تميز المشاركون بتنوعهم الكبير، مقارنة باجتماع السنة الماضية، وبوجود عدد أكبر من مندوبي دول الخليج. ندوة تشاهد فيها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشيه يعالون، يشرح أن السلم بحاجة إلى إنشاء دول طائفية سنية، شيعية أو علوية (وقطعاً غير فلسطينية…)، أو الجنرال الأميركي بول فاليلي الذي يثني على الرئيسالأميركي، دونالد ترامب، ويتحدث عن لقائه أخيراً بمرشحة اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مارين لوبان، في باريس. ويمكنك أيضاً أن تلتقي بالرئيس السابق للجمهورية الديمقراطية الشعبية لليمن (جنوب اليمن)، علي ناصر محمد، ووزير خارجية مصر الأسبق، نبيل فهمي، وعمرو موسى الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، أو المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ. أما بسمة قضماني المعارضة السورية التي تم الإعلان عن مجيئها فلم تأت. وسجل غياب آخر للعضو السابق في مجلس الأمن الوطني الإيراني والمقيم في الولايات المتحدة، حسين موسيفيان. لم يأت خشية أن تمنعه مراسيم ترامب المتعلقة بمنع دخول رعايا بعض الدول المسلمة من العودة إلى الولايات المتحدة، إن خرجوا منها.
كان الاجتماع فرصة للالتقاء بمثقفين وباحثين، بمسؤولين سعوديين أو إيرانيين، أتراك أو مصريين، عراقيين أو أميركيين، مع حضور روسي قوي، منه نائب وزير الخارجية المكلف بالعالم العربي، ميخائيل بوغدانوف، أو رئيسة مجلس فيدرالية روسيا (الغرفة العليا)، فالانتينا ماتفيانكو المقربة من فلاديمير بوتين، أو مدير معهد الدراسات الشرقية وأحد مهندسي هذه الندوة، فيتالي نومكين، والذي على عجل، مع نهاية اليوم الأول، إلى جنيف لتدعيم الوفد الروسي في المفاوضات هناك بشأن سورية. أما أوروبا فكان غيابها التام لافتاً، كما أشار إلى ذلك مشاركون عديدون.
دور مركزي في الملفات الساخنة
تؤكد هذه المشاركة غير المتجانسة أن روسيا اكتسبت، في السنة الأخيرة، بفضل انتصاراتها
العسكرية في سورية، مكاناً مركزياً في الشرق الأوسط، يعترف به الجميع، بما في ذلك الذين يدينون دعمها نظام دمشق. وهي تفتخر بأنها تحافظ على الحوار مع كل الأطراف، في كل النزاعات التي حلّت على المنطقة: أليست هي التي تقوم بمساعٍ حميدة، لتفادي التصعيد بين حزب الله وإسرائيل في الجولان؟
أصبحت موسكو من المراكز التي يتم فيها التفاوض حول أكثر الملفات سخونة. ففي نهاية يناير/ كانون الثاني التقت فيها حركتا حماس وفتح لتشكيل حكومة وطنية فلسطينية، والحقيقة أن وسائل الإعلام الروسية تباهت أكثر من اللازم بإنجاز مبالغ فيه، إذ تفيد مصادر فلسطينية بأنه لم يتم إنجاز أي تقدّم فعلي، في اللقاء. كما احتضنت العاصمة الروسية في منتصف فبراير/ شباط الندوة السادسة للأكراد التي جمعت عدداً لا بأس به من التنظيمات المقربة من تيار حزب العمال الكردستاني، بدءاً بحزب الاتحاد الديمقراطي (سورية)، مروراً بالحزب الديمقراطي للشعوب (تركيا) وحزب الحياة الحرة الكردستاني (إيران)، وكلها أحزاب مناهضة للحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في المنطقة الكردية في العراق، والغائب عن اللقاء. كما استقبل وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في بداية شهر مارس / آذار، رئيس حكومة الوفاق الليبية، فايز السراج، مع أن لروسيا علاقات جيدة مع خصمه الأساسي، الجنرال خليفة حفتر.
ما الداعي لهذا النشاط المحموم؟ ما هي دوافع موسكو الحقيقية؟ يوضح فيودور لوكيانوف أحد المفكرين المهندسين للندوة، وأحد أهم المحللين الروس في السياسة الدولية، أن الهدف يتجاوز البعد الإقليمي “ترى روسيا الشرق الأوسط ميداناً أساسياً يمكن لها أن تشكل فيه رأس مالٍ، يضمن الاعتراف بها قوة في الساحة الدولية، فعلى الرغم من وضعه الخاص حالياً (حروب ودول ضعيفة وعمليات تدخل أجنبي)، فإن الشرق الأوسط جزء من عملية إعادة ترتيب العالم”، ولا تخفي روسيا قناعتها بأن عهد “ما بعد الغرب” قد بدأ فعلاً، وهي ترغب في تسريع حلوله. وهذا لا يعني بالضرورة “أننا نباشر حرباً باردة جديدة. لسنا في منافسة مع الولايات المتحدة كما كان الحال بالنسبة للاتحاد السوفياتي، لا نريد يالطا جديدة”، كما يوضح أستاذ العلاقات الدولية، لنا لوكيانوف.
أولاً، لأن العالم لم يعد ثنائي القطب، بل أصبح متعدّد الأقطاب. ومن جهة أخرى، هناك وعي بحدود “القوة الروسية”، خصوصاً في المجالات الاقتصادية. وأخيراً، لأن الأيديولوجية لم تعد قوة محركة، فكما يردّد بإلحاح لوكيانوف ومحاورون روس عديدون، “إن قاعدة اللعبة الدولية في السنوات المقبلة ستتميز بانعدام الاستقرار، فلا وجود لتحالفات دائمة، حتى بالنسبة للحلف الأطلسي”.
ويزيد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (قوبل إلى حدٍ ما باستحسان في الكرملين) من انعدام الاستقرار وغياب اليقين، فالرئيس الأميركي حالياً أسير التناقض بين ميولٍ متعارضة، منها التقارب مع فلاديمير بوتين والتيارات المناهضة لروسيا في الكونغرس، وخطابه حول “الحرب ضد الإرهاب” وعدائه المستحكم لإيران.
وفي انتظار ذلك، يستفيد الكرملين من المرحلة الانتقالية الغريبة التي تدور في واشنطن، لكنه يبعث رسالة واضحة إلى الغرب، عبر فالانتينا ماتفيانكو “يشكل الشرق الأوسط خط الجبهة للحرب العالمية ضد الإرهاب الذي هو شر شامل، مماثل لما كانت عليه الفاشية. ولكي ننتصر عليه، علينا أن نضع خلافاتنا جانباً”.
ويوضح بوغدانوف “علينا أن ننتهي من عملية فرض الديمقراطية من الخارج، والتي لا علاقة لها بالثقافات المحلية”. ولكنه يؤكد أنه علينا “العمل مع الجميع” في ليبيا أو اليمن أو سورية والعراق، باستثناء ـ الجماعات الإرهابية المتعددة الجنسيات، كتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. وكان بإمكانه أن يشير إلى أفغانستان، حيث بدأت موسكو، القلقة من وجود تنظيم الدولة الإسلامية في الميدان، اتصالاتٍ مع فصائل من حركة طالبان، تعتبرها مناهضة للجهادية الدولية.
كسب الروس، في الميدان السوري، انتصاراتهم الأكثر دلالةً، ولكن عليهم إثبات قدرتهم على
إضفاء الاستقرار وبلورة حل سياسي، وهم يعتمدون، في ذلك، أولاً على مثلث إيران ـ تركيا ـ روسيا الذي شكلوه بجهد كبير. وكما يوضح دبلوماسي روسي “ليس هذا التحالف بديهياً، فهو يرتكز على حساباتٍ تكتيكية، لكن هذا لا يعني أنه لن يستمر. فهو يوفر التقاء المصالح على المدى القريب لهذه البلدان الثلاثة التي لها قوات في الميدان، وترغب في إيجاد حل”. “هي تدرك تماماً الثمن الباهظ المترتب مالياً على الانغماس في مستنقع الحرب”. ومن أجل إتاحة إمكانية التوقيع على وقف لإطلاق النار في سورية، جمعت موسكو في أستانة (كازاخستان) مرتين في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2017، ممثلين عن النظام السوري والمعارضة المسلحة، بما في ذلك جماعات سلفية، كانت تعتبرها إلى ذلك الحين “إرهابية”، مثل “أحرار الشام”. ومهد هذا التوافق الطريق إلى استئناف المفاوضات السياسية في جنيف في نهاية فبراير/ شباط بين النظام وقوى المعارضة.
حلفاء يصعب التنبؤ بسلوكهم
ولكن، كيف يمكنها اللعب مع المواقف المتناقضة التي تميز أحياناً الحلفاء أنفسهم، فمشروع الدستور المقدم من موسكو إلى السوريين يفيد بأن الدولة السورية ستكون علمانية، وهذا لا يرضي إيران، ولا يشير إلى الطابع العربي للبلاد (وهو اعتراف ضمني بالحالة الكردية) مما لا يروق لأنقرة والوطنيين العرب. ومع ذلك، يبدو محور موسكو ـ طهران أكثر صلابةً من محور موسكو ـ أنقرة، حيث يبدو التحول في التحالفات غير واردٍ بالنسبة للمحور الأول، بما أن الأمل في أن يؤدي الاتفاق، بخصوص النووي الإيراني، إلى انفراج بين الولايات المتحدة وإيران، قد تبخّرـ أما بالنسبة لأنقرة، فموسكو لا تنسى أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وهناك حليف آخر يصعب التنبؤ به، وهو بشار الأسد، على الرغم من أنه يدين بنجاته السياسية للتدخل الروسي. ولا يخفي أليكسندر أكسينينوك، وهو سفير روسي سابق في الجزائر، ودبلوماسي متمرس في السياسة الشرق أوسطية، انتقاداته للسلطات السورية: “لا يمكن أن يُبنى الحل في سورية على بيان جنيف في 30 يونيو/ حزيران 2012، والقرار 2254 لمجلس الأمن الذي ينص على إقامة “هيئة حكومة انتقالية”، قادرة على “الاضطلاع كلياً بوظائف السلطة التنفيذية”، في حين “ترفض دمشق، تحت حجج مختلفة، التحدّث عن العملية الانتقالية”. وقد أعرب السفير عن هذا الموقف في صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا في 20 فبراير/ شباط الماضي.
ويبدو أن الدورة الرابعة للمفاوضات في جنيف، والتي انتهت في 3 مارس/ آذار الجاري، فرضت على دمشق، بضغط من موسكو، قبول مبادئ العملية الانتقالية. وهو ما يشكل تقدماً بسيطاً، أشاد به مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الذي أعلن عن عودة المفاوضات في 23 مارس/ آذار. أما بخصوص مستقبل بشار الأسد، فترى موسكو أنه سيتم البت فيه لاحقاً، وعلى السوريين أن يقرّروا ذلك. هل تشكل هذه المسألة سبباً لخلافات بين طهران المتمسكة ببقاء الرئيس السوري بأي ثمن، وموسكو التي قد تكون أكثر مرونة؟ أو كما يسأل صحافيون روس: هل توجد خلافات بين وزيري الدفاع والخارجية الروسِيَّيْن؟ يصعب تأكيد هذه الإشاعة أو تلك.
المستقبل في البيت الأبيض
مهما يكن، ليست المسألة مطروحة في جدول الأعمال بالنسبة لموسكو، لأن المستقبل سيتحدد
في الميدان، حيث الوضع متحرك، فعلى الرغم من هزائمه، يبقى تنظيم الدولة الإسلامية قوياً، كما هو الحال أيضاً بالنسبة لفرع القاعدة، جبهة النصرة التي تحولت إلى جبهة فتح الشام. ومن جهة أخرى، هناك توتر ملموس بين كل من تركيا والنظام السوري وإيران في الميدان، وهي توترات تعمل موسكو على فك ألغامها. نجد مثالاً على ذلك في الوضع حول مدينة الباب التي سيطرت عليها القوات التركية في 23 فبراير/ شباط مع حلفاء سوريين، بعد أن دخلت الأراضي السورية في أغسطس/ آب 2016. وقد هدّدت تركيا بالتوجه إلى منبج التي وقعت بين أيدي “القوات الديمقراطية السورية”، والتي يلعب فيها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) دوراً أساسياً. وبالنسبة لتركيا، يتمثل الهدف في منع توحيد المقاطعات الثلاث للمنطقة الكردية في سورية، وتوجيه ضربة لمنظمةٍ تعتبرها مجرد فرع لحزب العمال الكردستاني الذي هو في نظرها عدو بخطورة تنظيم الدولة الإسلامية نفسها، إن لم يكن أكثر.
تفاوضت موسكو، بمساعدة واشنطن، على إيجاد تسوية: أجلى حزب الاتحاد الديمقراطي قواته من القرى المحيطة بمنبج، واستعادها النظام السوري. وتمت بذلك إقامة منطقة فاصلة بين الأتراك وحلفائهم من جهة والأكراد من جهة أخرى، يضطلع فيها الجيش السوري بدور القوة الفاصلة.
ومع ذلك، تبقى المواجهات غير مستبعدة، خصوصاً وأن تركيا جدّدت إرادتها في تطهير منبج كلياً من المقاتلين الأكراد، وأكدت إصرارها على المشاركة في العمليات العسكرية لاسترجاع الرقة “عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية”. وكان اللقاء الذي تم في أنطاليا في 7 مارس/آذار الجاري بين مسؤولين عسكريين أتراك وروس وأميركيين، يهدف إلى تحديد استراتيجية مشتركة. في الوقت نفسه، تبيّن أن الولايات المتحدة أرسلت، لأول مرة، قوات من المارينز إلى المنطقة، حيث توجد الآن في الميدان، فضلاً عن السوريين، قوات إيرانية وتركية وروسية وأميركية.
ولكن، يتساءل لوكيانوف: هل يمكن التفاوض على مستقبل سورية “مع أطراف غير عربية فقط لا غير، هم إيران وتركيا؟”. وهو سؤال مشروع، حيث كانت ندوة فالداي فرصة للاستماع إلى انتقادات شديدة من وفود عربية عديدة ضد إيران، و”نزعتها التوسعية”. وعلى الرغم من أن موسكو تمكّنت من فرض وجود الأردن في مفاوضات أستانة. كما يوضح السيناتور ايغور موروزوف عضو لجنة الشؤون الخارجية في الغرفة العليا “سنكون في حاجة إلى الولايات المتحدة، لضم العربية السعودية إلى النقاشات، وإلا قد نشهد عودة القتال ومساعدات من الرياض والدوحة للتنظيمات المسلحة”. والأخطر، حسب رأيه، أن تنطلق إدارة ترامب في نزاع ضد إيران عبر إسرائيل. وسيدمر هذا الاحتمال كل إمكانية حل في سورية، وسيذكي نيران الحرب على نطاق واسع في المنطقة، مع انفجارات للدول، وتأجيج للنزاعات الطائفية. فعلى الرغم من نجاحاتهم، يبدو الروس مدركين أن قسطاً من المستقبل يتحدّد في البيت الأبيض. وأن لا أحد يدري متى سيصل الغد في الشرق الأوسط.