برغم أنها بدت مجرد رسالة تهنئة من العاهل المغربي، محمد السادس، إلى الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بمناسبة العيد الوطني لبلاده في شهر فبراير 2015، فإنها طرحت الكثير من التساؤلات حول طبيعة مسارات العلاقة بين البلدين، ومستقبلها، منذ قطع علاقتهما الدبلوماسية قبل ست سنوات، على خلفية اتهام الرباط لطهران بالتدخل في شؤون البحرين، وفي الأوضاع الدينية بالمغرب.
أضف إلى ذلك، فإن أي انفتاح بين إيران والمغرب قد يؤثر على طبيعة التوازنات الإقليمية في منطقة المغرب العربي، لاسيما في ظل الخلافات المغربية – الجزائرية، بخلاف ما يثيره أيضا حول توسع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، لاسيما بعد الدور التوغلي لطهران في صراعات العراق واليمن وسوريا والبحرين.
مسارات متعرجة
اتخذت العلاقات المغربية – الإيرانية مسارات متعرجة منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، وحتى الإعلان عن إغلاق سفارة طهران بالرباط في مارس من عام 2009، والذي لم يكن الحدث الأول، إذ سبق أن قُطعت العلاقات بين البلدين، عقب الثورة، ومنح الرباط حق اللجوء السياسي لشاه إيران المخلوع، محمد رضا بهلوي.
ازدادت حالة عدم الثقة بين الطرفين بسبب وقوف المغرب إلى جانب العراق في حربه مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، ثم إعلان طهران اعترافها بـ”الجمهورية الصحراوية” التي أعلنتها جبهة البوليساريو، والتي تطالب بالانفصال عن الرباط.
ولم تكن عودة التمثيل الدبلوماسي الإيراني إلى المغرب إلّا في عام 1991، بعد أن سحبت طهران اعترافها بالجمهورية الصحراوية، ودعمت تسوية هذا الملف بموجب قرارات الأمم المتحدة، مقابل إقرار المغرب بحق إيران في استعمال الطاقة النووية للأغراض السلمية، ولتشهد بذلك العلاقات الثنائية بين البلدين انفراجاً ملموساً تواكب مع وصول الرئيس المعتدل الأسبق محمد خاتمي إلى الحكم في إيران، حيث تكثفت الزيارات المتبادلة بين مسئولي البلدين، والتي تُوّجت بالزيارة الرسمية التي قام بها الوزير المغربي الأول، عبد الرحمن اليوسفي، إلى إيران في عام 2001 على رأس وفد كبير، وأثمرت الزيارة توقيع العديد من الاتفاقيات، خصوصاً في الجانب التجاري.
بيد أن الحضور الإيراني المتنامي داخل المغرب أثار المخاوف من نشاط مذهبي شيعي مدعوم من طهران، كان الدليل عليه تصريح وزير الأوقاف المغربي، آنذاك أحمد توفيق، بأن الدولة لا تجهل الوجود الشيعي بالبلاد، حيث نشطت السفارة الإيرانية في الرباط في تنظيم الأسابيع الثقافية والفنية، وشاركت دور النشر الإيرانية بكثافة في مختلف دورات المعرض الدولي للكتاب بعرضها الكتب الفارسية والدينية الشيعية، وسط شكوك قوية في ازدياد أعداد الشيعة داخل المغرب.
وقد أضاف إلى أسباب الخلاف مع إيران عدم إغلاقها مكتب ممثلية جبهة البوليساريو في طهران تنفيذاً لما وعدت به، بل قايضت تلك الخطوة بإعلان المغرب موقفاً مسانداً لها بشأن قضية الجزر الإماراتية. وكان موقف الرباط أنه لا يمكن وضع نزاع الصحراء ومسألة الجزر في كفة واحدة. فنزاع الصحراء يتعلق بمسألة الاعتراف بدولة جديدة تقتطع من التراب المغربي، بينما موضوع الجزر نزاع على السيادة، ولا يتعلق بقيام دولة جديدة فيها.
على خلفية ذلك، وبعد موقف تضامني أبداه المغرب مع البحرين ضد تصريحات إيرانية انتقصت من سيادة المملكة مطلع عام 2009، كان قرار الرباط سحب ممثلها في طهران، واعتبار السفير الإيراني شخصاً غير مرغوب فيه، احتجاجاً على ما عدته “تعبيرات غير مقبولة” في حق المغرب، جاءت في بيان بثته طهران رداً على الدعم الذي أبداه المغرب مع البحرين، وأيضاً بسبب تورّط العاملين في السفارة الإيرانية بالدولة في أنشطة استهدفت “الإساءة إلى المقومات الدينية الجوهرية للمملكة، والمساس بالهوية الراسخة للشعب المغربي، ووحدة عقيدته، ومذهبه السني المالكي”، بحسب الاتهامات الرسمية المغربية التي وجهت إلى إيران.
بوادر تقارب
تجاوزاً لحالة عدم الثقة في علاقة المغرب وإيران، بعث العاهل المغربي، الملك محمد السادس، برسالة تهنئة إلى القيادة الإيرانية بمناسبة ذكرى الثورة في فبراير 2015 . وجاءت الرسالة تتويجاً لاتصالات ومحادثات متتالية بين مسئولي البلدين على مدى عام مضى، تم خلالها التمهيد لإمكانية استئناف العلاقات.
تمثل أول المؤشرات بهذا الشأن في توجيه الرباط الدعوة إلى طهران لحضور اجتماع “لجنة القدس” (المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي) بمدينة مراكش في يناير 2014. وفي نهاية ذلك العام، شارك وزير الاتصال والناطق باسم الحكومة المغربية، مصطفى الخلفي، فى اجتماعات وزراء إعلام دول منظمة التعاون الاسلامي الذي عقد بطهران. ومع مطلع عام 2015 ، قدمت طهران بالفعل سفيرا جديدا لها في المغرب، هو السفير محمد تقي مؤيد، الذي بدأ عمله رسمياً، بعد أن سلم أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية والتعاون المغربي، صلاح الدين مزوار، في انتظار أن يخطو المغرب خطوة مماثلة باعتماد سفير جديد في طهران.
وهنا، يمكن فهم أسباب مسارعة إيران إلى تعيين سفير لها بالمغرب في سياق اهتمامها بتوسيع دائرة علاقاتها الخارجية، في ظل استمرار الجمود في علاقاتها بدول الخليج بسبب سياستها في المنطقة، والشكوك الواسعة في مسار مفاوضاتها النووية مع القوى الدولية.
وفي إطار ذلك، فإن اتجاه إيران لاستعادة العلاقة مع المغرب له خلفيات عديدة بالنظر إلى كون المغرب فاعلاً أساسياً في مناطق جيو- استراتيجية مهمة، سواء في منطقة المغرب العربي، أو في إفريقيا، ومنطقة الصحراء والساحل، حيث تعرف الدبلوماسية المغربية حضوراً متصاعداً بشكل ملحوظ، يعكسه حجم الزيارات الرسمية للملك محمد السادس لعدد من الدول الإفريقية، وطبيعة الاتفاقات التي يتم إبرامها مع تلك الدول.
كما أن إفريقيا أيضاً هي في صلب دائرة الاهتمام الإيراني، ويبدو ذلك من حجم زيارات المسئولين الإيرانيين لهذه القارة. وقد استضافت طهران عام 2010 منتدى التقارب الفكري بين إيران وإفريقيا، شارك فيه أكثر من 30 دولة إفريقية.
وبجانب كون المغرب معبراً لشمال غرب افريقيا، فله أيضاً نشاط ديني قوي ومتصاعد هناك في سياق ما يمكن وصفه بمهمة “دعم الإسلام المعتدل” في القارة السمراء، مما قد يجعل الاحتكاك على مستوى النشاط الديني في تلك المناطق عنصراً لا يمكن إغفاله مستقبلاً في علاقات إيران والمغرب، إذا ما استحضرنا الوجود الإيراني في تلك المناطق من الناحية المذهبية، مقابل الحضور الديني المغربي المستند إلى البعد الديني الصوفي.
وكذلك، فإن المغرب يتمتع بخصوصية ثقافية فريدة كملتقى للحضارات المتنوعة الإسلامية والأوروبية، وهو كان ولا يزال موطن تلاقح الأفكار، وتحاور المذاهب الفكرية والفلسفية في العالم الإسلامي. وربما يكون الأهم بالنسبة لإيران أن المغاربة معروفون بحب آل البيت، وتعلقهم بالدوحة النبوية الشريفة، وهو ما يوليه الإيرانيون أهمية خاصة لتوطيد حضورهم في المغرب، وفي القارة الافريقية.
على الجانب الآخر، فإن توقيت رسالة الملك محمد السادس إلى طهران يثير الكثير من علامات الاستفهام بالنسبة للمغرب، مع ازدياد حالة عدم الثقة في السياسات الإقليمية لإيران بسبب دورها في سوريا، واليمن، ولبنان، وتراجع الآمال فى تغير محتمل في سياسة إيران الخارجية، بعد تولي حسن روحاني الحكم.
ولكن رغم ذلك، ربط البعض اهتمام المغرب بالتواصل الحذر مع إيران بدور إقليمي تسعى الرباط أيضاً إلى القيام به، وتحديداً بلعب دور الوسيط للمساعدة في حلّ القضايا الإقليمية المعقدة، حيث يمكن للعلاقات مع إيران المساعدة في القيام بهذا الدور، سواء في الوساطة بين دول الخليج وإيران للتوصل إلى حلول مقبولة تنهي الأزمات القائمة في سوريا، واليمن، والعراق، أو حتى في إنهاء العلاقة المتأزمة بين إيران والإمارات بسبب احتلال الجزر الإمارتية الثلاث.
ولا يقتصر الأمر بالنسبة للمغرب على الجانب السياسي فقط، فإيران تمثل أيضاً سوقاً كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، تضم نحو 73 مليون مستهلك، والمغرب يمثل الآن مصدراً مهماً في سوق السيارات، والصناعات المتوسطة، ومنتجات الفوسفات، وبالتالي هناك مستقبل كبير للتبادل الاقتصادي بين المغرب وإيران، خصوصاً في حال توقيع اتفاقات تجارية جديدة.
لماذا الحذر المغربي؟
على الرغم من الدلالات المهمة المرتبطة بالتواصل الأخير بين المغرب وإيران، فإن هناك من يرى أن ثمة انفتاحا حذرا في العلاقات بين البلدين، في ظل مخاوف الرباط من طبيعة الدور الإيراني المحمل دوما بأبعاد مذهبية في علاقاته مع الدول، مما يحد من أي فطرة في العلاقة بين البلدين وذلك للأسباب التالية:
– لا تزال خطوات المغرب نحو إيران بطيئة. فإلى الآن، لم يتم تعيين سفير مغربي في طهران، حتى بعد تعيين سفير لإيران في الرباط، بل كان الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل عام كامل، وتحديداً في فبراير 2014، عندما أعلن مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والإفريقية، حسين أمير عبد اللهيان، عن اتصال هاتفي تم بين وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ونظيره المغربي، صلاح الدين مزوار، اتفقا خلاله على استئناف العلاقات الدبلوماسية، الأمر الذي لم تعلق عليه الرباط.
– تظل هناك مخاوف من أن تطبيع العلاقات مع إبران قد يؤثر فى العلاقة التي تربط المغرب ودول الخليج. ذلك أن استئناف العلاقة المنقطعة بين الرباط وطهران جاء في توقيت لافت للبعض، بالنظر إلى تورط إيران في النزاعات الداخلية القائمة في كل من سوريا، والعراق، واليمن. وعليه، فإن استئناف العلاقات معها قد يتضمن رسائل خاطئة إلى القيادة الإيرانية بأن سياستها الإقليمية لم تحل دون تحقيق مصالحها وأهدافها مع دول عربية أخرى في المنطقة، الأمر الذي قد يثير حفيظة دول الخليج، ويدفع المغرب إلى إعادة موازنة علاقاته، ومصالحه الاستراتيجية في المنطقة.
– يظل المحدد الأهم في رسم الإطار المستقبلي لعلاقات المغرب وإيران هو مدى التزام طهران بالتوقف عن سياساتها المذهبية. فالسلطات المغربية وإن أبدت استعداداً لطي صفحات الخلاف مع إيران، واستئناف مسار العلاقات معها، فإنها لا تتردد في تأكيد أهمية احترام القيادة الإيرانية لثوابت السيادة المغربية، والتعامل وفق الاحترام المتبادل.
غير أن الشكوك لا تزال قوية في إمكانية التزام إيران بذلك الأمر، حيث تشير بعض التقارير إلى نشاط مذهبي واسع تديره من خلال التنظيمات الشيعية التي تستهدف أفراد الجالية المغربية في أوروبا، وفي بلجيكا على وجه خاص، والذين يحاولون بدورهم استقطاب أعداد كبيرة من المغاربة داخل الوطن، ويُتخوف من تنامي ذلك النشاط في حال تطبيع العلاقات بين المغرب وإيران، كما كان الحال قبل قطع العلاقات.
ومن ثم، يمكن القول إن هناك بلا شك خطوات قد اتخذت في سبيل استعادة علاقات المغرب وإيران، وهناك أسباب ودوافع للتقارب المحتمل بين البلدين. لكن تظل هناك أسباب مقابلة للحيطة والحذر، يفسر معها تشديد المسئولين في الرباط على أن أي تطبيع للعلاقات مع إيران يجب أن يقابله لدى القيادة الإيرانية حرص على احترام السيادة المغربية، ووعي بأهمية عدم التدخل في الشئون الداخلية لدول الجوار الإقليمي، والتوقف عن أي أنشطة طائفية تعمق حالة عدم الاستقرار، سواء داخل المغرب، أو على المستوى الإقليمي العام.
ايمان احمد عبد الحليم
السياسة الدولية