مع كل عملية إرهابية يشنها «داعش» يندلع النقاش ذاته حول إدانة «الأزهر» هذه العمليات، وكأنّ تلك الإدانة ستوقف برنامج القتل الممنهج الذي ينفذه هذا التنظيم الإرهابي الذي احترف التوحش والهمجية.
ربما تكون الإدانة أمراً رمزياً لرفع الغطاء الشرعي عن «داعش»، لكنّ ممانعة الأزهر حيناً ومرواغته أحياناً أخرى تثير الحفيظة، لا سيما أن بعض مشايخ هذه المؤسسة الدينية العريقة يلجأون بشكل حرفي غريب إلى النصوص العتيقة التي تُغفل السياق، فترى بعض هؤلاء يقول «لا تكفير لمؤمن مهما بلغت ذنوبه»، في حين يذهب آخرون إلى نعت «داعش» بـ «المبتدعة الجدد»، ويقتصر على وصف أفعالهم بأنها لا تتناسب مع أهل الإسلام. وثمة تصريح منسوب للعالم الأزهري ووكيل وزارة الأوقاف الأسبق الدكتور سالم عبدالجليل يؤكد فيه أنّ «الكفر حكم شرعي لا يتم إطلاقه سوى على شخص أنكر ركناً من أركان الدين، وهي 11 ركناً للإيمان والإسلام ومن يجاهر بإنكارها صراحة، تحق عليه لفظة (الكفر) شرعاً». وما دام الداعشيون لا ينكرون هذه الأركان الأحد عشر، فإنهم ما يزالون في حظيرة الإسلام، فالمقرر في أصول العقيدة الإسلامية، كما يقول بيان للأزهر «أنه لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه، وهو الشهادة بالوحدانية ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّ الذنوب مهما بلغت لا يخرج ارتكابها العبد من الإسلام».
ولعل مأزق التفسير الذي يحتمي به الأزهر ومشايخه يعكس أزمة التأويل الكبرى التي جعلت النص الديني قماشة لا حدود لها يفصّل منها من يشاء ما يشاء على مقاسه، ووفق مصالحه، وميوله، واتجاهاته. ولعل ذلك ما يتستر وراءه الأزهر الذي لا يودّ إطلاق أحكام التكفير على عواهنها كيلا ترتطم بالسقوف التي من غير المسموح لهذه المؤسسة الدينية أن تلامسها.
وتتجاهل غالبية السجالات المتصلة بتكفير «داعش» أو أسلمته المقاصد الكبرى للشريعة، أو ما عُرف بالكليات الخمس التي يسعى الشرع إلى الحفاظ عليها، وهي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. فكم من النفوس أهدر هذا التنظيم الإرهابي، وكم أساء لدين الإسلام وشوّهه في العالمين. وكم أضرم العقولَ بنيران الكراهية والتوحش والثأر، فدمّر النسل، وبدّد المال. أفليس هذا مبرراً كافياً لإخراج هذا التنظيم من الملة، وطي صفحة السجال في شأنه من دون الحاجة إلى التفتيش في قلوب أفراده، والتيقّن من أنهم شهدوا بوحدانية الله ونبوة رسوله. فما نفع هذه الشهادة ما دامت أفعال التنظيم تشهد بالفظاعات والمآسي التي لا يمكن لدين أو رسالة أن يحتمل دمويتها وتوحشها؟
هتف شاعر غاضب، ذات زمان ثوري منصرم: «وهل يحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي لكي يفهمه؟». وبالتالي فإنّ جرائم «داعش» لا تحتاج إلى دائرة إفتاء، ولا إلى العودة لكتب الفقه، ولا إلى إعمال القياس والنظر العقلي الطويل. وما استغراق دوائر الفقه في هذه السلسلة الطويلة من الإجراءات كلما قام «داعش» بعمل متوحش إلا دليل على عدم تيقن أولي الأمر من مشايخ الفقه من أنّ تفجير كنيستين فوق رؤوس المصلين أمر يستوجب، في الحال، الإقرار بأن مرتكب هذه الجريمة خارج من الملة وكافر كفراً بواحاً لا مراء فيه.
لو يعلم أولئك الفقهاء كم تكلّف هذه الإغماضة عن النطق الصريح بتكفير «داعش»، وكم تسبغ الشرعية والمقبولية على التوحش، وكم تبارك أولئك الخارجين من الكهوف وتحدب عليهم. إنها الإغماضة القاتلة، والعمى الذي لا يبصر لون الدم المدجّج بالاستغاثات المخنوقة في مختبر الفقه!