بينما نقترب من موعد الذكرى الخمسين للحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1967، فإن الاتجاه الرئيسي للعرب وإسرائيل على حد سواء -محاولة إلقاء اللوم على الطرف الآخر في المقام الأول– ما يزال يشكل أيضاً أقل ردات الفعل فائدة وإثارة للاهتمام، بطريقة توحي بأن الكثيرين لم يتعلموا أي شيء خلال العقود التي مرت منذ ذلك الحين. وربما يجب علينا بدلاً من ذلك أن نعمد إلى تقييم أثر الحرب بنزاهة، خاصة من جانبنا، وأن نستخدمها، بالإضافة إلى الدروس المستفادة من العقود المعنية، كأسس لنهج أكثر إيجابية، وربما اجتراح طريقة جديدة للمضي قدماً.
حتى نفهم لماذا تصرف العالم العربي واستجاب كما فعل، من الضروري إدراك كيف نظر العرب، بشكل كامل تقريباً، إلى المشهد الإقليمي عشية حرب العام 1967. وقد تبين أن الهزيمة العسكرية في العام 1948، والاختفاء العملي للمجتمع الفلسطيني، كان لهما أثر مدمر. ولم يكن العرب يبالغون عندما اعتبروا تلك الحرب كارثة.
لكن معظم العرب قالوا لأنفسهم إنهم كانوا في العام 1948 غير مستعدين، مفككين، غير وطنيين بما يكفي، وما يزالون خاضعين عملياً لهيمنة القوى الاستعمارية في العام 1948. لكن هذه المرة ستكون مختلفة.
من الصعب على الغربيين فهم ذلك اليقين لدى العرب بالفوز. ففي كامل أنحاء الشرق الأوسط، نظر معظم الناس إلى الأرقام الخام للجنود والمواد، وخلصوا إلى استنتاج تبسيطي خاطئ حول النتيجة. كانت الهزيمة شأناً لا يمكن تصوره سوى لدى قليلين. وكان أسوأ ما يمكن أن يتخيله العرب هو خوض صراع مؤلم وطويل، والذي ظنوا أنهم مستعدون لخوضه.
لا شك أن الاعتراف بهذه الافتراضات السهلة هو أمر حتمي لفهم الصدمة التي ما تزال ماثلة إلى حد كبير، حول مدى وشمولية وسرعة الهزيمة التي مني بها العرب في العام 1967. وربما يستطيع بعض الأميركيين الشروع في تصور مستوى الحيرة التي اختبرها العرب إذا تذكروا كم شعروا بالصدمة عندما تحدى دونالد ترامب المنطق والتناقضات وفاز بالرئاسة -ثم عمدوا بعد ذلك إلى مضاعفة هذا الشعور بالحيرة أضعافاً مضاعفة. لكن ما حدث في الولايات المتحدة في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) ألقى بظلال الشك حول أحقية اعتقاد مثل هؤلاء الأميركيين بأنهم يفهمون الأجزاء الأخرى من مجتمعهم نفسه. وقد قلبت هزيمة العام 1967 الأفهام العربية للواقع الخارجي. وكانت نوعاً من الصدمة التي استطاعت دفع المعتادين على النظر إلى الخارج إلى الانقلاب والتحول إلى تأمل الذات.
تساءل الكاتب المسرحي المصري العظيم، توفيق الحكيم، الذي وصف التجربة بأنها “استيقاظ وقح من حلم جميل”: “هل كانت حالة غريبة من الخدر؟ هل كنا مسحورين؟ أم أننا اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا الثورة فيه مجرد أجهزة استقبال -في داخل صندوق أغلقته علينا الأكاذيب والأوهام؟”.
بعد ذلك، أصبح التأثير المدمر للهزيمة على الوعي الجمعي العربي نوعاً من الكليشيهات المكرورة والمبتذلة، لكن ذلك لا يجعله أقل صحة. وقد استنطق مؤرخون بارزون بعض التفاصيل في هذه الحكمة المتصورة، مشيرين إلى أن التاريخ أكثر تعقيداً وأقل خطِّية مما يكون مفترضاً في بعض الأحيان. وعلى سبيل المثال، قال رشيد الخالدي، من جامعة كولومبيا، إن القومية العربية لم تختف ببساطة في العام 1967، ولاحظ فواز جرجس، من كلية لندن للاقتصاد، أن الكثير من العوامل الأخرى كانت مشارِكة في صعود الإسلاموية. وكل هذا صحيح.
مع ذلك، كان هناك تراجع جمعي وحاسم في المواقف والتوجهات العربية المعممة في أعقاب حرب 1967. وفي الفترة ما بين الأربعينيات والعام 1967، حينما نالت العديد من بلدان المنطقة استقلالها عن المستعمرين، كان الموقف العربي الأساسي موسوماً بالتفاؤل، والتصميم، والانخراط العالمي، والأمل. وبعد ذلك، أصبح أكبر عنصر مفقود، والذي لم تتم استعادته في كثير من الحالات، هو الثقة بالنفس. ومن الصعب توصيل فكرة الانكماش الجمعي. لكن معظم العالم العربي افتقر منذ ذلك الحين، وباستمرار، إلى الإيمان الأساسي بنفسه.
هذا الانكماش الجمعي كان، وما يزال إلى حد ما، عقبة مهمة أمام السلام، لأن الثقة شأن أساسي في تقديم التنازلات. وكان الإسرائيليون من بين أوائل الذين أشاروا إلى ذلك في وجه القيادة الفلسطينية الحالية التي يقولون إنهم لا يثقون بها. لكن الثقة بالنفس أساسية أيضاً، كما أظهر الحاصل الإيجابي لحرب 1973، والذي وضع الأرضية التمهيدية لمعاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية، وبذلك استعادة قدر ما من الاعتبار الذاتي للمصريين.
لكن هناك استثناءات. ويبدو أن بعض دول الخليج الأصغر حجماً، مثل الإمارات العربية والمتحدة وقطر، تجنبت هذا الشك المزمن بالذات وتخلصت من شبح الفشل. لكنها لم تكن مستقلة في العام 1967، ولا مشارِكة في ذلك الفشل الذريع.
لعل الأمر الأكثر إدهاشاً بعد 50 عاماً هو أن موقف المحصلة صفر بين إسرائيل والعرب الذي ساد على كلا الجانبين في العام 1967 لم يعد مهيمناً ولا حاسماً. بل على العكس من ذلك، ظهرت الإمكانية لتطوير علاقة استراتيجية جديدة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية السنية الرئيسية، بما فيها بعض دول الخليج.
تبدو هذه فرصة تاريخية لإشراك حلفاء أميركا المُبعدين منذ وقت طويل أخيراً. كما أنها توفر سياقاً لإحراز تقدم جدي في موضوع السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. وسوف يكون مثل هذا التقدم ضرورياً لتأسيس علاقات إسرائيلية-عربية أوثق.
لكن الشراكة الجديدة المحتملة يمكن أن توفر أيضاً إطار عمل جديداً وحوافز إضافية لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين لاتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق تقدم على طريق إنهاء الاحتلال والصراع. فمن جهتها، يمكن أن تتطلع إسرائيل إلى التقارب مع العالم العربي كله، وإقامة علاقات استراتيجية جديدة مع العديد من أعضائه الرئيسيين، كطريقة إضافية لحفز السلام مع الفلسطينيين. وفي المقابل يستطيع الفلسطينيون كسب الغطاء السياسي، والدعم الدبلوماسي والمساعدات الاقتصادية الرئيسية التي ستساعدهم في تقديم التنازلات الحتمية المطلوبة لإبرام اتفاق مع إسرائيل. ويجب أن يكون الدرس الرئيسي المستفاد من حرب العام 1967، والسنوات الخمسين المؤلمة التي مرت منذ ذلك الحين، هو أن أحداً منا لا يجب أن يفوت الفرصة لوضع الماضي أخيراً خلف ظهورنا.
حسين آيبش
صحيفة الغد