عد ست سنوات من بدء الصراع، اختبرت سورية وشعبها تحولاً كاملاً. والآن، أصبحت آثار الأزمة التي قتلت نحو نصف مليون إنسان، وأجبرت قرابة 11.5 مليون آخرين على الخروج من بيوتهم، مطبوعة في الهويات المتعددة التي يُعرِّف السوريين بها أنفسهم. وفي حين تقاوم أغلبية من السوريين بشراسة فكرة التقسيم الرسمي لبلدهم، فإن من المستحيل تجاهل الطريقة التي غرست بها الحرب الوحشية والمطولة انقسامات عميقة في ما كان ذات مرة مجتمعاً واحداً متماسكاً منسجماً.
في العديد من مناطق البلد، تظهر خطوط المعركة فيزيائياً بين القرى التي عاشت ذات مرة في انسجام. والديناميات الطائفية التي كانت تدعمها الجماعات المتطرفة وحدها في السابق، شرعت الآن في تشكيل تكوين المعارضة السائدة بشكل حاسم.
تكمن جذور هذه الدينامية في سلوك الرئيس بشار الأسد، الذي كان سريعاً إلى وصف حركة التظاهرات السلمية التي انطلقت في بواكير العام 2011 بأنها “مؤامرة خارجية”. وهذه المؤامرة، كما زعم الأسد في أواسط ذلك العام، هي واحدة يقودها “الإرهابيون” السنة -الذين كان هو نفسه قد أطلق سراح العشرات -إذا لم يكن المئات- منهم من السجون في أشهر آذار (مارس)، وأيار (مايو)، وحزيران (يونيو) من العام 2011. ولم يقتصر أثر توصيف الأسد الطائفي للأزمة التي اندلعت حينه، وتنصيب نفسه -بما ينطوي على مفارقة- مدافعاً عن الأقليات في سورية، على تمكينه من تعزيز قاعدته، وإنما ضمن أيضاً أن يشهد المتطرفون في داخل المعارضة سردهم وهو يزدهر باطراد. وكان ذلك هو ما حدث، أكثر أو أقل.
الآن، تشهد المعارضة السورية أضعف أحوالها منذ العام 2012، وتتحرك الاتجاهات الدولية ضدها أيضاً. فقد نأت الولايات المتحدة بنفسها عن رواية “يجب على الأسد أن يرحل”، كما تحوّل انتباهها عن المسرح السوري بفعل انتخاباتها الخاصة؛ وانصرف انتباه أوروبا أيضاً بسبب قضايا اللاجئين و”بريكست”؛ وشهدت تركيا تحولاً كاملاً في الوجهات، بحيث باعت حلب لروسيا. وفي هذه الأثناء، قامت موسكو وطهران وحزب الله منهجياً بتحسين التزاماتها العسكرية تجاه نظام الأسد، على نحو يضمن بقاءه في الحد الأدنى.
وسط كل هذه التحديات، دخلت المعارضة السورية طوراً من المراجعة الذاتية والكثير من الضغوط الداخلية. وبوجودها تحت الضغط من الدول المجاورة -سواء من الأردن أو السعودية في الجنوب، أو تركيا وقطر في الشمال- وفي مواجهة القليل من الخيارات الأخرى، كشفت المعارضة المعتدلة من غير تنظيم القاعدة عن براغماتيتها بالموافقة على حضور المحادثات السياسية في كازاخستان وسويسرا، حتى مع أن قواعدها الشعبية ظلت معارضة بقوة لمثل هذه الإشارات على “التنازل”، كما أن القليلين من الحضور توقعوا نجاح المحادثات.
لكن المعارضة السورية المسلحة تتغير أيضاً نتيجة للضغوط الداخلية. وكان ممثلو تنظيم القاعدة السوريون -الذين غيروا اسمهم إلى “جبهة فتح الشام” في تموز (يوليو) 2016، ثم إلى “هيئة تحرير الشام” بعد تمكنها من استيعاب العديد من المجموعات الأخرى في كانون الثاني (يناير) من العام الحالي- قد عملوا بصبر وبلا كلل في سعيهم لتحقيق هدفهم طويل الأمد: دمج فصائل المعارضة السورية المسلحة كافة تحت مظلة التنظيم العريضة العابرة للحدود الوطنية. وقد وصف تنظيم القاعدة هذا الهدف عادة بأنه “توحيد الصفوف”.
فيما يعود بشكل كبير إلى تحرره من أي تعليمات أو سلطة حكومية، وبتشجيع من الضعف التدريجي الذي تعاني منه معظم المكونات المعتدلة للمعارضة في سورية، أمضى تنظيم القاعدة الكثير من الفترة ما بين العامين 2012 و2015 في مد جسور الثقة بينه وبين فصائل المعارضة السورية، تحت قناع “جبهة النصرة”. وقد شكل ذلك المرحلة الأولى من محاولة تنظيم القاعدة دمج نفسه في صفوف المعارضة. وقدمت المجموعة نفسها كمكوِّن فقط في إطار حركة ثورية سورية مسلحة عريضة، باستخدام البراغماتية المنضبطة، واستراتيجية عسكرية معرَّفة بدقة، وتأكيد المحلية لغاية إغواء السوريين بالقبول الاجتماعي به أولاً ثم دعمه ثانياً. وعن طريق تسمية نفسها باسم “جبهة فتح الشام” في أواسط العام 2016، وإخبار السوريين بأنها قطعت صلاتها الخارجية بتنظيم القاعدة، سعت المجموعة إلى التغلب على العقبة الوحيدة المتبقية أمام توحيد الصفوف عن طريق إقناع ما يكفي من فصائل المعارضة السورية بأنها حركة سورية بشكل أساسي، مكرسة لقضية محلية وليس لمشروع جهادي عابر للحدود الوطنية.
هذا التمرين في تغيير الاسم مكّن تنظيم القاعدة من إحراز بعض التقدم، لكنه تركه أمام مهمة تحقيق الهدف المنشود. وكانت ثلاث مبادرات متعاقبة للوحدة قد فشلت في أواخر العام 2016 وبواكير العام 2017، ونتج عنها اندماج مهم واحد. وقد رفضت المجموعة السلفية القوية ذات التركيز المحلي، “أحرار الشام”، أكثر الحلفاء العسكريين ثباتاً لـ”جبهة فتح الشام” والتي لا تقدر بثمن، رفضت مراراً وتكراراً الاتحاد معها، محتجة بأن المجموعة لم تنأ بنفسها بما يكفي عن تنظيم القاعدة لتبرير اتخاذ مثل هذه الخطوة. وقد أطلق ذلك حرباً شرسة بالكلمات واشتباكات متكررة، وأشعل في النهاية موجة من هجمات “جبهة فتح الشام” المبيتة على جماعات المعارضة في شمال سورية.
مع تهديد مجموعة “أحرار الشام” بشن حرب انتقامية شاملة ضد “جبهة فتح الشام”، انضمت أكبر المجموعات السورية إلى “أحرار الشام” من أجل حماية نفسها، بينما أرغمت “جبهة فتح الشام” مجموعات أخرى على الانضواء تحت مظلتها الجديدة “هيئة تحرير الشام”. وعمل هذا “الفرز الكبير” فعلياً على تقسيم المعارضة السورية في الشمال إلى ثلاثة فصائل متنافسة. وظلت مجموعتا “هيئة تحرير الشام”، و”أحرار الشام” الأقوى عسكرياً؛ حيث يرجح أن الأولى تضم نحو 12.000 إلى 14.000 مقاتل، بينما تضم الثانية ما يقترب من 18.000 إلى 20.000. وفي الأثناء، أصبح الجيش السوري الحر أقرب إلى مظلة فضفاضة تجمعت تحتها الجماعات المسلحة التي تتماهى مع المثل الأصلية للثورة الوطنية السورية. ووسط الأعمال العدائية مع “جبهة فتح الشام” و”هيئة تحرير الشام”، وكطريقة للتمايز عنها، اعتنق سلفيو تنظيم “أحرار الشام” خطاباً قومياً شبيهاً بخطاب الجيش السوري الحر وعلى هيئته.
مع أنها تضم الآن جماعات أقل تطرفاً من تنظيم القاعدة، ما تزال “هيئة تحرير الشام” تحتفظ بنفس أهداف تلك الجماعة الجهادية العابرة للحدود لسورية -بالتحديد إعلان سورية إمارة إسلامية، والتي ستكون مكوِّناً في خلافة عالمية شاملة لتنظيم القاعدة في نهاية المطاف. وفي الأثناء، تظل مجموعة “أحرار الشام” محافظة بعمق من حيث هويتها الإسلامية، لكنها لا تنطوي على أي أهداف خارج حدودها. وفي مقابلة حديثة، أكدت المجموعة أنها “تؤمن بالمشاركة السياسية”، ولا تعارض تبني “الديمقراطية”، وسوف تشارك “في استفتاء شعبي”، ولا تعارض أي “قرارات سياسية مستقبلية (يتخذها) الشعب السوري”.
على الرغم من هذه الفروقات السياسية والأيديولوجية، تستمر مجموعات “هيئة تحرير الشام”، و”أحرار الشام”، والجيش السوري الحر، في إصرارها على مواصلة كفاحها المسلح ضد نظام الرئيس بشار الأسد. ومع ذلك، ومع وضع الدول الإقليمية والدولية كلاً الجيش السوري الحر و”أحرار الشام” تحت ضغط كثيف لدفعهما إلى لامتثال لوقف إطلاق النار الذي يضعف باطراد، يقوم نهج “هيئة تحرير الشام” الثابت القائم على إدامة الأعمال الحربية بمنح المجموعة ميزة في سياق كسب الصدقية والولاء على الأرض. ويكسب نهجها القائم على مبدأ القتال “بلا قيود” مزيداً من الجاذبية كل يوم.
روايات متباينة
بينما أصبح المجتمع الدولي أكثر تصميماً من أي وقت مضى على “حل” الأزمة السورية، ومع هيمنة القتال ضد “داعش” واللاعبين الإرهابيين الآخرين على صنع السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبح هدف تنظيم القاعدة الجهادي طويل الأمد في سورية يواجه تحدياً غير مسبوق. ولكن التنظيم تمكن، بمواصلته الإصرار على متابعة أجندته الوطنية، ومهاجمة وتدمير المجموعات المنافسة بين الحين والآخر، من بناء دفاع فعال.
وليس هذا شأناً صغيراً بالنظر إلى موقف القاعدة المتشدد تجاه محاربة نظام الأسد، والذي يروق لقواعد المعارضة المسلحة والمدنية على حد سواء داخل سورية. وتُفهم الجماعات ذات الصلات الدولية باطراد على الأرض على أنها خاضعة لأجندات رعاتها، الذين يبدون مدفوعين الآن على الأقل بهدف تحقيق سلام ممكن متفاوَض عليه مع النظام، في حين ظلت “جبهة فتح الشام” ثم”هيئة تحرير الشام” متمسكة بإدامة قتال فعال ضد النظام، وبالتالي تحقيق المكاسب في المصداقية على حساب أولئك الذين يبدون أكثر براغماتية.
ومع ذلك، ظهر أن هجمات “جبهة فتح الشام” ثم “هيئة تحرير الشام” على جماعات المعارضة الأخرى لا تتمتع بالشعبية إلى حد كبير بين السوريين المؤيدين للمعارضة، غير أن حماس الإسلاميين الظاهر لمواصلة الكفاح المسلح ضد الأسد وروسيا وإيران سيرجح غالباً على هذه المخاوف. وعلى الرغم من زعم المجتمع الدولي بأن وقف إطلاق النار ما يزال قائماً، فإن الضربات المميتة من الجو وبالمدفعية ضد المناطق المأهولة للمعارضة ما تزال مستمرة على أساس يومي، مشعلة أوار مشاعر الكراهية تجاه النظام. وبذلك، يؤدي استمرار المعارضة بالمشاركة في المحادثات الجارية في الخارج إلى وضعها في موقف لا تُحسد عليه بشكل متزايد، على الرغم من حاجتها إلى الاحتفاظ بالدعم والمصداقية الدوليين.
لكن قائد واحدة من هذه الجماعات الناشطة في الأستانة وجنيف، والذي طلب عدم ذكر اسمه، قال لي مؤخراً: “لا يجلب كل اجتماع جديد أي نتائج سوى الإهانة لثورتنا. إننا لا نستطيع أن نستمر في حضور هذه الاجتماعات إلى الأبد، تماماً كما أننا لن نتخلى عن معركتنا مع النظام”. وهكذا، وفي مواجهة هذا الضغط، رفضت كل فصائل المعارضة السورية المسلحة حضور الجولة الأخيرة من المحادثات التي بدأت في الأستانة يوم 14 آذار (مارس)، واستمرت خلال الذكرى السنوية السادسة لبدء الثورة السورية، في 15 آذار (مارس).
طوال هذه العملية، ظلت مجموعة “هيئة تحرير الشام” معارِضة بعناد لأي اقتراح للمشاركة في المحادثات أو تقديم تنازلات أو تسوية. كما نفذت أيضاً هجومين انتحاريين معقدين عميقاً في داخل أراضي النظام -ضد مقرات الجيش والمخابرات في مدينة حمص يوم 25 شباط (فبراير)، وضد أحمال حافلات من الحجاج الشيعة العراقيين في دمشق يوم 11 آذار (مارس). وقتل الهجومان مجتمعان 116 شخصاً، بينما أثار الهجوم الثاني دعوات في أوساط المجتمع الشيعي العراقي إلى قيام سلاح الجو العراقي بتوجيه ضربات جوية ضد “هيئة تحرير الشام” في شمال غرب سورية. كما استهدف هجوم ثالث مبنى “قصر العدل” عشية الذكرى السنوية السادسة للانتفاضة السورية في 15 آذار (مارس)، والذي كان -وفقاً لثلاثة مصادر منفصلة- من عمل “هيئة تحرير الشام” أيضاً.
الأعمال أعلى صوتاً من الكلمات
تستمر “هيئة تحرير الشام” في تأطير الصراع في سورية على أنه واحد يضع السنة في مقابل الشيعة. ووسط المعارضة العميقة، والإحباط المتزايد، والبحث عن الروح، أصبح هذا السرد المتطرف عن صراع بعمر قرون بين الخير والشر، يجد المزيد والمزيد من الجمهور المرحِّب. وقال لي عبادة القادري، الناشط السياسي الذي ذكرته مجلة “تايم” بين أكثر 100 شخصية مؤثرة في العام 2014، والذي يدير محطة إذاعة معتدلة، أن سرد “هيئة تحرير الشام” سوف يجد قبولاً لدى السوريين:
“تستخدم هيئة تحرير الشام لغة ومنطقاً مختلفين عن جبهة فتح الشام، وتعرض أسباباً منطقية سوف يتفق معها معظم السوريين، خاصة فيما يتعلق بالموقف الأميركي السيئ تجاه الثورة. هذه اللغة الجديدة تروق للناس… كما أنهم كانوا منطقيين أيضاً في الطريقة التي استهدفوا بها الشيعة -هذه عاطفة يعتنقها الكثير من السوريين السنة… وهم يقدمون أنفسهم الآن باعتبارهم الفصيل القوي الوحيد الذي سيدافع عن كل السوريين”.
حتى أن شخصيات بارزة في الجيش السوري، مثل الناشط والمستشار القانوني أسامة أبو زيد، الذي يصر على أنه “لم يكن المقصود أبداً أن تكون الثورة متعلقة بالطائفة”، يعترفون بأن فعالية “هيئة تحرير الشام” في ميدان المعركة وخلف خطوط العدو ستحوز على إعجاب السوريين بشكل حتمي:
“أي عملية نوعية تنتج عنها وفيات بين قوات النظام والميليشيات يجب دعمها، لأن السوريين ينظرون إلى هذه القوات على أنها مستعمرون يهدفون إلى إحداث تغييرات ديمغرافية في مناطقنا… قوات الأسد ترفع الأعلام الشيعية على الجامع الأموي في دمشق، الذي هو رمز سني… (ولكن) أي عملية تسبب إصابات بين المدنيين لن تلقى الدعم أبداً، خاصة إذا نفذتها جبهة النصرة”.
مع قيام أغلبية من جماعات المعارضة المسلحة بضبط نشاطها في ميدان المعركة مؤخراً بسبب المحاولات الجارية للتوصل إلى تسوية سياسية، يشتري إصرار “هيئة تحرير الشام” على البقاء ناشطة عسكرياً ورد الضربات بقوة في قلب مناطق النظام، يشتري لها ذلك مصداقية شعبية لا تقدر بثمن. وبالنظر إلى الإمكانية الحقيقية تماماً لتحول جزء مهم من الدعم الدولي للعمليات المناهضة للأسد قريباً إلى شيء من الماضي، فإن “هيئة تحرير الشام” تقدم نفسها باعتبارها النموذج الوحيد المستدام لاستمرار القتال الذي بدأه الكثير من السوريين في آذار (مارس) 2011.
قال لي رجل الدين السني البارز رامي الديلاتي: “السوريون يثقون بـ‘هيئة تحرير الشام’ أكثر من السابق، خاصة بعد الهجمات على مقرات المخابرات (في حمص) وفي دمشق… كانت الهجمات (التي تشنها المجموعة ضد فصائل المعارضة) مشكلة كبيرة، لكنها انتهت الآن… لقد سئم الناس من وجود مجموعتين أو ثلاث؛ لقد تعبوا من الانقسام”.
أميركا تتدخل
على الرغم من الجهود المستمرة، فشل تنظيم القاعدة في توحيد المعارضة السورية المسلحة تحت قيادته. والآن، وقد خلا التنظيم من جناحه الأكثر تطرفاً، الذي انشق ليشكل “هيئة تحرير الشام” في كانون الثاني (يناير)، أصبح تنظيم “أحرار الشام” أكثر حدة وتشدداً ضد “تنمر” مجموعة “هيئة أحرار الشام”. وقال لي قائد رفيع في “أحرار الشام” أن حدوث اندماج مع “هيئة تحرير الشام” هو شيء “مستحيل” ولا يمكن أن يحدث “أبداً”، بينما اتهم المسؤول العسكري البارز، حسام سلامة، المجموعة مؤخراً بأنها “تخدم أعداء الثورة”. وما يزال ديلاتي، الذي كان مشاركاً بعمق في جهد التحشيد الذي أمّن قرار “جبهة النصرة” تغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، على اتصال وثيق بقيادة “هيئة تحرير الشام”. وقد أشار إلى أن هدف “هيئة تحرير الشام” النهائي المتمثل في عمليات الدمج الهيكلية الكاملة يظل غير واقعي، في حين أن “توافق سياسي يحدث الآن”.
في الفترة الأخيرة، أقدمت الولايات المتحدة على اتخاذ خطوة بدت وكأنها تهدف إلى زيادة التوترات بين “هيئة تحرير الشام” وبين المكونات الأخرى للمعارضة السورية. ففي تصريح له يوم 11 آذار (مارس) لشرح السبب في أن الولايات المتحدة تنظر إلى “هيئة تحرير الشام” وكل الجماعات التي تتكون منها مثلما تنظر إلى تنظيم القاعدة، كتب المبعوث الأميركي الخاص، مايكل راتني، بطريقة قوية غير معتادة، والتي كان من الصعب تمييزها عن أي تصريح تصدره أي مجموعة من المعارضة السورية المسلحة. وقال لي قائد رفيع في “أحرار الشام”: “كان ذلك غير عادي حقاً. إنه كما لو أن ثورياً هو الذي كتبه. كل كلمة تبدو كما لو أننا كتبناها بأنفسنا. هل المؤلف سوري؟ هل هو مسلم”؟
لكن ثمة فقرة بعينها استرعت انتباه السوريين بشكل خاص:
“مع كل واجهة جديدة، يصبح تنظيم القاعدة أقل اعتماداً على الثورة، حتى أنه يسعى إلى تدمير -ويوجه الآن هجماته ضد- رموز الثورة. وقد رأينا هذا يحدث بشكل متكرر، كما ظهر في أعمالهم المدمرة ضد ‘أحرار الشام’ والمدافعين المخلصين الآخرين عن الثورة السورية”.
بالإشارة إلى أن “أحرار الشام”، وهي مجموعة بحثت الولايات المتحدة ذات مرة أمر تصنيفها كمنظمة إرهابية دولية، “كانت مدافعاً عن الثورة السورية”، فإن راتني ربما كان يسعى فقط إلى فرك الجرح بالملح. ويعود التوتر بين “هيئة تحرير الشام” و”أحرار الشام” في الأشهر الأخيرة إلى اتهام “هيئة تحرير الشام” مجموعة “أحرار الشام” بأنها موالية لتوجيهات خارجية (تركيا بالتحديد) وأنه طالما ظل ذلك التحالف قائماً، فإن “أحرار الشام” لن تسعى بصدق إلى تحقيق الهدف النهائي للثورة: الإطاحة بالنظام. والآن، تقول الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة في سورية علناً أن حليفها العسكري السلفي منذ وقت طويل كان “مدافعاً مخلصاً” عن الثورة، بينما سعت “هيئة تحرير الشام” إلى “تدمير” تلك الثورة.
وبعد وقت قصير من صدور البيان، أكد مسؤول في مكتب المبعوث الخاص للولايات المتحدة في وزارة الخارجية أن القصد من ذلك النص كان في الحقيقة تحريك الوعاء:
“أردنا أن نحصل على انتباه اللاعبين المسلحين على الأرض، وأن نستدرج النقاش والتعليق، ونظهر لهم أننا نتابع ما يكتبون، ونفهم أطروحاتهم، لكننا نعرف أيضاً متى يحرِّفون الحقيقة”.
في مواجهة دينامية جديدة غير مسبوقة، استجابت “هيئة تحرير الشام” برد فعال إلى حد مقلق. بعد عدة أسابيع من الخلاف الداخلي، أسست “هيئة تحرير الشام” مكتباً سياسياً (“إدارة الشؤون السياسية”) وأصدرت التصريح الأول الذي “يوضح” العديد من النقاط لراتني:
“لقد عبرت هيئة تحرير الشام عن نفسها منذ اليوم الأول لإعلانها، فأكدت على أهداف ثورتنا المتمثلة بإسقاط النظام. وعرَّفت كيانها بأنه كيان مستقل لا يمثل امتداداً لأي تنظيم أو جهة، وأن الهيئة مرحلة جديدة من مراحل الثورة السورية، أبناؤها هم أبناء هذا الشعب الثائر، تعاهدوا على نصرة أهلهم والدفاع عنهم والحفاظ على حقوقهم وهويتهم المسلمة”.
وهكذا، بينما تحولت الولايات المتحدة نحو استخدام اللغة الثورية، تحول رد “هيئة تحرير الشام” إلى استخدام لهجة الخطاب السياسي غير الديني. وقد تخلت عن الدعاء الافتتاحي من القرآن وبحثت فقط عن اللغة السياسية، مؤكدة على الطبيعة السورية لهويتها وقضيتها. ثم وضعت “هيئة تحرير الشام” بعد ذلك أربعة اتهامات ضد الولايات المتحدة -والتي تتصل بنظام الأسد وإيران وحزب العمال الكردستاني وروسيا- واتهمت واشنطن بـ”إنهاء الثورة”. وما كان أي ناشط سوري في سورية وأوروبا أو أميركا ليستطيع تخطيء أي من نقاط “هيئة تحرير الشام” الأربعة.
ما الذي يخبئه المستقبل؟
إلا إذا حدث تحول جيوسياسي رئيسي وكبير، سيكون من الصعب رؤية مستقبل لا يعطي “هيئة تحرير الشام” فرصاً أكثر لاستغلال ميزتها. ومن الواضح أن هجمات “جبهة فتح الشام” و”هيئة تحرير الشام” الحالية على مجموعات المعارضة قد ولدت مستوى غير مسبوق من الشكوك والقلق إزاء نوايا المجموعة في سورية، لكن الكفاح المسلح ضد نظام الأسد سوف يستمر في أن يأخذ الأولوية بالنسبة للقاعدة الشعبية للمعارضة السورية.
سوف يكون المحدِّد الرئيسي للمستقبل هو العلاقة بين “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام”، والمدى الذي تستطيع به تركيا التأثير عليها. فمنذ أواسط العام 2016 على الأقل، نظرت أنقرة إلى وجود تنظيم القاعدة في شمال سورية على أنه تهديد للسياسة التركية. وفي آب (أغسطس)، انخرطت المخابرات التركية في حوارات مفصلة مع كافة جماعات المعارضة في الشمال، والتي دارت حول توفير ضمانات أمنية وتدابير حماية لهذه المجموعات في مقابل فض شراكة واسع النطاق بين المعارضة وبين “جبهة فتح الشام” وعزلها.
واليوم، تضغط تركيا على المعارضة الشمالية من أجل نقل الأسلحة الثقية من الجبهات التي تتقاسمها مع “هيئة تحرير الشام” في شمال غرب سورية إلى منطقة ريف شمال حلب، التي تخضع لسيطرة وكلاء تركيا. ومن شأن هذه الخطوة أن تقطع بعض المسافة نحو إضعاف “هيئة تحرير الشام” بينما تعزز أهداف تركيا في شمال حلب، حيث يصبح تقديم نموذج معارضة بديل من غير المتطرفين واقعاً بسرعة. وقد منعت “هيئة تحرير الشام” بالقوة محاولات عديدة في الفترة الأخيرة، بذلتها جماعات -بمن فيها “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” للقيام بهذه العمليات لنقل الأسلحة.
إن التوتر بين المعارضة السورية الأوسع وبين “هيئة تحرير الشام” هو حقيقي جداً. وقد أُزهِقت أرواح، وأُخِذت أراض، وسُرقت أسلحة، وشُوِّهت سُمعة بسبب هذا العراك. لكن المعارضة السورية تعرف في نهاية المطاف أن الانقلاب على “هيئة تحرير الشام” بالقوة من دون وجود دعم دولي وحماية يُعتد بهما، سوف يدق بشكل شبه مؤكد ناقوس الموت لكفاحهم الثوري ضد الأسد –حتى لو نجحوا في هزيمة المجموعة.
كما تدرك جماعات المعارضة المسلحة تماماً حاجتها المستمرة إلى الاحتفاظ بمصداقيتها الشعبية على الأرض. وحتى تفعل ذلك، فإنها ستحتاج قريباً إلى أن تعطي الكفاح العسكري الأولوية على المفاوضات السياسية. وإذا وعندما تفعل ذلك، فإن “هيئة تحرير الشام” ستستعيد المبادرة بشكل كامل، حيث سيُنظر إلى التعاون العسكري قريباً على أنه ضرورة وليس خياراً. وربما لا تجد “هيئة تحرير الشام” نفسها أقرب إلى تأمين “توحيد الصفوف” من هذا الوقت، لكنها ستكون قد ضمنت مكانها باعتبارها المحرك الذي لا يُنازع للسرد الثوري في سورية.
تشارلز ليستر
صحيفة الغد