عانى ترامب في البداية، وتأخر في تشكيل فريقه السياسي، وتعرّض في الأسابيع الأولى لفضائح، كاستقالة مستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، وفتح تحقيقات رسمية في علاقة حملته الرئاسية بروسيا، كما تراجعت شعبيته في أوساط الشعب الأميركي، وواجه غضباً شعبياً واسعاً على بعض سياسته، كحظره سفر أبناء بعض الدول المسلمة.
أضف إلى ذلك تناقض أفعال ترامب ذاته وغموضها، كما حدث في استقباله الحافل الرئيس الصيني، على الرغم من هجومه الحاد على الصين في أثناء حملته الرئاسية، بسبب العلاقات التجارية بين البلدين، وكما حدث أيضا في قصفه قاعدة الشعيرات السورية بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون، حيث لم يرتبط الهجوم الصاروخي بأي تفاصيل سياسية أوسع، تخرجه من ساحة رد الفعل إلى نطاق الاستراتيجية الجديدة.
لذا، اشتكى متابعون أميركيون من أن الهجمة الصاروخية قد تؤدي إلى نتائج عكسية على المدى البعيد، لأنها محدودة الأثر ومنخفضة التكاليف، وقد تعبر عن إدارةٍ ليس لديها خيارات سياسية كثيرة في ظل افتقارها إلى استراتيجية أكبر تتضمن العمل مع الحلفاء لتطبيق تصور واضح على نطاق زمني طويل.
على الجانب الآخر، شهدت الشهور الثلاثة من حكم ترامب نشاطا دبلوماسيا واضحا، حيث
استقبل عددا كبيرا من زعماء العالم، بما في ذلك بعض زعماء المنطقة، كما أحاط نفسه بجنرالات من الجيش معروفين بالكفاءة، مثل وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ومستشاره الجديد للأمن القومي، وإتش أر مكماستر.
في ضوء ما سبق، مازالت سياسات ترامب التفصيلية تجاه أهم قضايا العالم العربي، بما في ذلك الحرب في سورية واليمن وليبيا، والموقف من إيران، ومن مفاوضات السلام، غير واضحة، ولكن الشهور الثلاثة الأولى من حكمه لم تخل من أحداث ومواقف، كشفت ملامح مهمة لتصوراته وسياساته تجاه المنطقة، في مقدمتها:
أولا: السعي إلى إعادة ترميم حلف الموالاة، أو أصدقاء أميركا في المنطقة، وفي مقدمتهم دول الخليج ومصر والأردن وإسرائيل، حيث يرى ترامب، والمحيطون به، أن سلفه باراك أوباما أخطأ في مواقفه الناقدة لإسرائيل، بسبب المفاوضات والاستيطان. وفي مواقفه من العرب، بسبب الديمقراطية والثورات، حيث مال أوباما إلى الانسحاب من المنطقة بشكل عام، مفضلا التركيز على تنويع مصادر الطاقة الأميركية، وعدم التوغل في مشكلات المنطقة.
أما ترامب فيرى أن على أميركا إعادة ترميم علاقاتها بالديكتاتوريات العربية، باعتبارها ركائز للاستقرار في المنطقة، وكذلك تقوية العلاقة بإسرائيل من خلال استعادة الدبلوماسية الدافئة، وتراجع النقد العلني لسياساتها بخصوص الاستيطان والمفاوضات. وهو يأمل، بشكلٍ لا يخلو من غرور ذاتي، في أن يتمكّن من بناء تحالف جديد في المنطقة يضم الدول العربية الموالية له مع إسرائيل، ويأمل كذلك في إحداث اختراق في المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولكنه يفتقر، حتى الآن، لسياسات مفصلة على الصعيدين السابقين.
ثانيا: ظهر توجه إدارة ترامب الصقوري تجاه إيران، وهو توجه يشاركه ترامب مع عدد كبير من مساعديه، وفي مقدمتهم وزير الدفاع ماتيس، المعروف بعدائه الشديد لإيران، حيث استخدم ترامب سلاح العقوبات تجاه شخصيات إيرانية أكثر من مرة، خلال الفترة القصيرة السابقة، وطلب إجراء مراجعة للاتفاق النووي مع إيران ومدى التزامها به، كما حرص على التقرّب الدبلوماسي من دول الخليج، في ظل هجوم خطابي واضح على إيران.
وتمتلئ وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الأميركية بتحذيراتٍ من صعوبة المواجهة مع إيران، في ظل الدعم الروسي لها، وتوسع نفوذها في المنطقة، وإعلان ترامب حرصه على عدم التوغل العسكري في الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية التي بناها الأوروبيون مع إيران، منذ رفع العقوبات. لذا تسود حالة من الترقب لما ينوي ترامب فعله تجاه إيران، والملفات المرتبطة بها، كالملفين السوري واليمني، والموقف من حزب الله.
ثالثا: بدا واضحا تركيز ترامب على هزيمة القاعدة و”داعش” في سورية والعراق، وكذلك في اليمن وأفغانستان، حيث كثفت الطائرات الأميركية غاراتها على أهداف في تلك الدول، خصوصا اليمن، الذي شهد نشاطا ملحوظا للطيران الأميركي وعمليات الإنزال الجوي. وكما ذكرنا من قبل، لا توفر تلك الأدوات العسكرية المحدودة بديلا عن استراتيجية أكبر لهزيمة الجماعات العنيفة، وهي استراتيجية تتطلب حلا للمشكلات الكبرى التي توفر بيئةً حاضنةً لتلك الجماعات.
رابعا: عادت الحميمية إلى العلاقات الأميركية الإسرائيلية، في ظل صقورية حكومتي البلدين،
حتى إن ترامب عين سفيرا معروفاً بدعمه المباشر الاستيطان. ولكن، ليس من الواضح حتى الآن كيف سينعكس ذلك التقارب على مفاوضات السلام، فحكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة هي أكبر عقبة تجاه أي تطور في تلك المفاوضات، وليس واضحاً ما إذا كان ترامب سيتمكّن من إقناع نتنياهو، ومن يحيط به من يمينيين متطرفين، بتغيير سياساتهم، أم أن ترامب سيرضخ في النهاية لنتنياهو والوضع القائم.
خامسا: لم يؤثر خطاب الإسلاموفوبيا الذي يتبناه ترامب، وكبار أعضاء إدارته، تجاه الإسلام والمسلمين على علاقاته بالدول العربية. على العكس، شهدت الشهور الأولى من حكمه تقاربا واضحا بين إدارته ودولٍ عربيةٍ كثيرة منضوية تحت ما يسمى بحلف الموالاة، أو حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة، فالواضح أن النظم العربية ركّزت، بالأساس، على مصالحها الاستراتيجية، وما تريده من حكومة ترامب، وربما رأت أن خطابه الموجه ضد المسلمين وضد الإسلام لا يعبر عن مصالح أساسية ينبغي الدفاع عنها، في وقتٍ شاركته بعض الأنظمة، كالنظام المصري، الخطاب نفسه تقريبا.
سادسا: لا يخفى على أحد مدى التراجع الذي أصاب قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان خلال الشهور الأخيرة، فلم تعد موجودة أصلا على الأجندة الأميركية، في ظل الهجوم العربي عليها وتغاضي ترامب عنها بشكل كلي، بل إن تحليلاتٍ أميركية تعتبر ولاية ترامب هجوماً على الديمقراطية الأميركية نفسها في ظل توجهاته الشعبوية، وهجومه المستمر على الإعلام والقضاء، وعلى ما يمكن تسميته النظام الليبرالي الدولي، والذي يتكون من المؤسسات الدولية ومجموعة المبادئ والقيم الدولية التي حرص الغرب على نشرها منذ الحرب العالمية الثانية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون المشترك واحترام المؤسسات الدولية.
في النهاية، مازال العالم ينتظر سياسات ترامب المفصلة تجاه المشكلات الدولية الرئيسة، بما فيها حروب الشرق الأوسط، في ظل خشيةٍ من أن يستمر ترامب في توجهه الراهن، والذي تطغى عليه الانتهازية واللحظية والشعبوية، وافتقار الاستراتيجية فتراتٍ أطول، بالإضافة إلى تقويض المؤسسات الدولية، ورغبة ترامب في العمل منفردا على الصعيد الدولي. أما عربيا فقد عادت المنطقة إلى أيام حلف الموالاة، والاعتماد على الديكتاتوريات وتراجع الديمقراطية في انتظار ما سيتمخض عنه الجبل تجاه إيران وسورية على وجه التحديد.