بعد إنجاز الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران، سادت نبرة تفاؤل في شأن المسار الذي ستتخذه طهران بعد رفع العقوبات الدولية عنها جزئياً، وهو ما سيُمكّن الاقتصاد الإيراني من التقاط أنفاسه بعد سنوات من العقوبات الدولية. ويلاحظ هنا أن إيران دأبت على إنكار أي أهداف عسكرية لمشروعها النووي، وبعد إنجاز الاتفاق ثبت على نحو قاطع أن ما تخفيه طهران من منشآت وأنشطة يفوق كثيراً ما أعلنت عنه. لا تعرف السياسة الدولية صداقة دائمة أو عداءً دائماً، عادة ما تتحكم حسابات المصالح في صوغ وتشكيل مواقف الدول.
لا شك في أن علاقات طهران مع الكثير من العواصم الأوروبية بدأت في التحسن استناداً إلى المصالح الاقتصادية المشتركة والفرص الاستثمارية التي لاحت في الأفق على ضوء ما توافر لدى إيران من فوائض مالية تم الإفراج عنها بموجب الاتفاق النووي، وما سيتوافر لديها من عائدات بيع النفط في الأسواق الدولية.
هناك إذاً فرصة تاريخية لدى صناع القرار في إيران لتقرير مدى استعدادهم لتغيير الانطباع السائد عن بلادهم في دوائر إقليمية وعالمية، وبالطبع فإن المواقف الجديدة تحتاج إلى إرادة قوية ورؤية مختلفة عن سابقتها وليس فقط استبدال وجوه بغيرها، إلا أن السؤال الذي يطرح ذاته، هل يمكن أن يحدث التغيير من زاوية واحدة فقط من دون بقية الزوايا؟
تحرص إيران على تقديم نفسها لشركائها الأوروبيين الجدد على أنها دولة الفرص والتنوع والموارد البشرية والاقتصادية المدعومة بتراث ثقافي غني امتزج بدول الجوار وأثَّر فيها وتأثر بها، وهي صورة تبدو، من الناحية النظرية، وكأنها صورة إيجابية لدولة عصرية تحتاج أكثر من أي وقت مضى للمساندة في عمليات إعادة الإعمار والتجديد لتحديث البنية التحتية المتهالكة، وضخ دماء جديدة في الاقتصاد الإيراني الذي خسر مئات البلايين من الدولارات على مدى عقود عدة.
ما تعجز إيران عن تحقيقه حالياً هو تقديم ذاتها لجيرانها والعالم على أنها قوة إقليمية صانعة للاستقرار ومشاركة في تحقيقه، وهذا العجز يكلفها ثمناً باهظاً لا يمكن حسابه بمعيار مادي، فبدلاً من اتخاذ قرار بتصفير نزاعاتها الإقليمية مثلما فعلت تركيا في وقت سابق وكسبت من وراء ذلك الكثير، اعتبرت طهران أن الاتفاق النووي فرصة لتعظيم دورها الإقليمي من خلال استعراض قوتها بحثاً عن أرضية جديدة في منطقة لم تعرف على مدى تاريخها الخضوع لقوة عالمية أو إقليمية واحدة.
قبل أسابيع قليلة أعلنت طهران عزمها زيادة إنفاقها العسكري الى ما يقارب خمسة في المئة من ناتجها القومي، وهو ما يزيد قليلاً على 11 بليون دولار، كما تمسكت إيران بالمضي قدماً في تجارب الصواريخ بعيدة المدى، والسؤال الذي يطرح نفسه، من هو العدو التقليدي لإيران حالياً حتى تضطر إلى زيادة انفاقها العسكري، وهل يساعد هذا القرار في بناء صورة إيجابية عن السياسات الإيرانية في المنطقة؟
هناك حاجة حقيقية لتحويل المسار السلبي الذي تسير فيه منطقة الشرق الأوسط إلى مسار إيجابي يضمن تهدئة النزاعات الإقليمية والتوقف عن سياسات تصدير العنف والتوتر إلى دول أخرى، ولن يتحقق ذلك إلا بالتوجه إلى التنمية الاقتصادية والبشرية واستثمار موارد المنطقة في التطور إلى الأمام وليس في العودة إلى سياسات قديمة أثبتت فشلها دوماً.
محمد عبدالعزيز منير
صحيفة الحياة اللندنية