اكتمل الجمعة 14 أبريل 2017 تنفيذ اتفاق تهجير البلدات السورية الأربع؛ كفريا والفوعة الشيعيتين ومضايا والزبداني السنيتين؛ وهي عملية التهجير الطائفية الأكثر وضوحا منذ اندلاع الحرب في سوريا. وسمحت الأمم المتحدة بالاتفاق الذي تم برعاية قطريّة وحضور ممثلين عن جبهة فتح الشام وأحرار الشام وحزب الله والحرس الثوري الإيراني.
المهجَّرون الشيعة والسنة غيرُ راضين عن ترك منازلهم، لكنّها لعبة المصالح والابتزاز السياسي، والتي انتهت عند رغبة إيران في تهجير شيعة إدلب، والاستفادة منهم لتقوية نفوذها في مناطق أكثر حيوية لها، ربما في القصير أو في الزبداني ومضايا أو في حلب.
ومنذ بداية الاحتجاجات، ثمّ تحولها إلى العمل المسلح، اعتمد النظام سياسة التطهير المكاني لمناطق المعارضة. ويبدو أن سيطرة الأسلمة على الثورة واتباعها سياسة تحرير المدن أعطت الحجّة للنظام لقصف تلك المناطق الواسعة وتهجيرِها؛ إذ بلغ عدد النازحين داخليا 6.5 مليون سوري، غالبيَّتهم من السنة.
لكن اللافت أن النسبة الأكبر منهم لجأت إلى مناطق النظام، الذي لا يسيطر إلا على 17 بالمئة من مساحة سوريا، لكنها تضم 10 ملايين سوري، أي 63 بالمئة من السكان المقيمين في الداخل. ويتوزع المهاجرون في كل المناطق الآمنة نسبيا بما فيها المناطق التي غالبيتها من الأقليات، كالساحل السوري والسويداء والمناطق ذات الغالبية العلوية من حمص.
وما يُحكى عن توطين علويين وشيعة في أحياء حمص القديمة فيه مبالغة؛ إذ يمكن للمتجول في حمص أن يرى أنّ أحياءَ الخالدية والبياضة وجب الجندلي والنازحين وكرم الزيتون وجورة الشياح ممنوع التجول فيها.
لكن تم بالفعل، كمكافأة لعناصر النظام، الاستيلاء على منازل في أطراف جب الجندلي القريب من حي الزهراء العلوي وأطراف النازحين وكرم الزيتون القريبة من وادي الدهب، فيما يسكن حيَّ عشيرة مهجّرون من الرقة ودير الزور وحلب وإدلب، وقلة من أهالي حي ديربعلبة عادت إليه. وعاد أهالي حي الحميدية ذوو الغالبية المسيحية.
كان النظام السوري يسعى إلى إخماد الثورة ولا نية له لإحداث فرز ديموغرافي ضمن الجغرافيا السورية؛ لكن مع انهيار قوته العسكرية، بات لا يعارض ما يَفرضه منقذوه الإيرانيون الذين يريدون تحقيق نفوذ واسع في “سوريا المفيدة”.
وسبق أن أشرفت ونفذت إيران سلسلة من عمليات التهجير في سوريا؛ لكن ونتيجة استحالة التغيير الديموغرافي الشامل في سوريا ستكون من الصعب عليها الهيمنة الطائفية لكون أكبر المكونات هم السنة، مما يدفعها إلى استثمار التغييرات الديموغرافية في بعض المناطق لتمكين نفوذها.
ويؤكد منذر آقبيق الناطق الرسمي لتيار الغد السوري لـ”العرب”، أن “شريط المناطق في غرب سوريا من دمشق وضواحيها جنوبا إلى حمص بما فيها القلمون الغربي هي المناطق الأكثر استهدافا بتهجير السكان مما يدل على أن هذه المناطق هي التي تهتم بها إيران”.
ويقول المحلل السياسي السوري أحمد غنام لـ”العرب” إن “إيران تستهدف من وراء التغيير الديموغرافي إيجاد حاضنة شعبية تؤيد توجهها الجيوسياسي في سوريا وتشكل جسر العبور نحو لبنان والعراق، وخلق جبهة عريضة من المؤيدين ذات صبغة مذهبية واحدة من أجل التخفيف من وقع عملية التغيير السياسي المتوقعة”.
بينما يعتقد الباحث السياسي السوري غسان المفلح أن النظام أصبح منغمسا في عملية التهجير بمستوى إيران وربما أكثر، وقال المفلح لـ”العرب” “في الواقع التركيز على الدور الإيراني في التغيير الديموغرافي فقط يجعل البعض ينسى دور النظام”.
وداخل العاصمة في دمشق القديمة، تعمل على شراء عقارات من الدمشقيين في منطقة الأموي وباب توما والسيدة زينب، لكن العملية تتم بتباطؤ مع رفض الكثير من الدمشقيين بيع عقاراتهم رغم المبالغ المغرية التي تُدفع لهم، وتسعى إيران لاستثمار منطقة بساتين الرازي في المزة بعد إخلائها من قبل النظام، وكذلك منطقة بابا عمرو في حمص.
وترى المعارضة السورية مرح البقاعي أن برنامج إيران في التغيير الديموغرافي يعود لعقود وأبعد من مجرد حصره بالتطورات الأخيرة. وتقول لـ”العرب” “لقد كانت البداية من خلال زيارة المقامات وتطور الأمر إلى إقامة وشراء بيوت ومساكن ويمتد إلى المصاهرة والزواج بإغراء مالي”. وتضيف “لكن اليوم تحول إلى تغيير بقوة السلاح”.
ويبقى مخطط إيران الأكبر السيطرة على مدينة حمص كلّيا، فهي من سعى إلى اتفاق تهجير أهالي حمص القديمة في مايو 2014، وكانت ماضية في تهجير أهالي حي الوعر كليا، خاصة أنه الحي الغربي المتاخم للقرى الشيعية التي تحاصره، كالمزرعة والزرزورية.
لكن روسيا قطعت على إيران طريق الوعر، إذ أوقفت قصف النظام له، وسرّعت بالاتفاق النهائي، حيث خرجت حافلات محمّلة بالمقاتلين وعائلاتهم والراغبين بالخروج من المدنيين إلى جرابلس وإدلب، مع بقاء بقية الأهالي وعودة النازحين من أهالي الوعر إليه وبتواجد قوات روسية فيه.
ويرى المحلل غنام أن إيران تستخدم التغيير الديموغرافي أيضا لضبط التوازنات مع روسيا في سوريا، ويقول “من أجل إحداث التوازن المطلوب في ظل التفوق الجوي والعسكري لروسيا والذي انعكس قوة سياسية، يحاول بوتين الاستفادة منها وفرض رؤيته للحل السياسي، متجاوزا المصلحة الإيرانية والتي باتت تستشعر الخوف من تبدلات في الموقف الروسي نتيجة الضغوط المتزايدة من الإدارة الأميركية”.
ويضيف غنام أنه رغم ذلك، فإن القدرة الروسية تبقى محدودة التأثير في القضايا الاجتماعية ومفرزات الدولة السورية العميقة، حيث الكلمة الأولى لإيران ورجالاتها في تلك المراكز، مما يجعل الدور الإيراني على المستوى الداخلي أشد فاعلية وتأثيرا. وهذا الأمر ينعكس على شكل الصراع الروسي الإيراني.
ومن الواضح أن روسيا تريد السيطرة على كامل سوريا، لكنها تحتاج إلى ميليشيات إيران؛ لذا سياستها تتأرجح بين التنسيق معها والحذر من مخططاتها. ويتوافق هذا الطرح مع تقديرات العميد الركن المجاز زاهر الساكت الذي يرى أن حدود التنافس مضبوطة بتنسيق عال بينهما، ويقول لـ”العرب” “إيران وروسيا مضطرتان للتعاون لأنهما تكملان بعضهما ومن الاستحالة في الوقت الحالي أن نجدهما في حالة خلاف جوهري”.
ولا ترغب أميركا بسيطرة إيرانية في سوريا. وبالتالي ليست لإيران مكاسب واسعة في سوريا، وربما حصتها في النفوذ ستقتصر على المناطق الحدودية المتاخمة لحزب الله، ومن غير المتوقع السماح لها بتكرار تجربة المبادلة الطائفية لسكان سنة بآخرين شيعة على نطاق أوسع.
ويؤكد هذا التوجه العميد الركن مصطفى أحمد الشيخ، مشيرا في تصريحات لـ”العرب” إلى أن إيران تهدف من التغيير الديموغرافي إلى الحصول على أكبر منطقة خالية من أي مقاومة لتثبيت أقدامها وخاصة في المناطق المتاخمة للبنان.
ورغم حصول انزياحات كبيرة في التوزع السكاني في السنوات الست الأخيرة نتيجة الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية، تقول بيانات إحصائية في 2015 إن لا تغيرات كبيرة في نسب المكونات الدينية والقومية في سوريا، وبالتالي لا يمكن القول إن تغييرا ديموغرافيا واسعا قد حصل في سوريا.
رانيا مصطفى
صحيفة العرب اللندنية