منذ أن صعد «نجم» (داعش) وكثيرون يتساءلون عن هذا التنظيم الخارق، الذي استطاع خلال ثلاثة أعوام فقط السيطرة على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق ويتمدد بكثافة إلى ليبيا، ويقوم بعمليات ناجحة في أكثر من بلد، ويستقطب عشرات الآلاف من الشباب من كافة أنحاء العالم منهم من يتمتع بعلم واختصاصات متقدمة؛ مهندسون وفنيون وأطباء وخبراء في تقنية المعلومات وصناعة الأسلحة والإعلام وغيرها، ويتمتع بميزانية هائلة اجتهد كثيرون في تحليل مصادرها، فمنهم من قال إنها من مبيعات النفط والآثار، وآخرون قالوا إنها من الضرائب التي يجنيها من المناطق التي يسيطر عليها أو من تجارة الرقيق، علماً أن التنظيم بدأ بميزانية جيدة وتسليح متفوق، ووسائل اتصال متقدمة جداً، وعلى الرغم من الحرب التي تشنها عليه دول كبيرة وميليشيات قوية إلا أنه لا يزال يحارب ويدافع ويقوم بهجمات معاكسة.
وما ينطبق على تنظيم «داعش» ينطبق على «جبهة النصرة» الغنية وعلى معظم التنظيمات «الإسلامية».
اجتهدت مراكز الدراسات ومؤسسات البحث في مسألة نشوء «داعش» ومسببات ظهوره وأهدافه، وتباينت المواقف بشأنه من قبل تنظيمات المعارضة المعتدلة والعلمانية واليسارية. ومن يتتبع الرأي العام العربي سيجد أن مقاتلي «داعش» و«النصرة» كانوا يحظون في البداية بلقب «المجاهدين»، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي تزدحم بالدعاء لهم (اللهم انصر المجاهدين على الدكتاتور الأسد)، وجُمعت عشرات الملايين من الدولارات وأُرسلت إلى تلك التنظيمات، ولم يكتفِ البعض بالتبرع فذهب ليقاتل بنفسه. هناك عينات من كل فئة من معظم الدول العربية دون استثناء، ولم تختلف مواقف الدول عن الشعوب، بل إن الشعوب كانت تردد مواقف دولها. فكانت ترسل السلاح والمال للتنظيمات وتساعد على إرسال المقاتلين إلى سوريا تحديدا، ثم تغيرت المسميات من مجاهدين إلى إرهابيين، ومن دول داعمة إلى دول مكافحة للإرهاب.
اتُهم «داعش» بأنه من صنع النظام السوري، خاصة من قبل المعارضة المعتدلة، وقيل إنه فرع من تنظيم القاعدة أو هو تنظيم القاعدة نفسه أعاد هيكلته من جديد (وهناك أخبار عن إعادة توحيد الصفوف بين «داعش» و«القاعدة»، وربما «النصرة»)، وقيل إن رموز نظام صدام حسين هم من يقفون وراء تنظيم «داعش»، واتهم عزت إبراهيم نائب الرئيس العراقي الراحل بأنه الرجل الأول في التنظيم، ثم وُجهت الاتهامات إلى إحدى الدول العربية، وبعد ذلك صدرت تقارير عن قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بإنشاء «داعش» (اعترفت هيلاري كلينتون بطريقة غير مباشرة بأن ال«سي آي إيه» وراء التنظيم وقالت، نحن الذين وراء قوة «داعش»..)، وصدرت تقارير صحفية وتلفزيونية من أن البغدادي أصله يهودي (ونشروا صوراً له مع السيناتور الأمريكي ماكين)، واتهمت تركيا بأنها وراء تنظيم «داعش».
ورغم ذلك، تركيا والولايات المتحدة والنظام السوري والدول العربية جميعهم يحاربون «داعش» بعد أن اتُهموا بإنشائه. المعادلة ليست غريبة جدا، لأن الولايات المتحدة الأمريكية أنشأت تنظيم القاعدة بالتعاون مع دول عربية وإسلامية لمقاتلة الاتحاد السوفييتي الذي احتل أفغانستان، وحين انتصر هذا التحالف تحولت الحرب إلى معارك بين كل من أنشأ «القاعدة» و«القاعدة» ذاته!
ترى، هل ينطبق هذا التوصيف على «داعش» من حيث الدور المنوط به، هل هب العالم لمحاربة «داعش» لأنه لم يستطع القضاء على النظام السوري الذي تحالف مع روسيا التي هي وريثة الاتحاد السوفييتي، وكأن الأخيرة تنتقم ممن هزموها سابقا؟
التاريخ يعيد نفسه حقاً، ويعيد تشكيل ذاته كالفيروسات القاتلة، بواسطة جهات لا تتعلم من التاريخ، أو أنها تريد أن يعيد التاريخ ذاته لأنها لم تحقق أهدافها النهائية بعد.
التاريخ يقول لنا إن تنظيم «القاعدة» كان أداة لكنه تمرد على الصانع، وكذلك تنظيم «داعش» أداة أيضا، ولا نعلم إن كان تمرد كلياً أو أنه لا يزال يناور، فوجوده القوي يعني أن الرعاة في حاجة إليه حتى اللحظة.
ولكن أين العرب من كل هذا التاريخ، وماذا كانت مصلحتهم من هزيمة الاتحاد السوفييتي، وما هي مصلحتهم من هزيمة الأنظمة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس ومصر؟
«داعش» ليس وحده اللغز، هنالك ألغاز كثيرة سيتكفل التاريخ بالكشف عنها؟
د.عبدالله السويحي
صحيفة الخليج