مع القليل من الضجة الدعائية بشكل مقصود، أعلن بيت ترامب الأبيض في وقت متأخر من مساء الجمعة الماضي أنه سيضع حداً لممارسة إدارة أوباما المتعلقة بنشر مداخلات زوار البيت الأبيض، معلناً على نحو غرائبي أن تلك الممارسة تشكل تهديداً “خطيراً” للأمن القومي. وكما كان الحال مع العديد من التطورات خلال الأيام المائة الأولى المحمومة لهذه الإدارة، كان من السهل جداً أن يفقد المراقب رؤية الغابة من أجل أن يرى الأشجار، وسرعان ما هدأت الغضبة السريعة بسبب هذا القرار ضيق الأفق كما يبدو، مخلية مكانها للعنوان الإخباري الرئيس التالي. ومع ذلك، وحتى نفهمه بشكل مناسب، فإنه يجب أن ينظر إلى انقلاب الأسبوع الماضي على أنه عنصر واحد لا أكثر ضمن حملة دونالد ترامب الأوسع ضد الشفافية.
على صعيد الجبهة المحلية، تبنت الإدارة -مخطئة- وجهة النظر القائلة إن الشفافية -سواء كانت في شكل مداخلات الزائرين أو العوائد الضريبية الخاصة بالرئيس- هي فضيلة غير ضرورية. وعندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، يعمل بيت ترامب الأبيض على جعل الشعب الأميركي يعتقد بأن الشفافية والأمن القومي هما أمران متعارضان. وباعتباري محللاً سابقاً في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه)، ثم الناطق بلسان مجلس الأمن القومي، فإنني أعرف أن هذا الطرح الأخير زائف. وفي حقيقة الأمر، فإن العكس هو واقع الحال: بإمكان الشفافية أن تكون أداة استراتيجية بالغة القوة في السياسة الخارجية الأميركية.
في الحقيقة، زاد فريق الإدارة الجديد من انخراط أميركا في صراعات حول العالم، واضعاً في حالات عدة من الرجال والنساء الشجعان من القوات الأميركية في طريق الخطر، وحيث لا يوجد أي نقاش عام ومع النزر اليسير من الملاحظة الشعبية. وعلى سبيل المثال، ذهب ترامب إلى أبعاد كبيرة في الترويج لقراره بإطلاق 59 صاروخاً على سورية، لكن إدارته لم تخاطب ما بدا بطرق عديدة قراراً أكثر خطورة: نشر مئات أخرى من الجنود الأميركيين -بما في ذلك نشر قوات تقليدية لأول مرة- في داخل سورية للمشاركة في محاربة مقاتلي تنظيم “داعش”.
وفي اليمن، فشلت الإدارة في تفسير الأسباب المنطقية وراء تنفيذ سلسلة من المهمات القتالية المأهولة بالجنود وغير المأهولة، والتي أودت إحداها بحياة أحد أفراد قوات “الفقمات” البحرية الخاصة في غارة برية، بعد بضعة أيام من تولي ترامب سدة الرئاسة. وفيما يتعلق بالصومال، أكد ناطق بلسان القيادة الأميركية في إفريقيا في الأسبوع الماضي التقارير التي تحدثت عن أن الإدارة سوف تقوم بإرسال “عشرات” أخرى من الجنود الأميركيين إلى ذلك البلد الذي مزقته الحرب، والمعروف لمعظم الأميركيين بمأساة سقوط الطائرة العمودية الأميركية “بلاك هوك”. وعندما تعرض إلى ضغوط للإفصاح عن المنطق وراء هذه الخطوات، قال الناطق إن ذلك النشر للقوات سيكون من أجل تحسين الأداء في القتال ضد حركة “الشباب”، المجموعة الإسلامية التي أصبحت أقل تركيزاً على شن الهجمات المعادية للغرب، بعد أن فقدت الأرض لصالح قوى إقليمية أخرى. وكان المعنى الضمني لبيان الناطق بسيطاً بشكل غريب: ثقوا بكلماتنا حول الموضوع.
وعندما يأتي الأمر إلى كوريا الشمالية، التهديد الأكثر خطورة الذي تواجهه الولايات المتحدة في هذه الآونة، تبنت الإدارة نهجاً غريباً، والذي يتأسس في جزء منه على الأقل في الخروج عن طريق الإدارة عن الطريق لتعلن أنها لن تقوم بالتعليق على التطورات -كما قد قال كل من وزير الخارجية ركس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، في الأيام الأخيرة. وقد تكون الرغبة –الدونكيخوتية، كما هو حالها- في إزالة الأضواء عن المملكة المنعزلة المسلحة نووياً مفهومة، لكن الفشل في التعبير عن الاستراتيجية ربما يتسبب في جلب تداعيات كارثية. وقد أدركت الإدارة هذا الأمر عندما عملت ساعات إضافية، كما قيل، لنفي تقارير إخبارية انتشرت بسرعة وسط فراغ المعلومات، والتي تحدثت عن أن توجيه ضربة نووية استباقية ضد ترسانة بيونغ يانغ النووية هو خيار قيد الدراسة قبل إجراء التجربة النووية المحتملة -وهي مزاعم كان يمكن أن تتسبب، سواء كانت صحيحة أم غير ذلك، في دفع الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، إلى القيام بعمل متهور للغاية.
من نافلة القول الإشارة إلى أن إدارة أوباما كانت قد تبنت نهجاً مختلفاً في موضوع الشفافية. وفي بعض الحالات، كانت الشفافية هي المبدأ الأساسي للأمور. ولا شك أن قرار إرسال أميركيين إلى طريق الخطر، وهو المسؤولية الأكثر جسامة لأي قائد عام، يظل أمراً جديراً بأن يشفع بتفسير، وخاصة لفائدة الشعب الأميركي. وفي هذه الحالات، لم يكن الناطقون من المراتب الدنيا هم الذين يعلنون عن عمليات نشر القوات. وفي معظم الحالات كان الرئيس شخصياً هو الذي يتحدث مباشرة إلى الشعب الأميركي، كما يجب أن تكون الأمور.
وفي حالات أخرى، كانت الاستراتيجية تهيمن بقدر التفسير المنطقي نفسه. وقد ذهب أوباما وفريقه إلى أبعاد كبيرة لشرح الأهداف والتكتيكات في القتال ضد تنظيمي القاعدة و”داعش” وما شابه. وبذلك، أرسلت إدارة أوباما إلى حلفائنا وشركائنا المحتملين رسالة حول ما تنطوي عليه هذه الحملة، أن تتم تعبئة العمل على ترابهم الخاص أم طلب الدعم للجهود التي تقودها الولايات المتحدة -والتي مكنت إدارة أوباما في حالة الائتلاف المعادي لـ”داعش” من تشكيل شراكة مكونة من 68 عضواً. لكن الإدارة تحملت المشاق أيضاً في التحدث إلى الشعب -وليس الحكومات وحسب. وأثناء عملها ذلك، قالت مراراً وتكراراً إن الحرب الأميركية ضد الإرهابيين ليست قتالاً ضد أي دين أو بلد أو مجموعة عرقية. وكانت هذه الرسالة عنصراً حاسماً في المعركة لكسب القلوب والعقول -وهي مهمة كانت ببعض الطرق أكثر فعالية من العمل في ميدان المعركة.
من المؤكد أن الشفافية ليست نزهة في طقس رائع، كما أن إدارة أوباما لم تتخل عن هذه المسؤولية، حتى في أوقات التراجع أو المأساة. ومن خلال نشر بيانات عن غير المقاتلين الذين يقدر أنهم سقطوا في عمليات التصدي للإرهاب وراء البحار، على سبيل المثال، سعينا إلى التصدي للدعاية الإرهابية، وتصحيح المعلومات التي كانت قد غيرت الرأي العام في بعض البلدان ضد الولايات المتحدة، بطريقة جعلت جهود التصدي للإرهاب أكثر صعوبة. وفي أعقاب ما كشف عنه إدوارد سنودن، وجدنا أن المعلومات التي رفع عنها غطاء السرية -وهي حقائق تتعلق بما فعلناه وما لم نفعله في سياق المراقبة الألكترونية، والتي زودنا بها أيضاً الشعب الأميركي- كانت الأداة الأكثر فعالية في التحدث إلى النظراء الأجانب المغضبين. ووجدنا أن وضع الأمور تحت ضوء الشمس وسيلة للتطهير، بالإضافة إلى أنه مرهم للعلاقات المتضررة.
من المسلم به أن إدارة ترامب في أيامها الأولى لم تكن تتوافر على رؤية لسياسة خارجية أو عقيدة للتحدث في هذه المرحلة. ولكن، عندما يحدد الفريق الجديد على وجه الدقة ما الذي يعنيه بعبارة “أميركا أولاً”، فسيكون هناك سبب جيد للأمل بأن يكون البيت الأبيض قد غير منهجه، وأنه عثر على القيمة الاستراتيجية في التعامل بشفافية مع الشعب الأميركي والعالم. وبالإضافة إلى إلحاق الضرر بالأمن القومي، سوف يزيل الفشل في القيام بذلك سلاحاً رئيسياً من الترسانة.
نيد برايس
صحيفة الغد