دعا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الولايات المتحدة إلى تعميق تعاونها مع بغداد بموجب “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” التي أُبرمت بين الولايات المتحدة والعراق عام 2008. وإنّه لأمرٌ منطقي. فقد أنفقت أمريكا موارد لا تُحصى في العراق، إذ تدخلت عسكرياً أربع مرات منذ عام 1990. ويستحق العراق هذا الجهد – فهو مركز الشرق الأوسط، وفيه ما يقرب من ثلثي احتياطيات السعودية من النفط والغاز، ويحتوي على مياه وفيرة، و[أعداد متنامية] من السكان المتعلمين وديمقراطية فعالة. ولكن إذا كانت الولايات المتحدة لا ترغب في التدخل مرةً أخرى، فيجب ربط مساعدتها بالإبقاء على وحدة عسكرية صغيرة على الأراضي العراقية.
ومن الضروري اتخاذ قرارٍ حول إبقاء القوات الأمريكية في البلاد في المستقبل القريب، حيث أن الأساس المنطقي لوجودها الحالي – وهو هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» – سوف يتلاشى مع تدمير هذه الجماعة. وقد يكون تبرير الوجود الأمريكي الطويل الأمد هو تدريب القوات العراقية وتجهيزها ومساعدتها ضد فلول تنظيم «داعش». ومن الناحية الاستراتيجية، يمكن أن يساعد أيضاً على إبقاء العراق مستقلاً عن إيران.
وسوف يندرج التدمير الوشيك لـ “خلافة” تنظيم «الدولة الإسلامية» مع حرب العراق، و”الربيع العربي”، والاتفاق النووي الإيراني، والتدخل الروسي في سوريا، كونه عامل مغيّر لقواعد اللعبة في المنطقة. وقد عززت العوامل الأربعة الأولى السعي الايراني والروسى لزعزعة النظام الأمنى الإقليمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة. إلّا أنّ هزيمة تنظيم «داعش» يمكن أن تساعد الولايات المتحدة على عكس هذا الاتجاه.
وللقيام بذلك، يتعين على واشنطن أن تنظر إلى المنطقة من زاوية مختلفة. فمنذ الحرب الباردة، تعاملت الولايات المتحدة مع تحديات الشرق الأوسط – إيران وصدام حسين وسوريا واليمن والإرهاب، وأكثر من ذلك – على أنها مشاكل منفصلة، وليس جزءاً من مشروعٍ أكبر. واعتبرت الولايات المتحدة أنّ محور المنطقة، وهو نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة، سوف يستمر.
وتشكّل التهديدات التي يشهدها هذا الترتيب من إيران وروسيا والإسلاميين السنة تحدياً لهذا الاعتبار. ففي هذه البيئة، يتعين إعادة إحياء مبادئ الحرب الباردة المتمثلة بتضامن التحالف ومصداقية الولايات المتحدة. ومن الضروري أن تكون كافة الخطوت التي تتخذها الولايات المتحدة في خدمة استراتيجية احتواء إيران ومحاربة المتطرّفين السنّة. والهدفين مرتبطان ببعضهما البعض: ففي ظل النفوذ الإيراني، عمدت دمشق وبغداد إلى قمع المواطنين العرب السنّة مما أدّى إلى تحوّلهم إلى تنظيم «الدولة الإسلامية».
ومن شأن الاحتفاظ بوحدة من القوات العسكرية [الأمريكية] في العراق أن يدعم هذه الاستراتيجية. ويبدو أنّ إدارة ترامب مهتمةٌ بهذا الأمر، بيد أنّ نجاحها غير مؤكد نظراً لأنّ العراق لم يسمح للولايات المتحدة بتمديد فترة انتشار قواتها في العراق في عام 2011. ويبدو أنّ رئيس الوزراء العبادي يدعم هذه الفكرة، بينما يعارضها القادة السياسيون الآخرون والشعب وإيران إلى حدٍ ما. وبغية الحفاظ على وجود عسكري [أمريكي]، سيتعين على الولايات المتحدة التقدم على ثلاثة طرق: “إقناع” الآخرين بالوجود العسكري، وربطه بالمساعدات الأخرى، وإبقائه بعيداً عن إثارة الجدل.
ويجب أن يقتنع العراقيون بأنّ الوجود الأمريكي سوف يدعم الحرب على الإرهاب ويضمن عدم انهيار الجيش العراقي كما حدث في الموصل عام 2014. كما يجب أن يتيقّنوا بأنّ هذا الوجود سيدعم الوحدة العراقية من خلال الإشارة إلى الأقليات من العرب السنة والأكراد المتشككين بأن حكومة بغداد، المكونة من الشيعة إلى حد كبير، تسعى إلى إقامة علاقات مع الغرب. ومن المهم أيضاً وجود تَصوّر بأن الولايات المتحدة تدعم السيادة العراقية، من خلال الإشارة إلى إيران بأن العراق لن يصبح دولة تدور في فلك أي دولة أخرى.
سيتعين على الولايات المتحدة الربط بين المساعدات الاقتصادية والتعاون الدبلوماسي – أي باختصار أن تمارس “الحب الصارم” – لكي توضّح أنّه يتعين على السياسيين العراقيين أن يتحلّّوا بالمرونة [فيما يخص الوجود العسكري الأمريكي]، مقابل هذه المساعدة. وقد قدّمت الولايات المتحدة دعماً ملحوظاً للعراق يتخطى الأمن فحسب، ويشمل على سبيل المثال قرضاً بقيمة 15 مليار دولار أمريكي بقيادة “صندوق النقد الدولي”، ووساطة في النزاعات بين بغداد وكردستان، وتسهيلات لإنتاج النفط. ولدى الولايات المتحدة مصلحةٌ أساسية في منع العراق من الدخول في دوامة العنف، من خلال تمكين إيران من شنّ اعتداءٍ إقليمي أو إنشاء حركةٍ إرهابية أخرى، وذلك لا يتطلب الدعم السياسي والاقتصادي فحسب، بل استمرار الروابط العسكرية أيضاً.
إلّا أنّه من الضروري أن يطمئنّ العراق من أنّ العراقيين سوف يقبلون بوجود عسكري أمريكي على أراضيهم. وبناءً على محادثات تمديد فترة تواجد القوات مع العراق عام 2011، سوف يكون ما يلي مقبولاً سياسياً.
أولاً، ينبغي أن تكون وحدة القوات العسكرية محدودةً وغير دائمة. ومن المرجح أن يصل العدد الأقصى الممكن للقوات من الناحية السياسية إلى5,000 جندي، كما كان متوخّى في عام 2011. كما يجب أن تكون القوات الأمريكية جزءاً من وحدة عسكرية دولية تنتشر في قواعد عراقية. ويجب ألّا تطلب الولايات المتحدة مرة أخرى حصانات قانونية للجنود الأمريكيين تكون معتمدة من قبل البرلمان، بل عليها أن تمدّد الوضع الإداري الذي يعملون بموجبه اليوم.
ثانياً، يتعين على البعثة الرسمية للقوات أن تركّز على: تدريب القوات العراقية وتجهيزها، ومهام استخباراتية محددة، ومكافحة الإرهاب وربما عمليات الدعم الجوي. وقد يفهم الجميع في المنطقة أنّه من شأن مثل هذا الوجود العسكري أن يساعد أيضاً على احتواء إيران وتعزيز الاستقرار، في حين تتطلّب الدبلوماسية ألّا يكون ذلك صريحاً.
ثالثاً، على الولايات المتحدة توخّي الحذر من التلميح إلى أنّ القوات المتواجدة في العراق تشكّل قوةً قتالية لإبراز القوة الأمريكية إلى سوريا أو إيران فيما يعارض مصالح بغداد.
ولا تضمن أي من هذه النقاط موافقة العراق على السماح بوجود عسكري من هذا القبيل ولكنها ستجعل الخيار أكثر سهولة. ويتوقف الاستقرار في المنطقة برمتها على اتخاذ العراق القرار الصائب.
جيمس جيفري
معهد واشنطن