقي، والأهم من دون خطة أو استراتيجية واضحة وشاملة، وهو ما يراه الجانب التركي عملية انتحارية بكل تأكيد. وحتي مع افتراض موافقة تركيا جدلا علي ذلك، فإن قدرة هؤلاء اللاعبين علي الرد داخل تركيا أكبر بكثير من قدرتهم علي الرد داخل “واشنطن” بالتأكيد.
لقد أثارت هذه الضغوط استغرابا لدي الجانب التركي، فلماذا يجوز لـ “واشنطن” أن تقرر عدم إرسال جنود إلي الأرض، وأن تقرر بريطانيا وفرنسا عدم إرسال طائرات إلي سوريا، حتي لضرب تنظيم الدولة”داعش”، ولكن لا يجوز لتركيا أن تفعل ذلك، مع توافر كافة المبررات المشروعة والمنطقية لعدم اشتراكها؟:
عمليا، ردت أنقرة علي هذه الضغوط من خلال ثلاث خطوات:
1- حملت أنقرة المؤسسات الدولية، وعلي رأسها الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، بالإضافة إلي القوي الدولية الفاعلة، المسئولية عما آلت إليه الأمور اليوم، نتيجة تقاعسها، وسكوتها عن جرائم الأسد، طيلة السنوات الماضية، رغم التحذير المتكرر مما ستئول إليه الأوضاع. وبالتالي، فمن غير المنطقي تحميل تركيا عبء القيام بعمل عسكري منفرد في سوريا في مدينة “كوباني”.
2- كانت أنقرة قد أبلغت زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) ، صالح مسلم، الذي تشتبك ميليشياته المسماة “وحدات حماية الشعب” مع تنظيم “داعش” في المدينة، خلال لقائه مع مسئوليين أمنيين وحكوميين أتراك، بأن مساعدة تركيا له ستتطلب بالضرورة إزالة التناقض بينه وبين الحكومة التركية، عبر:
- قطع التواصل مع النظام السوري بشكل تام.
- الانضمام إلي المعارضة السورية، “الائتلاف الوطني”
- انضمام وحداته إلي الجيش السوري الحر، بحيث يسمح ذلك لاحقا بتسليح وحداته بشكل شرعي.
وبدلا من أن يستجيب مسلم للمطالب التركية، قام حزبه بحملة تحريض ضد الحكومة التركية، تجاوب معها بعض الأكراد المحسوبين علي حزب العمال الكردستاني(PKK) في الداخل التركي، إثر الدعوة التي وجهها حزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي لهم بالتظاهر بذريعة الاحتجاج علي هجمات تنظيم “داعش” ضد مدينة عين العرب “كوباني”، بالإضافة إلي شرائح يسارية قامت بمساندتهم. واندلعت إثر ذلك احتجاجات شغب في منطقة جنوب شرق تركيا منذ 6 أكتوبر 2014. وفي غضون أسبوعين تقريبا، أدت التظاهرات إلي إحراق 531 سيارة شرطة، و631 سيارة مدنية، إضافة إلي تخريب 1122 مبني، من بينها 214 مدرسة، ومراكز تعليم القرآن الكريم، ومتاحف ومكتبات، فضلا عن القتلي الذين بلغ عددهم 36 مواطنا، من بينهم مدير أمن، ورئيس شرطة.
3- رأت الحكومة التركية أن هناك تناقضا في المواقف الكردية. فحزب الشعوب الديمقراطية الكردي، الممثل في البرلمان التركي، كان قد صوت في المذكرة التي قدمت نهاية شهر سبتمبر 2014 ضد منح صلاحيات للقوات المسلحة التركية، تتيح لها الدخول إلي سوريا والعراق، حال تعرض الامن القومي للبلاد إلي الخطر، ولكن أنصاره اليوم والموالين لحزب العمال(PKK) ينزلون إلي الشارع في حملات شغب لمطالبة الحكومة بالتدخل. ويعزز هذا التناقض من نظرية استخدام الورقة الكردية كوسيلة ضغط علي الحكومة، وأن هذه الطريقة لن تغير من حسابات الحكومة الاستراتيجية.
ثالثا- التكيف التركي مع الضغوط الأمريكية:
ومع إصرار الحكومة التركية علي مطالبها، زار أنقرة يوم الخميس الموافق 9 أكتوبر 2014 منسق التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش الجنرال الأمريكي المتقاعد، جون آلين، في إطار حث الجانب التركي علي التدخل سريعا في “كوباني”، كما زارها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج. وعندما تم الاستفسار عما يمكن للحلف أن يقدمه لأنقرة من دعم، تبين أنه ليس لدي الحلف أي شيء ليقدمه باستثناء بطاريات الدفاع الصاروخي “باتريوت”، وهو أمر لن يفيد تركيا كثيرا في أي عملية برية، علي أساس أن تنظيم “داعش” لا يمتلك طائرات أو صواريخ يهدد بها تركيا.
أمام هذه المعطيات، كانت رسالة الجانب التركي واضحة، ومفادها أنه لا يمكن التدخل من دون استراتيجية شاملة، كما أن مسألتي “المنطقة العازلة، ومناطق الحظر الجوي أمران لا غني عنهما من أجل وقف تدفق اللاجئين إلي تركيا”، وهو ما أكده وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو. أما جواب رئاسة الأركان التركية، فقد كان متناسقا مع موقف وزير الخارجية، حيث أكدت للجانب الأمريكي وجوب ما يأتي:
- إبداء التحالف رغبة في محاربة التنظيمات الإرهابية في سوريا، وكذلك النظام السوري علي حد سواء.
- توفير كافة المعلومات الاستخباراتية اللازمة للمعارضة السورية المسلحة التي سيجري تدريبها وتسليحها، وهو ما سيشترك فيه عدد من الدول الإسلامية لمنع المجموعات المعادية لأمريكا من مساندة “داعش”.
- إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية ليلجأ إليها الفارون من مناطق الاشتباكات عند التدخل البري إذا حصل، ويمكن للقوات العسكرية التركية المشاركة في حماية المناطق الآمنة داخل سوريا.
- إرسال المساعدات الإنسانية إلي كافة المناطق المحاصرة من قبل تنظيم الدولة، بما فيها مدينة عين العرب، ولكن مع التشديد علي رفض الحكومة التركية فتح ممرات لإمداد المقاتلين في عين العرب بالسلاح والعتاد العسكري، والمقاتلين.
- مراقبة كافة الأسلحة التي سترسل إلي مناطق القتال، وذلك لمنع وقوعها في أيدي مقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK).
- استخدام قاعدة “إنجيرليك” الجوية لغايات الاستطلاع والاستكشاف. وفي حال تطلب الأمر، سيتم السماح باستخدام القاعدة لأغراض لوجيستية.
- تقديم الحكومة التركية كل الدعم من اجل التخلص من تنظيم الدولة “داعش”، ودعم المعارضة السورية المسلحة المعتدلة التي ترمي إلي محاربة بشار الأسد، كما ستدعم كل الجهود الدولية الشاملة الرامية إلي حل شامل للقضية السورية.
رفضت الولايات المتحدة معظم هذه المطالب، مما عزز التضارب في أجندات الطرفين حيال الملف السوري، وقضية مكافحة تنظيم الدولة “داعش”. ومما زاد من التوتر بينهما أن واشنطن عمدت إلي تجاهل الحساسية التركية إزاء ملف الأكراد، وملف مكافحة الإرهاب المرتبط به (حزب العمال الكردستاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني)، وقررت لي ذراع أنقرة، من خلال دعم المقاتلين الأكراد في عين العرب “كوباني” بشكل مباشر بإلقاء السلاح والعتاد والمساعدات لهم من الجو في 20 أكتوبر 2014، معلنة أنها لا تعد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) حزبا إرهابيا، وأنه غير مدرج علي قوائم الإرهاب لديها، وبالتالي فمن الممكن مساعدته.
لقد أثار هذا التحرك استغراب الجانب التركي، علي أساس أن واشنطن المتحمسة جدا لمساعدة “تنظيم إرهابي” (PYD) رفضت لسنوات مناشدات بدعم وتسليح المعارضة السورية. كما أثار امتعاض الحكومة التي عدته خطأ، ليس لأن جزءا من الدعم الأمريكي وقع في يد “داعش” فقط، بل لأن تسليح الأكراد عشوائيا، سواء في العراق أو سوريا، قد يحمل معه تداعيات علي الداخل التركي، أهمها:
- قد يستفيد الجناح المتشدد من حزب العمال الكردستاني، والمتضرر من عملية السلام التي تجريها الحكومة مع زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، المسجون في جزيرة “إمرالي”، من تدفق الأسلحة من أجل إعادة تنظيم صفوفه، ومعاودة العمل المسلح ضد الحكومة التركية عبر الحدود، أو داخل تركيا نفسها.
- وحتي في حال عدم استئناف النشاطات المسلحة، يكفي أن يشعر التنظيم بالقوة من جديد، حتي يعمد إلي التشدد في مفاوضات السلام، مما يؤدي إلي إفشال الجهود التي تم بذلها سابقا في هذه العملية حتي اليوم.
- من شأن تدفق السلاح أن يعقد خريطة التوازنات الأمنية، ويعزز النزعة الانفصلية عند الأكراد، لاسيما لدي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا(PYD) ، خاصة أن الحزب المذكور لم يخف منذ اندلاع الثورة السورية نيته الانفصال عن سوريا بالتذرع بإدارة مستقلة للمناطق التي يوجد فيها تارة، وبفيدرالية سورية تارة أخري.
وبموازاة التسليح الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، قررت أنقرة القيام بمناورة دبلوماسية، تمت خلالها الموافقة علي طلب رئيس إقليم شمال العراق، مسعود البارزاني، بإرسال قوات بيشمركة كردية للقتال في “كوباني”، وذلك لامتصاص الضغط الأمريكي من جهة، وعلي أمل أن توقف الولايات المتحدة تسليح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي(PYD) من جهة أخري. كما أنه من الملاحظ أن عددا من مجموعات الجيش السوري الحر باتت تقاتل إلي جانب الاكراد في عين العرب “كوباني” ضد تنظيم الدولة “داعش”، وهو مؤشر-ربما- علي موافقة تركية علي هذا الموضوع، وربما تحفيزه أيضا.
وختاما، يتوقف حدوث تطور في السياسة التركية تجاه التحالف علي حل الخلاف بشأن كيفية التعامل مع النظام السوري، والخطوات التي يتم اتخاذها في سوريا، انطلاقا من إصرار أنقرة علي ضرورة التوصل إلي اتفاق شامل بخصوص طبيعة التعامل مع الوضع في سوريا لناحية إخراج بشار الأسد من السلطة، أو لناحة مواجهة تنظيم الدولة “داعش”، وهذا هو الخلاف الرئيسي بين الولايات المتحدة وتركيا منذ البداية، فضلا عن أنه يرتبط أيضا بالتطورات في ملفات إقليمية أخري، لاسيما المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنسبة لأنقرة، لا يمكن التراجع عن حسبان إطاحة الأسد أولوية ومصلحة استراتيجية بالنسبة لها، ولكن ذلك سيتوقف علي مدي قدرتها علي تحويل الضغط إلي الجانب الأمريكي، وهو أمر لا يزال محدودا، وقت كتابة هذه السطور، في ظل ما يمكن أن نسميه “الوحدة الاستراتيجية”، كما يراها رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، فهي لا تزال وحيدة علي المستوي الدولي (باستثناء دعم بعض الدول الصديقة إقليميا ودوليا) لناحية تحقيق أجندتها، وسيتوقف تنفيذها أيضا علي مدي قدرتها علي جذب المزيد من الدول الإقليمية والدولية إلي جانبها، وهو أمر قابل للتحقيق، إذا ما توافرت المعطيات الصحيحة له في المرحلة المقبلة.
مجلة السياسة الدولية