تعيد التصريحات الصادرة أخيراً عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تنشيط ذاكرة المجتمع الدولي حول من يرسم السياسات الدولية، من الناحية الفعلية، وخاصة في الشرق الأوسط، وفي المجال الإقليمي المطلوب لحماية أمن إسرائيل، وهو الأمر الذي تجسّد عملياً في القصف الأميركي الصاروخي على مطار الشعيرات السوري، أوائل الشهر الجاري من جهة، والتصريحات الحاسمة لوزير خارجية أميركا ووزير دفاعها، الذي كان أول زائر لإسرائيل من مسؤولي الإدارة الأميركية الجديدة، من الجهة الأخرى.
فقد كشفت هذه التصريحات، مضافة إليها التصريحات القوية واللافتة لنيكي هالي السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، أولويات إدارة ترامب الحالية، وهي مكافحة الإرهاب، وتحجيم نفوذ إيران، ووقف إطلاق النار في سورية، تمهيداً لإحداث التغيير السياسي.
اللافت في تلك التصريحات أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع إيران باعتبارها خطراً يهدّد مصالحها ووجودها في المنطقة، الأمر الذي يتطلب منعها من الوصول إلى القدرة على انتاج سلاح نووي، وتحجيم نفوذها خارج حدودها، أي في العراق وسورية ولبنان واليمن، بما في ذلك ميليشياتها، والنظر إليها باعتبارها أحد مصادر نشوء الجماعات الإرهابية في المنطقة. بل إن هذه إدارة ترامب تتصرف بناء على رؤية ترى أن معالجة مشاكل المنطقة، أي فرض الاستقرار في سورية والعراق ولبنان، ومكافحة الإرهاب، لابد أن يمر من باب تقليم أظافر إيران، وإجبارها على الانكفاء.
إذاً التحجيم سيبدأ من إنهاء دور إيران في الملف السوري مروراً بقصقصة أجنحتها في العراق وصولاً إلى تقويض فاعليتها في الحرب اليمنية، وانتهاء بتدجين ميليشياتها في لبنان، بما يؤدي إلى إعادة توزيع جديد للأدوار في المنطقة. لكن ذلك لا ينسينا أن إيران أدّت مهمّتها على أتمّ وجه في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، من وجهة النظر الأميركية، إذ غيّرت فعلياً أولويات المنطقة، التي كانت تعودت عليها خلال عقود عديدة، وأعادت تصنيف قضاياها وأنعشت تقسيماتها الدينية.
لقد أصبحت مواجهة تنامي الخطر الإيراني أولوية لدى الدول العربية، كما صادرت إيران القضية الفلسطينية ووظفتها لمصلحتها، باحتلالها ما يسمى «محور المقاومة والممانعة»، وصعود أداتها اللبنانية، أي ميليشيا «حزب الله»، في لبنان وسورية.
لقد ظهرت إيران باعتبارها خطراً فعلياً في المشرق والخليج العربيين لأنها أمعنت في العبث بمكونات النسيج الاجتماعي في البلدان العربية، في أكثر من مكان، وبإثارتها الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة، مع فارق أن السنّة لم يتحزبوا معاً كطائفة، ولم يشكّلوا دولتهم الدينية، ومرجعياتهم التراتبية، على غرار ما حصل مع الإسلام السياسي الشيعي برعاية ودعم من إيران.
فقد بنت إيران شبكات خدمية وميليشيات مسلحة في العراق ولبنان وسورية على حامل طائفي مذهبي، وتمددت لتهدد دول الخليج من خلال محاولاتها اللعب على وجود الشيعة كطائفة في مجتمعات هذه الدول، واعتمدت في كل ذلك على التسهيل أو على الصمت الأميركي، حيث كانت مصلحة الولايات المتحدة لا تتعارض مع تمدد المشروع الإيراني، الذي يفضي إلى تقويض البنى المجتمعية في تلك الدول، وصولاً إلى الدول التي لم تكن الولايات المتحدة معنيّة باستقرارها وازدهارها، وهو بالطبع ما كان يخدم إسرائيل، أو يصبّ في مصلحتها، على رغم حالة العداء بين الجانبين.
وما الإعلان عن سياسات أميركية جديدة في المنطقة حالياً إلا بمثابة اعتراف أميركي بانتهاء الدور الموكل لإيران، من دون أن يعني ذلك إزاحتها من المشهد نهائياً، حيث المطلوب فقط تحجيم دورها وتحديد مساحة حركتها إلى حدودها، الأمر الذي يشكل مصلحة للولايات المتحدة (ولإسرائيل). فالولايات المتحدة لا تريد إيران ذات قدرات نووية، ولا إيران التي تستطيع تهديد منابع النفط أو تقويض استقرار دول الخليج العربي، ولا إيران التي تدعم الإرهاب والميليشيات المسلحة، ولا إيران التي يمتد نفوذها من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ولا إيران التي يمكن أن تنافس المكانة الإقليمية لإسرائيل.
ناحية أخرى يجب فهمها، وهي أن الولايات المتحدة اختارت اللحظة المناسبة لتحجيم نفوذ إيران، أي في الوقت الذي غرقت، أو أنهكت في معمعة الصراعات الجارية في العراق وسورية، وفي الوقت الذي ظهر الخلاف أو الافتراق بين إيران وروسيا، بخصوص التنازع على من يملك مفاتيح الوضع السوري، ومن الذي يملك الورقة السورية.
المسألة الآن تتعلق بمعرفة كيفية تعامل إيران مع هذه التطورات الجديدة؟ وهل ستقاومها؟ وإلى أي درجة؟ لأنه بناء على ذلك تمكننا معرفة مدى وطريقة التعامل الدولي مع إيران لوضعها عند حدها. فمن المعروف أن إيران تملك قوة عسكرية لا بأس بها، لكن هذه القوة يمكن أن تؤثر على دول صغيرة أو ضعيفة، ولكن لا قِبَلَ لها بمواجهة مع الولايات المتحدة.
لكن بإمكان إيران أن تعيق أو أن تشاغب على الترتيبات الأميركية في سورية أو العراق أو لبنان، بحكم وجود ميليشيات مسلحة تأتمر بأمرها في البلدان المذكورة، كما لديها قدرة على تحريك الصراعات الطائفية، بحكم التبعية التي ربطت جماعات من الشيعة في بعض البلدان بجمهورية «الولي الفقيه»، من الناحيتين العقائدية والمصلحية، ويمكن ايران أن تعرقل أي محاولة لفرض الاستقرار في سورية. هذا إضافة إلى احتمال ارتكاب قادة إيران حماقات غير محسوبة باستهداف بعض دول الخليج مثلاً، أو بفتح معركة مع إسرائيل من جنوب لبنان.
وعلى العموم، فإن كل واحدة من ردّات الفعل الإيرانية هذه ستلقى الرد المناسب عليها من الأطراف الدوليين والإقليميين، ولا بد أن ردات فعل إيران والرد عليها هي في مركز اهتمامات القوى المعنية. المهم أن كل المؤشرات ترجّح أن العد العكسي لتحجيم إيران ونزع مخالبها قد بدأ. وعندما تتحرك الولايات المتحدة، أو تقرر، فإن روسيا لن تفيد إيران، هذا إن لم تكن عقدت صفقة مع الولايات المتحدة لتوكيلها، أو لإعطائها حصة أكبر من النفوذ في سورية.
سميرة مسالمة
صحيفة الحياة اللندنية