لقد خاطرتَ بحياتك من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. تخليت لأيام وأسابيع عن مسؤوليات أخرى -عائلتك، مدرستك، عملك- من أجل أن تخدم أمتك. كنتَ مقتنعاً بأنك تبني مستقبلا أفضل. والآن تسأل نفسك، هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟
توفي العديد من الرفاق. وتم اعتقال الآلاف وتعذيبهم. وبعضهم خان المثل العليا للثورة.
واليوم، أصبح الرجعيون في صعود. والبلطجية يحكمون الشوارع، وزعماء العصابات يديرون الوزارات الحكومية.
العديد من أكثر مواقع النشاط السياسية شجاعة أصبحت الآن مواقعاً لأسوأ المعاناة. وأطاحت مصر بالجنرال مبارك فقط لينتهي بها الأمر إلى حكم الجنرال السيسي القاسي. وسقطت ليبيا وسورية واليمن في حروب أهلية مدمرة. وليس ثمة سوى تونس وحدها هي التي تتقدم إلى الأمام، وتتحمل ثقل تطلعات المنطقة.
وفي الوقت نفسه، تبدو البلدان التي قُمعت فيها الانتفاضات أو حُرفت عن مساراتها، وأنها تبلي حسناً -نسبياً. وما تزال نظمها قمعية، ولكنها تعمل على الأقل.
لست وحدك في التساؤل عما إذا كان ذلك النشاط كله يستحق العناء. فلطالما طارد هذا السؤال أجيالاً من الناشطين.
كان هناك يأس مماثل في مصر في العام 1882، عندما قام الخديوي وحلفاؤه الأجانب بقمع المؤسسات الديمقراطية الجديدة. ووفقاً لشهادته هو نفسه، بدا أحد الناشطين حينذاك، في السجن، “مسحوقاً بقدر تجاوز كثيراً حد الأمل في التعافي، بسبب رد الفعل القاسي الذي وُلد من الآلام الغارقة وآلام اليأس”. ثم في المنفى في العام التالي، ألقى باللائمة على مَن يُسمَّون الحلفاء الذين “تبنوا خطابنا في الدعوة إلى الحرية… لكنهم اتبعوا أساليب الطغاة”.
وفي الإمبراطورية العثمانية، بعد انقلاب أدى إلى تقويض الديمقراطية الوليدة في العام 1909، اقترح أحد الكتاب أن الناس كانوا يخدعون أنفسهم بالتفكير بأن الأمور كان يمكن أن تتمخض عن خلاف ما حدث.
كتب: “يكفينا كل هذا القدر من اللوم! اللوم يقع على لا أحد، أو على الجميع… اللوم يقع عليك، وعلّي، وعليهم… اقترِب شيئاً، أريد أن أعهد إليك بسرّ، وبعد ذلك سأصمت: صديقي، في بعض الأحيان تكون هناك أشياء في المحيط تنذر بالنحس والسوء، مثل مقبرة. لا ذكاء، لا حكمة، لا موهبة يمكنها أن تعيش هناك. هناك، الأحياء يرقُدون، والأموات هم الذين يتجولون في الأنحاء”.
وأكرم الحوراني، القائد في الحركة الدستورية السورية التي تعرضت للتخريب في العام 1953، وجد العزاء في آيات القرآن التي تحث المؤمنين على التحلي بالصبر، وتتعهد بأن الطغاة سوف ينتهون إلى نهاية سيئة.
وهكذا، ليس ما تعانون منه الآن هو الموجة الأولى من خيبة الأمل في المنطقة. إن هذه الموجات هي جزء لا يتجزأ من تراث طويل من النشاط السياسي، الذي استعرضته إليزابيث تومسون في كتابها “اعتراض العدالة: النضال من أجل الحكومة الدستورية في الشرق الأوسط” (2013)، وجون شالكرافت في كتابه “السياسة الشعبية في تشكيل الشرق الأوسط الحديث” (2016).
يمكن أن تقدم مراجعة الفترات الطويلة بعض العزاء. وكما يلاحظ عالم الاجتماع محمد بامية:
“أولئك الذين ينضمون إلى الثورات فجأة وبأعداد كبيرة يميلون إلى توقع أن تكون هذه الثورات حلقات قصيرة ستحقق نتائج طوباوية. ولكن، في واقع الأمر، تميل الثورات إلى أن تصبح عمليات طويلة تتعقد باطراد. وهذه التطورات تجعل الثورات تبدو دائماً مخيبة للآمال، وخاصة بالنظر إلى أنها أطلقت العنان لتوقعات بالإنجاز السريع، وظهور أيديولوجية بسيطة، واضحة، للحقيقة”.
قد يكون هذا العصر المحموم من الإشباع الفوري عرضة بشكل خاص لهذه التوقعات غير المعقولة. ويجعل التواصل الإلكتروني من السهل جداً تنسيق الاحتجاجات الضخمة، وتخطي عمليات التنظيم القديمة التي كانت تستغرق وقتاً طويلاً، وعملية بناء الثقة اللازمة للعمل الجماعي المستدام. وهذه هي الأطروحة التي يقدمها كتاب زينب توفكجي الجديد، “التويتر والغاز المسيل للدموع: قوة وهشاشة الاحتجاج المنسق بواسطة الشبكات” (2017).
ربما كل موجة من الاحتجاجات بعض المخلفات. ووفاً للكاتب اليمني جمال المليكي: “صورة مبارك خلف القضبان، على سبيل المثال، أطاحت بهالة التبجيل والتمجيد. لقد سقطت فكرة القداسة المحيطة بالحاكم”. وقد ينجو هذا الوعي الجديد ويبقى على قيد الحياة، حتى لو أن الديكتاتورية قد عادت.
لكن البقايا تدوم وتبقى فقط إذا تم تعهدها بالعناية والرعاية. أما إذا سمحتم لها بأن تتلاشى، فإن الانتفاضات المقبلة ربما تعتقد مرة أخرى بأنها “المرة الأولى التي يولِّد فيها صوت الجماهير مثل هذا الصدى” -وهي الكيفية التي يصف بها المليكي الربيع العربي، ويتجاهل حركات التحرر العربية السابقة.
إن قيمة إنجازاتكم لا تكمن فقط في آثارها المباشرة، وإنما في الإرث الذي بنيتموه للأجيال المقبلة. عملكُم لَم يُنجز بعد. ولكن، وحتى لو بدت وسائل التعبئة بعيدة المنال في الوقت الراهن، فإن وسائل السرد ما تزال قائمة.
تشارلز كورزمان
صحيفة الغد