كان الاستفتاء الذي أجري في تركيا في وقت سابق من هذا الشهر يدور حول زيادة صلاحيات الرئيس. لكنه كان يتعلق على المستوى الأعمق بالعلاقة بين الشرائح الدينية والعلمانية في المجتمع التركي. فعندما أسس مصطفى كمال أتاتورك تركيا الحديثة، كان دليله المرشد هو الثقافة الأوروبية. وعنى ذلك أن تركيا في حاجة إلى اعتناق نظام سياسي علماني. ولم يكن تأسيس مثل هذا النظام في بلد مسلم في سواده الأعظم مسألة سهلة. لكن أتاتورك حل هذه المعضلة من خلال جعل الجيش الحارس الدستوري للدولة العلمانية والذي يحميها من سلطة الدين.
ولكن، بعد قرن تقريباً من تأسيس تركيا، أصبحت إدامة الصيغة الكمالية متعذرة. فقد أعاد المتدينون في العالم الإسلامي فرض تواجدهم في عدد من الشرائح المتنوعة. وعلى نحو حتمي، أمد هذا التطور الجماهير المسلمة في تركيا بالطاقة. وأصبحت الثقافة العلمانية الأوروبية التي سادت في البلد في مواجهة المطالبات المتصاعدة باطراد للمتدينين. ولعل السؤال الأساسي -على المستويين السياسي والاجتماعي على حد سواء- هو كيفية خلق نظام حكم واحد مبني حول ثقافتين متفارقتين، ولا يمكن استبعاد أي منهما. فتركيا بلد مسلم حدثته العلمانية. وإذا قمت بتدمير العلمانية فيها، فإنك تحطم الإنجازات التي حققتها تركيا حتى الآن. وإذا هاجمت المسلمين، فإنك تثير الغضب لدى أتباع الدين بطريقة يصعب احتواؤها. وقد أصبحت تركيا جمهورية للازدراء وعدم ثقة المتبادلين. وأياً يكن مَن يحكم تركيا، فإنه سيكون أشبه بشخص يمتطي نمراً. وإذا سقط عنه، فستمزق تركيا إرباً. أما إذا بقي على ظهره، فإن النمر -سواء بالنسبة للعلمانيين أو الإسلاميين- سيخاف من راكبه.
تكمن الطريقة العلمانية لاستيعاب الدين في إقامة تمييز جذري بين العام والخاص. فالدين جزء من الحياة الخاصة، بينما يجب أن يظل الفضاء العام محايداً في المسائل الدينية. وبعبارات أخرى، يجب أن تكون الحياة العامة علمانية؛ حيث يكون الناس أحراراً في اختيار الكيفية التي يريدون أن يعيشوا بها حيواتهم الخاصة. لكن المشكلة هي أن العلمانية ليست محايدة. فهي رؤية لعالم عادل. وهي مبنية على افتراض استثنائي بأن التمييز الجذري بين الحياة العامة والخاصة ممكن. فإذا كنت تعتقد بأن للكون غاية إلهية، وبأن حياتك جزء من ذلك الهدف، فكيف يمكنك قصر ذلك الاعتقاد على العالم الخفي للخاص؟ وكيف يمكن لثقافة ما أن تبعد معتقداتها القديمة من الحياة العامة، وتبقى مع ذلك موحدة؟
تشدد العلمانية على أنها محايدة، لأنها لا تنطوي على أي من الأديان التقليدية. لكن المشكلة تكمن في أن العلمانية، بينما لا تشكل ديناً تقليدياً، تطرح بدورها ادعاءات أخلاقية، ومعها اعتقاد بطبيعة الإنسانية وغايتها. وتفعل العلمانية ذلك عبر التشديد على مركزية الفرد وحقه في اتخاذ الخيارات. إننا لا نطور ولا نعيش حيواتنا كأفراد منفصلين عن التأثيرات المجتمعية. وتتخذ العلمانية منحى إيمانياً عندما تشدد على أنه يمكن بناء مجتمع حول الفرد -الذي يولد لعائلة في مكان له ماضٍ ولغة وثقافة، ومع ذلك يُتوقع منه أن يكون مستقلاً بذاته. بل إن فكرة الاستقلال الذاتي الإنساني نفسه هي أطروحة أخلاقية. وبكلمات أخرى، فإن العلمانية ليست محايدة، وإنما منافسة للأديان الأخرى، وليس فيها أي إله غير الفرد.
في البداية، يرى العلمانيون أن عودة ظهور ورع الثقة بالذات على أنه مجرد صعود للاتجاهات غير النقية. ثم يرون ذلك على أنه عدو للحرية. وبفشلهم في فهم أن الزعم العلماني بالتفوق الأخلاقي يحتاج إلى تبرير وأنه ليس داعماً لذاته بذاته، يجد العلمانيون أنفسهم في موقف الدفاع. وبافتراض أن خصخصة الدين هي في حد ذاتها حل مستقر، يقوض العلمانيون الأسس التي قامت عليها العلمانية. وعلى النقيض من ثوماس جيفرسون أو غوسيب غاريبالدي، فإن العلمانيين المعاصرين هم ساسة سيئون. إنهم لا يعرفون متى يكون عليهم عقد صفقة.
لكن العلمانية أنجزت أموراً استثنائية. إنها خادمة للعلم والعلم يرد الجميل. وقد ضاعفت متوسط العمر المتوقع في البلدان المتقدمة في غضون قرن؛ وجعلت من السفر بين قارتين ممكناً في مساء واحد، وخلقت أنماط حياة لم تكن مألوفة من قبل. ولم تستطع الأديان إنجاز هذه الأشياء لأنها لم تنظر إليها على أنها أساسية. ولم تبحث الأديان عن معنى العالم، لأنها تعتقد بأن ذلك قد تكشف مسبقاً.
ولكن، في المقابل، جلبت العلمانية أشياء مروعة. فقط سمحت بنشوء الأيديولوجيات- رؤى لما يجب أن تكون عليه الإنسانية. ولم يتم الإعراب عن هذه الرؤى كتابة فقط، بل ذهب الأمر إلى التعبير عنها في الممارسة. وكانت الفاشية والشيوعية والديمقراطية الليبرالية نتاجاً للعلمانية. ولدى النظر في الأنظمة التي ألهمت بعض هذه الأيديولوجيات قيامها في القرن العشرين، يتبين أن قدرات تنظيم القاعدة، ناهيك عن نواياه، سيبدو شاحباً بالمقارنة. وقد خلقت الرؤية العلمانية للإنسانية -سوية مع قوة التكنولوجيا التي أطلقتها النزعة العلمانية- موجة إرهاب عالمية. وقد هزمت الديمقراطية الليبرالية الأيديولوجيات الأخرى. وأعتقد أن الكسب كان أخلاقياً في أغلبه، لكنه هيأ المسرح لتحدٍ آخر. فما تزال مبادئ أديان آبائنا قائمة. وهي أشبه بالعلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام وبين الوثنية التي سحقتها هذه الأديان. ويبدو أن الوثنية لم تتوقف أبداً عن الإغواء، وببعض الطرق المحدودة، تبدو العلمانية أشبه بتجسد حديث للوثنية.
ليست تركيا هي المنطقة الوحيدة التي تتعامل مع الصراع بين حكم العلمانية وادعاءات الدين. فأوروبا والولايات المتحدة أيضاً تواجهان هذا الموضوع. وفي حين يزيد المتدينون من تأكيد أنفسهم، يصبح العلمانيون أكثر عدوانية. ويبدو أنهم يعتقدون بأنني، كيهودي، أشعر بأذى عميق بمشهد المهد في ساحة البلدة، أو لأن أحداً ما يقول، عيد ميلاد سعيد أو رمضان مبارك. وكلما أصبحت العلمانية أكثر تطرفاً، أصبح منتقدوها أكثر قوة. وتظل المعتقدات المكبوتة بشكل عميق أكثر خطورة بالنسبة لي من الدولة التي تقر بما نعرفه جميعنا، وهو أن الولايات المتحدة لها جذور مسيحية، لكنها راهناً أمة ذات أديان عديدة.
يبدو هذا الصراع واضحاً بشكل خاص في تركيا. إنها المكان الذي تقابلت فيه المسيحية مع الإسلام؛ حيث اندمجا وخلقا شيئاً جديداً. وتظل إسطنبول، بعد كل شيء، موطن قسطنطين الذي كان المؤسس السياسي للمسيحية. وهي مدينة العلمانية الأوروبية التي تواجه السلطة المتجددة وقوة الدين القديم. وينظر العلمانيون إلى ذلك التدين على أنه بدائي، في حين يعتبر المتدينون أنفسهم حماة الحقائق القديمة.
يعتبر العلمانيون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحشاً في تركيا وفي خارجها بشكل خاص. وهم يرتكبون بذلك خطأ كبيراً. إنه القائد الذي لا يروض النمر وحسب، بل ويستطيع أن يقوده أيضاً. وإذا كان لا يستطيع مصالحة العلمانيين مع المتدينين، فإن ما سيأتي من بعده سيكون أسوأ بكثير. لقد انتهى حكم العلمانيين المدعومين من الجيش في تركيا. ونحن نشهد راهناً تحولاً للعلمانية من نظام تسامح يستوعب المعتقدات الخاصة إلى محاولة لاستبعاد تلك المعتقدات من الفضاء العام.
تميل كل الأيديولوجيات إلى “الدليل غير المباشر” لأنها مدفوعة بمنطق قاس لا يرحم. وبالنسبة للعلمانية، يجب الحفاظ على التمييز بين العام والخاص مهما كانت التكاليف. ونحن نرى في القرن الحادي والعشرين كيف أن الماضي يعيد تأكيد وفرض مطالباته بالسيطرة على الفضاء العام. وتنادي العلمانية بإبعاد الله عن الحياة العامة وتقول إن العلمانيين هم رسوله الوحيد. وسوف يؤدي ذلك إلى ظهور المزيد من الأردوغانان، وإذا خسروا، فإن الأسوأ سيكون قادماً على الطريق.
جورج فريدمان
صحيفة الغد