بدا وليد جنبلاط رجلاً قلقاً يوم أمس. كان يبدو واهياً ومتعباً. كان، بعد كل شيء، يحيي ذكرى حادثة القتل الوحشي قبل 40 عاماً لوالده الدرزي كمال، وهو الاشتراكي الجاد والعلماني الذي تمكن مقارنته بالبرلماني الأسكتلندي اليساري لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، كير هاردي، على الرغم من أن هاردي قضى 11 عاما في المناجم ولم يعش في قصر. وقد أعقب مقتل كمال –الذي أطلقت النار عليه في سيارته، مع سائقه وحارسه الشخصي، بعد وقت قصير من بدء الحرب الأهلية اللبنانية (يوم 16 آذار (مارس) 1977)- أعقبت مقتله مذبحة ارتكبت بحق مئات المسيحيين، والتي نفذها جيرانهم الدروز في القرى المحيطة.
منذ ذلك الحين، حاول وليد إصلاح عواقب ذلك العمل الرهيب –على الأقل لأنه يعتقد أن كمال قتل بناء على أوامر من الرئيس السوري حافظ الأسد، والد بشار الأسد. ولذلك كان خطابه القصير خارج قصره في المختارة، شأنه في ذلك شأن عمله السياسي الأخير، يدور كله حول تحقيق المصالحة بين المسيحيين والدروز. ولم يتوان قط عن الإشارة إلى قتل القرويين المسيحيين، وأنه ينبغي أن لا تحدث هذه الجريمة مرة أخرى أبداً. وكان الرقم الرسمي للقتلى -إذا كانت الأرقام “الرسمية” الصحيحة يمكن أن توجد في الحرب- 219. معظمهم قُطعت رقابهم.
محاطاً بمؤيديه السياسيين في قاعة قصر، ومنهم الكثيرون من المسيحيين المارونيين، أخبرني أن والده حاول جاهداً إنهاء النظام الطائفي للحكومة في لبنان. وأضاف: “كان يحاول التخلص منه (النظام الطائفي) لأن المسلمين والدروز ليسوا شركاء متساوين في هذا النظام. حاول والدي القيام بذلك سلمياً. وكانت نخبة المسيحيين معه. لكن حلم لبنان غير الطائفي قتل معه في نفس اليوم الذي مات فيه”.
الدروز، الذين ورث وليد جنبلاط قيادتهم منذ يوم مقتل والده، هم واحدة من خمس طوائف إسلامية في لبنان، وعلى الرغم من أنه من المفترض أن يكون هناك نصف مليون منهم فقط. فإن التصور الشعبي هو أنهم يشكلون خمسة في المائة من السكان؛ وربما يشكلون في الواقع، 6 في المائة. لكن الدروز يلعبون دوراً حيوياً في جهود نزع الطائفية من النظام السياسي اللبناني، وهو مؤسسة غامضة جداً ومنافية للعقل، حتى أن السياسيين المحليين كثيراً ما يستجيبون بالرعب إذا ما سئلوا عن تعقيداته.
لدى المجتمع الدرزي أعضاء في سورية، وفي الواقع، في إسرائيل أيضاً، وكثيراً ما يوصف بأن له جذوراً في الأفلاطونية الجديدة وكذلك في التقاليد الإسلامية. وقد يكون هذا رومانسياً بعض الشيء، لكن المشهد يكتمل مع الشيوخ الذين يرتدون العمائم الحمراء والبيضاء والعلم السحري متعدد الألوان. وتنحدر عائلة جنبلاط في الأصل مما أصبح الآن كردستان التركية. وربما تكون للعقيدة الدرزية أيضاً أصول هندوسية. وكان كمال مفتوناً بالهندوسية وسافر إلى الهند من أجل دراستها. كما طار معلمه الهندي القديم كل الطريق إلى لبنان لحضور إحياء ذكراه.
ولكن، من بين المشاكل الحالية والخطيرة التي يواجهها لبنان، هناك مسألة المستقبل السياسي لوليد جنبلاط نفسه بصفته نائباً، منذ ملاحظة تُنسب إلى جبران باسيل، وزير الخارجية (الذي يصادف أن يكون صهر الرئيس ميشال عون)، واقترح فيها أن جنبلاط لا ينبغي أن يكون في التحالف المعارض مع المسيحيين -وهو اقتراح يتعارض بشدة مع أفكار كمال ومع السياسيين المسيحيين الذين تجمعوا في المختارة لإحياء الذكرى الأربعين لمقتله.
في حديثه الذي استمع إليه عشرات الآلاف من مؤيديه الدروز، ذكّرهم وليد جمبلات بكيف دعم والده القضية الفلسطينية، وأعطى ابنه تيمور، الذي وقف إلى جانبه، وشاحاً تقليدياً مكوناً من الكوفية الفلسطينية. وقال له علناً أنه يجب “أن تحمل إرث جدك الرائع، وأن ترفع عالياً راية فلسطين العربية المحتلة”. وأعلن أن الدروز والمسيحيين “حققوا المصالحة اللبنانية” بعد الحرب الأهلية، وهي عبارة لها جذور تاريخية ذات دلالة كبيرة.
في القرن التاسع عشر، كان القرويون في جبل الشوف قد ارتكبوا مجازر أشد فظاعة بكثير في حق المسيحيين في لبنان (وسورية). وكان هذا هو الذي دفع الجيش الفرنسي إلى الهبوط في بيروت في العام 1860، حيث عرض الحماية على المسيحيين. وفي المقابل، استقر البريطانيون في صيدا وعرضوا على الأطفال الدروز الامتياز المثير للشك، والمتعلق بتوفير تعليم مدرسي عام باللغة الإنجليزية.
إذا كانت مشاكل لبنان الحالية هي أكبر أزمة يعيشها لبنان منذ آخر أزمة واجهها، فإنها تبدو خطيرة بما فيه الكفاية. فهناك اشاعات مستمرة بأن حزب الله والإسرائيليين سيعودون إلى الحرب -على أساس أن الإسرائيليين سيحاولون ضرب حزب الله، الذي تدعمه إيران، بدلاً من قصف إيران نفسها. وكان ذلك أحد الأسباب السرية لحرب العام 2006 التي دمرت البلاد. وبعد تلك المجزرة، ادعى حزب الله أنه حقق انتصاراً كبيراً -والذي لم يبدُ شيئاً يشبه الانتصار الكبير بالنسبة للبنانيين- بينما هُزمت إسرائيل، لكنها قالت أنها فازت.
ربما تكون أسباب الانقباض الذي يشعر به المرء هنا هي معرفة الجميع بأن لبنان ما يزال يضم الكثيرين من القتلة المتقاعدين، من بينهم -ما لم يكونوا قد قُتلوا- أولئك الذين نصبوا الكمين لكمال جنبلاط. وهناك حملة جديرة بالاهتمام الآن يقودها رجل يدعى ناصر بكر، الذي ولد في جنوب لبنان ويريد إقامة جدار تذكاري يضم أسماء جميع الذين لقوا مصرعهم في الحرب الأهلية اللبنانية في الفترة 1975-1990. وهذا يتطلب، كما يقول، “وضع كل خلافاتنا جانباً”. ومن المؤكد أن مبادرته تواجه –وستواجه- العديد من المشاكل، وليس أقلها أن بعض الذين فقدوا أحباءهم سيكتشفون أن أسماء قتلة أبنائهم أو أزواجهم سوف تظهر أيضاً على الحائط. ويمكنكم التأكد من حتمية ظهور مشاكل طائفية. هل سيتم إدراج الأسماء حسب الترتيب الأبجدي؟ حسب الجنسية؟ حسب الدين –حيث تبدأ المشاكل؟ كما من المؤكد أن يكون ذلك جداراً طويلاً جداً.
يقول بكر أن هناك 200 ألف قتيل في لبنان. وعندما انتهت الحرب، توصلتُ إلى تقديرات تضع الرقم عند 150.000. فماذا حدث للأرواح الـ 50.000 المفقودة؟ مثل أرقام الموتى في سورية، يمكن أن يكون حساب الضحايا عملاً مراوغاً إحصائياً. خصوصاً مع وجود كل أولئك القتلة المتقاعدين الذين ما يزالون يعيشون في سن الشيخوخة.
روبرت فيسك
صحيفة الغد