المشكلة الأخرى انعدام الثقة بين الأحزاب الكرديّة والعربيّة السوريّة، حيث تتوقف كل التنسيقات حينما يقول العرب بتأجيل النقاش حول الفيدرالية والوجود الكردي في الدستور، إلى حين الانتقال للمرحلة الانتقالية، وتنتقل سورية إلى وضعٍ طبيعيٍّ، ويكون للشعب فعلاً دورٌ في تقرير شكل نظامه المستقبلي، أي وفقاً للآليات الديمقراطية، بينما يصرُّ الكرد على ضماناتٍ مُسبقة، ويفترضون أن تتوثق ضمن القرارات الدولية؛ ويشكل رفض ذلك من المعارضة العربية سبباً للانسحاب من هيئات المعارضة، كما تمّ في الجولة الخامسة من جنيف.
الجديدُ أنّ الكرد أصبحوا يَظلمونَ العربَ، وإذا كان النظام سابقاً هو الظالم، فإنّ الظلمُ الحاليُّ يَنصبُ على المجتمع. وهنا مكمن الخطورة، أي التأسيس لعداواتٍ مفتوحة. نُشرتْ تقارير دوليّة عن تهجيرٍ لمواطنين عرب في محيط الحسكة، وفي مناطق أخرى، وعدا عن ممارساتٍ أقرب إلى العنصريّة، وكذلك شكل الوجود الكردي في مدينة منبج “غصةً” حقيقيّةً لكل الفصائل المحلية، والعرب عامة؛ فليس من مُبررٍ للوجود الكردي هناك، كما ليس من مبررٍ لوجودهم سلطة أحادية في بقية مدن الشمال. كرديًّا، الأمرُ مبرّرٌ بوصل ثلاث مناطق سورية، والادعاء بأنها تُمثل إقليم الشمال، وأنَّ أغلبيته أكراد، وتأسيس إقليم كردي ربما يفكر قادته بانفصال. وقد منع الأتراك ذلك، عبر جرابلس، والروس يبنون تموضعًا عسكريًّا في عفرين، ووجود الأميركان في منبج يضع حدوداً للأكراد، ولكنّه يُصعّد من الخلافات التركية والعربية، بالضد من الكرد، فقد كان المأمول إخلاء الكرد منبجَ، وليس تحويلها إلى مدينة تحت الحماية الأميركية، وإدارة الكرد لها.
لم تنطلِ على أحدٍ أكذوبة قوات سورية الديمقراطية، بضمها بضع فصائل عربيّة، وببعض
شيوخ القبائل، ولا تنصيب هيثم مناع، ولاحقاً الشيخ رياض ضرار، في قيادتها. الحقيقة أن قادة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ليسوا سوريين في أغلبيتهم، ويعملون من أجل مشروعٍ خاص بهم، يتعارض ليس مع سكان الجزيرة، بل مع كل السوريين، وكذلك يعادون كُرداً آخرين؛ ينسج الأخيرون تحالفاً مع مسعود البرزاني وتركيا بالضد من هذا الحزب. ولا تعني معاداتهم تلك أن رؤيتهم السياسية للعلاقة بين العرب والكرد قائمةٌ على المواطنة، لا بل هي قائمةٌ على حقوقٍ سياسيّةٍ خاصة بالكرد، وتؤسس لحالة أقرب إلى الاستقلالية، وربما الانفصال لاحقاً. الحزب هذا توسّع على حساب فصائل الثورة السورية، وبحجة “داعش“، ويتعايش مع النظام في بقية المدن، ويندر أن خاض معركةً ضده. ولهذا لا تتقبله المعارضة في صفوفها.
في معركة الرقة، يقدّم حزب الاتحاد الديمقراطي، بزعامة صالح مسلّم، عناصره جنوداً للأميركان، ويريد، بسبب ذلك، ضم الرقة لإقليم شمال سورية المتوّهم. وفي حال حصوله على ذلك، وتشكيل مجلسٍ محلي تابع له، فإن ذلك يُسهِّلُ له تلك الخطوة. ربما يريد الأميركان توريط الكرد والعرب في حربٍ طاحنةٍ بينهما، وهذا ما تفعله قوات صالح مسلّم منذ 2011 والآن يُحمى أميركيّاً. وقبل ذلك، كان يعمل بالتنسيق مع النظام؛ وما زالت خطوطه مفتوحةً مع النظام وإيران وروسيا.
ربما لا يكون مسلّم محبوباً في سورية. لكن ما لا يجب نسيانه أنّه أثار انقساماً وأجّجه بشكلٍ مُستمرٍ بين العرب والكرد، فالعرب يرون، في كل معاركه والتحاقه بالأميركان، مشروع انقسامٍ لسورية، ولكن ذلك لا يُرفض كرديّاً كذلك وهنا المشكلة؛ فصحيح أنّه يَفرض رؤيته بالقوة على الكرد، وأن عشرات آلافٍ منهم تركوا شمال سورية، وهناك مقاطعة سياسية لسلطته، ولكن هناك صمتٌ كثير عما يفعله.
حجّة أن الجزيرة بأكثريتها كرديّة، أو أن العرب هم الأكثريّة فيها، تتطلب استقصاءات ميدانية، وهناك استقصاءات متعاكسة بالكامل، وتفيد بأن العرب أغلبية، أو الكرد أغلبية، لكنها ستظل
حجةً مرفوضة بالكامل، فشمال سورية يُعتبر بكل سكانه جزءاً من سورية، وإذا كان هناك من ضيمِ لحقَ بالكرد، فهناك أشكال أخرى من الظلم لحقت بالعرب كذلك. وفي السنوات الأخيرة، فإن مجال المظلومية أكثر مما يتخيله العقل؛ ألا يكفي عشرة ملايين سوريٍّ اقتلعوا من المدن والقرى المدمرة، وهجّروا إلى المنافي، عدا الشهداء والمعطوبين، وسوى ذلك كثير.
سقطت مظلوميّة الكرد التاريخية في سورية بالكامل؛ فهناك الآن مظلوميات عربيّة واسعة، وطبعاً هناك معاناة كرديّة، وبالتالي كل منطقٍ سياسيٍّ ينطلق من تصورٍ لسورية خارج مفهوم المواطنة سيسقط بالضرورة، وسيشكل عامل انقسامٍ وتأجيجٍ لحربٍ مستمرة في المستقبل. التبعية للأميركان وتدمير الأميركان المدن، كما يجري في ريف الرقة، ولاحقاً الرقة نفسها، وبقية القوى الاحتلالية في سورية، ومن النظام لن يصمتَ عنه السوريون، وهذا ما سيُرفض مستقبلاً بكل الطرق؛ الديمقراطية والعسكرية.
نهايةً، سورية إمّا أن تكون موحدة عبر لامركزية للحكم وهامش أكبر للمدن وللسكان المحليين فيها، وضد كل مشاريع سياسية أقرب إلى الانفصالية، كما مشروع صالح مسلم، وكذلك مشروع سورية المفيدة، أو ستعود النيران لتأكل من نجا خلال السنوات الست. العراق أمامنا، فهل نفتح أعيننا ونرى؟