منذ الحرب العالمية الثانية، خسرت أميركا كل حرب بدأتها من دون قضية عادلة. وتشكل كل من فيتنام وحرب العراق الثانية أدلة مأسوية على هذا الاستنتاج. لكن أميركا فشلت أيضاً عندما تدخلت بالقوة العسكرية لأسباب معيبة بالمقدار نفسه. والأسباب واضحة. أولاً، فشلت أميركا في ممارسة تفكير وحكم استراتيجي سليم. ثانياً، افتقرت أميركا إلى المعرفة والفهم الكافيين للظروف التي استخدمت فيها القوة.
بعبارات أخرى، لم تجب البيوت البيضاء أبداً عن السؤال القاتل: “ماذا يأتي تالياً؟” ولم يطالب الكونغرس أبداً بالإجابات. وكان الجمهور في كثير من الأحيان غير مشارك ولا مهتم بحيث يطالب بالمحاسبة.
يمكن تتبع ضربة صواريخ الكروز توماهوك التي وجهتها الولايات المتحدة مؤخراً ضد القاعدة الجوية السورية التي انطلق منها هجوم غاز السارين هذا النمط من الفشل في طرح السؤال عما سيأتي تالياً. وعلى أسس قانونية وأخلاقية، من المعروف أن استخدام الأسلحة الكيميائية محظور بموجب معاهدة دولية. لكن سورية انتهكت القانون الدولي. ومن الواضح بموجب قانون صلاحيات الحرب والمادة الثانية من الدستور أن الرؤساء الأميركيين مخولين بالرد من خلال استخدام القوة. ومع ذلك، وكما حدث في حالة (الجزء الثاني) من هجوم التوربيدو الأول -غير الموجود حقاً- في خليج تونكين في آب (أغسطس) 1964 الذي منح ليندون جونسون المبرر للتدخل في فيتنام، وأسلحة الدمار الشامل غير الموجودة لاتي منحت جورج دبليو بوش الذريعة لغزو العراق في العام 2003 ووضع المنطقة على النار، سوف تحسن إدارة ترامب التصرف إذا أجابت عن سؤال ما الذي سيأتي تالياً الآن -حتى ولو أن ذلك قد يكون متأخراً نوعاً ما.
هل يجب استبدال بشار الأسد ونظامه القاسي الذي لا يرحم بنظام يسعى إلى إحلال العدالة وحكم القانون؟ طبعاً! ولكن، بغية إنجاز هذه المهمة، من هي الدول المستعدة لحشد جيش بري قوامه نصف مليون جندي على الأقل واحتلال سورية للفترة اللازمة لتهدئة وتوحيد البلد الذي قسمته ودمرته ست سنوات من الحرب الأهلية؟ الجواب المأساوي والعملي هو: ولا دولة.
والأهم، هل تؤدي ضربات الصواريخ إلى تقوية أم إضعاف موقف الولايات المتحدة في التعامل مع سورية وحلفائها الروس والإيرانيين؟ حقيقة أن نفس القاعدة الجوية التي استهدفتها الضربة الأميركية شهدت في اليوم التالي للضربة الصاروخية انطلاق طائرات منها في مهمات قصف، هي إشارة واضحة إلى أن دمشق لم تتأثر بالهجمات الصاروخية الأميركية. وسواء كانت سورية تقتل مواطنيها بقنابل البراميل والقذائف شديدة الانفجار، أو تسممهم بالأسلحة الكيميائية بصراحة، فتلك فروقات من دون تمايز، حتى بالرغم من احتمال ردع استخدام غاز السارين بضربات التوماهوك هذه.
وفي الأثناء، لم تتمخض زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى موسكو عن الكثير من الأثر الإيجابي. وفي الحقيقة، اتفق كل من الرئيس دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على أن العلاقات الأميركية الروسية هي في الحضيض. ومع ذلك، تحتفظ موسكو بالمزية. فقد أرسلت سفينتين حربيتين صغيرتين وقوة دعم لوجستي إلى البحر الأبيض المتوسط لتعقب أثر المدمرة الأميركية “ايجيس” التي أطلقت صواريخ توماهوك، كنوع من الرد الدعائي. وما لم تشرع الولايات المتحدة في تنفيذ خطة إعلامية استراتيجية فعالة لتقديم دليل لا يقبل الدحض على وجود عناصر غاز السارين من أجل نزع شرعية ادعاءات روسيا بالعكس، فإن موسكو تستطيع دائماً نفي هذه الاتهامات. والأكثر من ذلك أن بوتين كان دائماً أذكى من الولايات المتحدة في لعبة العلاقات العامة. كما أن أن اجتماع روسيا وإيران وسورية متحدين على نسج قصة بديلة سوف يجعل الإعلام يلتقط، لسوء الحظ، رواية آلة دعاية موسكو المؤثرة والجبارة.
ماذا يجب على أميركا أن تفعل، وما هو الشيء المرجح أن تفعله؟ السبب في أن الإدارة الأميركية لم تطلق هجوماً إعلامياً مقنعاً يتضمن نشر دليل لا يقبل الدحض على استخدام سورية لغاز السارين وغيره من الكيميائيات هو أمر غير طبيعي. إن مجرد الادعاء بأن مجموعة الاستخبارات تنطوي على “ثقة عالية” في هذا التقييم سوف يقارَن بالتأكيد بزعم أن صدام حسين كان يتوافر على أسلحة دمار شامل في العام 2003. وحتى مع أن هذه المقارنة تظل زائفة، فإن الفشل الأميركي في ذلك الوقت سوف يعتبر دليلاً ومبرراً لأن يكون المرء متشككاً، أو حتى ساخراً من جدية هذا التقييم لاستخدام الأسلحة الكيميائية السورية.
بالإضافة إلى ذلك، وكما بعث الرئيس (الراحل) جون كنيدي برسول شخصي إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول خلال أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962، وحمله دليلاً من الصور التي لا تقبل الدحض على نشر صواريخ سوفياتية في كوبا، فإنه يجب على الرئيس ترامب فعل الشيء نفسه مع بوتين. وقبل خمسة وخمسين عاماً، كان بوسع ديغول أن يقول إنه ليس في حاجة إلى دليل، لأن كلمة الرئيس الأميركي يمكن أن تكون موضع ثقة. لكن ذلك الظرف لم يعد قائماً.
إذن، بدلاً من تهديد روسيا أو اتهامها بأنها غير كفؤة من حيث عدم المعرفة عن وجود السارين في قاعدة تتواجد فيها وحدات روسية، أو أنها متواطئة وداعمة لانتهاك سورية للقانون الدولي، فإن الحاجة تمس إلى طرح أذكى. وببساطة، يشار إلى أن روسيا عضو في معاهدة الأسلحة الكيميائية التي تحظر هذه العناصر. وكانت روسيا مسؤولة أيضاً عن نقل هذه الأسلحة من سورية والشهادة على السلامة في وضع التقرير عن كل هذه المخزونات. فهل تقف روسيا إلى جانب القانون الدولي؟ أم أنها ستدعم بتصميم دولة تصرفت في انتهاك لهذه الأعراف؟
رد الفعل الأول سيكون أن سورية وروسيا لم تستخدما، بل ولا تعتقدان بأن أياً من هذه ظل في سورية. وهو ما يفسر الحاجة الماسة إلى تقديم دليل غير قابل للنقض. وقد لا تقبل روسيا هذا الدليل. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، سوف يصدق معظم المجتمع الدولي هذا الطرح. ويصبح الاحتفاظ بالأرض الأخلاقية العالية شأناً ضرورياً.
حول سورية، لا يوجد أي حل يمكن أن يكون مفيداً من دون التعاون الروسي. وفي الحقيقة، من الممكن القول إن سورية سوف ترفع الرهان الآن، وتحاول خلق المزيد من اللاجئين الذين يهربون من البلد، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على الدول المجاورة وعلى أوروبا. ولأنها لا توجد أي دولة مستعدة للتطوع لوضع قوات كبيرة على الأرض، فإن هناك حاجة إلى خطة بديلة. يجب أن تحشد الولايات المتحدة الدول العربية السنية للالتزام بتشكيل قوة للاستيلاء على الرقة واستعادتها من “داعش”.
عندئذ، مع وجود مثل هذا الالتزام، قد تتكون وسيلة ضغط قوية لإقناع موسكو بأن الخطوة التالية يمكن أن تتضمن إقامة مناطق حظر طيران ومناطق آمنة في سورية. ومن هذه الخيارات، مَن يعرف ما هو البعد الذي سيذهب إليه الائتلاف المعادي لـ”داعش”؟ وسوف يدرك بوتين عندئذٍ بأن التفاوض هو أفضل بكثير من المراهنة عن طريق نشر المزيد من القوات الروسية. ومن الواضح أنها ليست هناك خطة مثالية، وأن هذه الخطة ربما تثمر. لكنها الطريقة الأكثر منطقية للمضي قدماً.
لسوء الطالع، ونظراً لأن الإدارات الجمهورية الثلاث السابقة فشلت في التعامل مع روسيا وسورية، فإن السؤال يدور حول ما ما كان فريق ترامب الحالي يستطيع -أو يريد- ذلك. وعلى إجابة هذا السؤال يتعلق مستقبل الكثير جداً من الناس -ليس في المنطقة وحدها فقط، وإنما في العالم كله أيضاً.
هارلان أولمان
صحيفة الغد