مساء يوم الأحد، السادس عشر من هذا الشهر، وقف رئيس الوزراء التركي بينالي يلدريم على شرفة مقر حزب العدالة والتنمية وأطرى على نصر انتخابي سيبعده عن منصبه. وفي الأثناء، بدا أن معسكر “نعم” في استفتاء تركيا بقيادة رئيس يلدريم، الرئيس رجب طيب أردوغان، كسب نصراً ضئيلاً على تصويت “لا” بإحرازه نسبة 51 في المائة من الصوت الانتخابي. وبذلك أقر الأتراك تعديلات دستورية من شأنها إلغاء النظام البرلماني في البلد، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء، لصالح رئاسة تتمتع بصلاحيات موسعة.
وقال يلدريم: “لا يوجد خاسر في هذا الاستفتاء، لكن ثمة كاسب واحد: تركيا وشعبها النبيل”. غير أن الهامش الضئيل من الانتصار وأصوات الاحتجاجات المرعدة الصادرة عن المعارضة تقول قصة مختلفة. فقد رفض حزبان رئيسيان في المعارضة الاعتراف بالهزيمة، وطالبا بإعادة احتساب الأصوات بعد ظهور تقارير جادة وخطيرة عن تلاعب في التصويت. وعلى الرغم من العديد من العثرات في الديمقراطية التركية، فإن انتخاباتها الحديثة أثبتت أنها نزيهة على الأغلب. لكن ذلك لم يكن نفس الانطباع ليلة الأحد، حيث أشارت المعارضة إلى تقارير عن حالات اقتراع مزورة، وإلى السلوك المحموم لمفوضية الانتخابات في البلد. ويوم الاثنين، بعد الاستفتاء، قال المراقبون الأوروبيون إن الاستفتاء “لم ينجح” في الالتزام بمعايير الانتخابات الدولية في تقرير مميت. وقال سليم سازاك، الزميل في معهد ضلما: “حتى اليوم، كانت المعارضة التركية تظن أنها تخسر بنزاهة وشرف. ومع ذلك، فهذا مغير للعبة”.
يقول منتقدو أردوغان إن التعديلات سوف تكرس حكم الرجل الواحد، وتؤسس لدكتاتورية الأمر الواقع. أما مؤيدوه فيحاججون بأنه في ضوء تاريخ تركيا في الانقلابات -بما في ذلك المحاولة الانقلابية الفاشلة في شهر تموز (يوليو) الماضي- فإن الحاجة تمس إلى مجلس تنفيذي أقوى بسبب العصيان المدني وسياسة الائتلاف الفاشلة. وعندما يدخل النظام الجديد حيز التنفيذ في الانتخابات التالية المتوقع أن تجري في العام 2019، فإنه سيؤشر على أكبر تغيير في السياسة التركية منذ ظهور الجمهورية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى.
وإذن، ما الذي سيجري الآن؟ سوف نعرض فيما يلي مسحاً لردود فعل محللين متمركزين في تركيا. ومن الممكن تفسير فوز أردوغان بهامش ضيق على أنه نوع من الصفعة التي وجهت للرئيس التركي، حيث هناك معارضة كانت متشظية في السابق، والتي تتحد الآن في مواجهته. وليلة الأحد في الضواحي في كل إسطنبول، قرع المحتجون الأوعية والأواني تعبيراً عن اشمئزازهم من التصويت. وقد يكون أردوغان قد ادعى الفوز، لكنه لا يستطيع الادعاء بأنه أحرز الانتصار المؤزر الذي كان يتطلع إلى تحقيقه.
زيا ميرال، الزميل المقيم في مركز تحليل وأبحاث النزاعات في بريطانيا، حذر من حالة عدم اليقين التي سوف تأتي. وقال:
“سوف تفسد الهوامش المتقاربة والأصوات المتنازع عليها شعور أردوغان بالانتصار والراحة بشأن التعامل مع العملية التي سوف تأتي تالياً. ومن شأن هذا الوضع أن يقوي المعارضة التركية، لكنه يعني أيضاً أن اللاعبين الدوليين سيكونون أكثر قوة في طلب عدم تنفيذ بعض التغييرات المقترحة. ومن الممكن رؤية ذلك في بيان المجلس الأوروبي الذي طالب أصلاً باحترام وتقدير النظام القضائي. وسوف تكون المرحلة التالية متوترة الناحيتين المجتمعية والسياسية على حد سواء، مع احتجاجات ونقاشات سياسية حادة”.
راغب سويلو، مراسل صحيفة الصباح التركية في واشنطن -التي توالي أردوغان بقوة- إن التصويت بـ”نعم” كان رد فعل على سنوات من الفوضى والاضطراب، والتي تضمنت استئناف التمرد الكردي العنيف، وحدوث موجة من من الهجمات الإرهابية التي نفذها “داعش”، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في العام الماضي.
وأضاف: “أعتقد أن الإعلام الدولي ركز أكثر على شخصية أردوغان بينما ركز أقل على الاستقطاب المجتمعي وعلى ما اختبره الشعب التركي على مدار السنوات الأربع الماضية. وبأخذ كل هذه المشاكل والأزمات والصعوبات بعين الاعتبار، مالت أغلبية المقترعين نحو اختيار الاستقرار ووجود نظام يوفر المزيد من السيطرة والصلاحيات للحكومة التركية التي تتمتع بالنفوذ لمنع حدوث المزيد من التراجعات. كما أن النظام الجديد يستطيع أيضاً خلق رئاسة أقوى تستطيع التصرف بسرعة ضد الأزمات”.
هوارد إيسينتات، الأستاذ المشارك في جامعة سانت لورنس والزميل في مشروع ديمقراطية الشرق الأوسط، قال إن الصلاحيات التي ستتمتع بها أنقرة يجب أن تضبطها قدرة معسكر “لا” على فرض نتيجة متقاربة بشكل مدعم في نتائج الاستفتاء، على الرغم من عمل كامل ثقل الدولة. لكن أردوغان قد لا يسمع التحذير. وأضاف: “على ضوء قمع حملة “لا”، وحقيقة أن الكثيرين من قيادات حزب الشعب الديمقراطي (الكردي) يقبعون في السجن، وأن السيطرة الفعالة للحكومة على الإعلام قد خلفت إخلالاً في التوازن في تغطية الحملة، فإن أداء حملة “لا” كان جيداً جداً. وبالنسبة لأردوغان، يعتبر الانتصار الضئيل انتصاراً. ومن غير المرجح أن يقدم على تبطيء تعزيزه للسلطة أو الوصول إلى المعارضة بطرق ذات مغزى. وقد تعهد بأن يجلب التصويت بنعم مزيداً من الاستقرار ويؤذي بعودة النمو الاقتصادي. وأشك في أن يكون أي من هذا صحيحاً”.
عمر تاسبينار، الزميل الرفيع في معهد بروكينغز، أشار إلى مغزى هزيمة معسكر “نعم” في المدن التركية الأكبر، بما فيها اسطنبول التي كان أردوغان عمدة لها ذات مرة. وقال: “تشكل حقيقة فشل أردوغان في كسب اسطنبول لصالحه لأول مرة منذ العام 1994 إشارة مهمة بشكل خاص، حتى أن بعض أنصار حزب العدالة والتنمية في الحواضر قد تخلوا عنه. وتظهر النتيجة أيضاً أن جبهة موحدة ضد أردوغان تتمتع بفرصة لتوفير بديل. ويشكل انقسام أحزاب المعارضة عقبة رئيسية أمام الديمقراطية التركية. ويجب على المعارضة النشطة البدء بالسعي إلى الوحدة”.
أيكان إرديمير، الزميل الرفيع في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، يرى أملاً في تكون معارضة تعددية جديدة ضد أردوغان. وقال: “هذا استفتاء كان لدينا فيه مقترعون أكراد في الشرق يصوتون مع الأتراك العلمانيين في الغرب. وقد تكون هذه بداية حقبة جديدة. هناك احتمال لظهور شيء أكثر من تحالف تكتيكي، لكنه يتطلب قيادة تتمتع بالبصيرة. الأعداد موجودة والطاقة موجودة. أما إذا كان هناك أحد ما يستطيع أن يفتح الصنبور، فهذا هو سؤال المليون”.
غونول تول، مدير مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط، يعتقد أن أردوغان قد يتبنى موقفاً أكثر اعتدالاً -وربما سيستأنف عملية السلام مع الانفصاليين الأكراد، ويقول: “تعني نتيجة الاستفتاء أنه خسر الأرضية في دائرته الانتخابية الخاصة، وأنه لم يستطع تجنيد القوميين كما أراد. ويتطلب كل هذا لهجة مختلفة في الانتخابات الرئاسية القادمة في العام 2019. يجب عليه كسب قبول الوسط واتخاذ خطوات رئيسية لمعالجة الاتجاه الانحداري للاقتصاد التركي. وفي هذا السياق، تكون هناك فرصة أفضل للعودة إلى المفاوضات مع الأكراد مقارنة بما لو أنه حقق فوزاً ساحقاً، خاصة في ضوء أن أداءه كان أفضل من المتوقع بين صفوف الناخبين الأكراد”.
سونر كاغابتاي، الخبير في الشأن التركي لدى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومؤلف كتاب جديد عن أردوغان، يشير إلى أن انتصار أردوغان الضئيل هو شيء جيد وأفضل من وصفة لحدوث فوضى سياسية مطولة، ويقول: “أعتقد حقيقة أنها أفضل محصلة. لو خسر أردوغان، لجلب ذلك فترة من زعزعة الاستقرار، لأنه كان سيذهب إلى إعادة التصويت، كما توقع العديد من المحللين. ولو أنه فاز بهامش عريض، فإنه كان سيخرج على كل الأعراف ويصبح مستبداً تماماً. الآن انكسر جناحاه وأصبح متواضعاً. هذه هي أزمة تركيا الآن: لقد أصبح أردوغان أقوى تركي على الإطلاق. ولكن، في حين يقدره نصف البلد، فإن النصف الآخر يكرهه”.
إيشان ثارور
صحيفة الغد