لم تكن ردة الفعل العلنية لإسرائيل على الضربة العسكرية التي وجهتها إدارة الرئيس ترامب لنظام الرئيس السوري بشار الأسد مؤخراً غامضة. فقد امتدحت قرار الرئيس دونالد ترامب إطلاق صواريخ كروز على القاعدة الجوية السورية بالقرب من مدينة حمص رداً على استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية لذبح العشرات من المدنيين في بلدة خان شيخون. وكانت إسرائيل منتقدة دائمة لأداء إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في الشرق الأوسط. كما أن الضربة الأخيرة تعطي الإسرائيليين سبباً لكي يأملوا بأن الولايات المتحدة، ربما، وربما فقط، تكون مستعدة لاتخاذ موقف أشد ضد الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي.
لكن إطراء المسؤولين الإسرائيليين المعلن على الهجوم يتناقض بحدة مع تشككهم الذي أعربوا عنه في الاحاديث الخاصة، في أن تكون واشنطن قد فكرت ملياً بخطواتها التالية في سورية. وهم على وعي تام بأن قرار ترامب ربما اتخذ بدوافع شخصية –خاصة رغبته في إثبات أنه أقوى من سلفه، أو بسبب حاجته إلى النأي بنفسه عن المزاعم بتلاعب روسي في الانتخابات الرئاسية (الأميركية). ومن منظور إسرائيل، لا يشكل ذلك إحلالاً لاستراتيجية متماسكة للمنطقة.
كان المسؤولون الإسرائيليون قد سبقوا إدارة ترامب في توجيه اللوم عن الهجوم الذي شن على خان شيخون إلى نظام الأسد، وطالبوا برد قوي على هذا العمل. وقد أخبرني ضباط في المخابرات الإسرائيلية بعد ساعات من الهجوم بأنهم مقتنعون بأن أعضاء رفيعين في النظام متورطون في القرار الذي اتخذ لاستخدام السلاح الكيميائي. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، قد ادعى في مقابلة مع صحيفة يديعوت الإسرائيلية مؤخراً بأن الأسد أقر شخصياً استخدام غاز السارين في الهجوم، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعا المجتمع الدولي إلى استكمال جهده للقضاء على مخزون سورية من الأسلحة الكيميائية.
ملاحظات ليبرمان، المواطن السابق في الاتحاد السوفياتي -ووزير الدفاع الإسرائيلي الحالي الذي هاجر من مولدوفا في أواخر السبعينيات، أغضبت الكرملين. ووفق وسائل الإعلام الروسية، فقد اتصل الرئيس فلاديمير بوتين بنتنياهو واشتكى له من ليبرمان.
وكانت إسرائيل وروسيا قد قطعتا أشواطاً كبيرة لتجنب المواجهة بينهما في سورية. وقد اجتمع بوتين مع نتنياهو خمس مرات في الأشهر الثمانية عشر الماضية، بشكل رئيسي لبحث الوضع في سورية. لكن من الواضح أن اللهجة في آخر مكالمة هاتفية لم تكن ودية جداً. ومن غير الصعب فهم السبب في كونها كذلك. فخلال اليومين الأولين بعد الهجوم الكيميائي، كان الروس منهمكين في نشر معلومات مختلفة وفي توجيه اللوم إلى الثوار السوريين عن استخدام الغاز السام.
قد يكون للجغرافيا دور لتلعبه فيما يتصل بموقف إسرائيل الأكثر عدوانية حيال الكارثة المتواصلة في سورية. فالتطورات تجري في حديقة إسرائيل الخلفية، ومن الممكن أن تكون لها تداعيات مباشرة على أمنها. ويجد ضباط المخابرات الإسرائيلية أنفسهم ملزمين بأن يحافظوا على أعلى درجات التأهب بسبب التطورات في سورية. كما تقرر أن يجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي لبحث مسألة تجديد توزيع أقنعة الغاز على المواطنين الإسرائيليين على ضوء تطورات الأسابيع الأخيرة في سورية.
خلال الأعوام الستة الماضية، تمتعت القيادة في إسرائيل بالحكمة بشكل عام باتخاذها قراراً بأن تظل على هوامش الصراع السوري، والمشاركة فقط في المدى الذي تراه وتعتبره ضرورياً جداً. وفي وقت مبكر من الحرب، حدد نتنياهو خطوط إسرائيل الحمراء: سيكون هناك رد عسكري على كل هجوم يشن في داخل الأراضي الإسرائيلية، وحتى على أي تسرب غير مقصود للصراع، وأن قوات الدفاع الإسرائيلية ستتصرف لمنع نقل أسلحة كيميائية أو أنظمة أسلحة متطورة من سورية إلى حزب الله. وعلى عكس الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، التزم نتنياهو بخطوطه الحمراء.
ذكرت وسائل الإعلام الدولية أن سلاح الجو الإسرائيلي وجه خلال السنوات الأخيرة الماضية عشرات الضربات الجوية ضد مستودعات وقوافل الأسلحة. وعندما يسُأل المسؤولون الإسرائيليون عن ذلك، فإنهم يكتفون في العادة بهز أكتافهم والتزام الصمت.
ولعل الفكرة التي تقف وراء هذا “الغموض البناء” هي عدم تحفيز نظام الأسد على المزيد من التصعيد إذا لم يتم إحراجه علناً.
عقد تدخل روسيا لإنقاذ نظام الأسد في خريف العام 2015 الأمور بالنسبة للإسرائيليين. وفي الأعقاب، قرر بوتين ونتنياهو وضع آلية لنزع إمكانية الاشتباك بغية منع حدوث معارك جوية غير مقصودة بين الجانبين. لكن النشر الروسي لأنظمة مضادة للطائرات ورادارات بعيدة المدى في قاعدة حميميم الجوية في شمال غرب سورية الآن، أصبح يعني أنها تستطيع رصد أي تحرك للطائرات الإسرائيلية انطلاقاً من بئر السبع في الجنوب. وتوجد معظم القواعد الجوية الإسرائيلية في الشمال، وهو ما يعطي موسكو معرفة غير مسبوقة بالنشاط الجوي الإسرائيلي.
يشعر المسؤولون الإسرائيليون بالقلق من احتمال أن تقلب القوة العسكرية المتنامية للأسد ميزان القوى في جنوب سورية. فإذا حاول الجيش السوري طرد الثوار السوريين من حدود الجولان بالقرب من إسرائيل، فإن حلفاءه -الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً وحزب الله، وحتى جهاز الحرس الثوري الإيراني- قد لا يكونون بعيدين في الوراء. ومن شأن وضع كهذا أن يسمح لإيران بمضاعفة منطقة الحدود التي يمكن أن تستخدمها، بالإضافة إلى جنوب لبنان، كقاعدة انطلاق لضرب إسرائيل.
وكان نتنياهو قد قال لكل من بوتين وترامب إن هذا التطور يشكل خطراً على المصالح الأمنية لإسرائيل. كما أعرب عن القلق من محاولة إيران الواضحة استئجار ميناء سوري على ساحل البحر الأبيض المتوسط بنفس الطريقة التي استأجرت بها روسيا ميناء طرطوس السوري. وتبدو المحاولة الإيرانية جزءاً من استراتيجية إيرانية أوسع نطاقاً. ووفق صحيفة كويتية، فقد بنى جهاز الحرس الثوري الإيراني مؤخراً خط إنتاج تحت الأرض للقذائف والصواريخ في جنوب لبنان وسلمه لحزب الله.
قد تكون استعادة الأسد لليد العليا في سورية قد أشعلت فتيل مواجهة مع إسرائيل مؤخراً. ففي 17 آذار (مارس)، ضربت طائرات حربية إسرائيلية مستودع أسلحة بالقرب من تدمر، فتصدت لها وسائل الدفاع الجوي السوري بإطلاق صواريخ سام 5 عليها. وعلى الرغم من أن تلك الصواريخ أخطأت أهدافها، فإن أحدها دخل المجال الجوي الإسرائيلي بالقرب من الحدود مع الأردن. وكانت إسرائيل قد استخدمت نظام الدفاع “السهم” لاعتراض الصاروخ السوري. وعندما سقطت أجزاء من الصاروخ الاعتراضي الإسرائيلي في بلدة إربد الأردنية، واضطرت إسرائيل للمرة الأولى إلى إعلان أنها كانت تقصف قوافل أسلحة في سورية حتى لا تحرج الأردن.
إذا كانت إسرائيل تأمل في الحد من التهديدات المحتملة التي تواجهها من سورية، فإنها تحتاج إلى المساعدة من الولايات المتحدة. ويدرك نتنياهو أن من الصعب التنبؤ بما يفكر به ترامب، وقد ينزعج من أدنى إهانة توجه إليه. وهذا ما يفسر السبب في مسارعة نتنياهو إلى قبول مطلب الرئيس بوضع قيود معينة على بناء المستوطنات في الضفة الغربية. وقد يحاول نتنياهو الآن إقناع ترامب بالتوقف عن ترك المفاوضات الدبلوماسية الجارية حول سورية كلية للروس. وفي الأثناء، سوف يشدد على الأولويات الإسرائيلية: منع إعادة صعود إيران؛ وإضعاف نظام الأسد؛ والأهم من كل شيء منع قوات الوكيلة لإيران من دخول منطقة الحدود في مرتفعات الجولان.
في الأسابيع الأخيرة، هددت روسيا وإيران بالرد على أي ضربات جديدة ضد سورية. ويجب أن يقلق هذا البيان المشترك للبلدين إسرائيل: هل يشمل ذلك الضربات التي توجه ضد قوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله؟
لكن من غير المتوقع أن تذهب اقتراحات إسرائيل لترامب أبعد من الإصرار على أن المصالح الإسرائيلية، الخافية بالكاد، يجب أخذها بعين الاعتبار. والمعروف أن الحكومة الإسرائيلية تعي تماماً طبيعة الفوضى التي أصبحت عليها سورية. وكما قال عاموس يادلين، المدير السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية: “إن حل المكعب السوري أصعب من حل مكعب روبيك. ويبدو أنك مهما فعلت لحل، فإن وجهاً واحداً على الأقل سيبقى غير مرتب”.
عاموس هاريل
صحيفة الغد