بعد طول انتظار وترقّب، أعلن رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في حينه، خالد مشعل، وثيقة أتت في ظل بيئة دولية وإقليمية تزداد مواجهة مع الإسلام السياسي، لأسباب مُتعدِّدة ومُتناقِضة، كما في ظل حصار يعيش تحت وطأته قطاع غزة، المعقل الرئيسي لــ «حماس» ومحل سُلطتها المنفردة، وهو ما صار أبرز مُسبِّبات الانقسام السياسي الفلسطيني راهناً، وحافزاً إضافياً للمواجهات المفتوحة مع الشرعية الفلسطينية الرسمية في رام الله.
تزامن صدور الوثيقة مع حدثين داخليين، أول سبقها وهو انتخاب يحيى السنوار، الأسير المـُحرَّر والقائد في كتائب «القسَّام»، مسؤولاً عن «حماس» في غزة، ما فُسِّر نزوعاً إلى التصلّب على رغم بقاء الجبهة مع إسرائيل هادئة بعد انتخاب السنوار كما قبله. الحَدَث الثاني واللاحق لإعلان الوثيقة انتخاب إسماعيل هنية، رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، والقيادي البارز في «حماس»، ومسؤول فرعها في غزة، رئيساً لمكتبها السياسي خلفاً لخالد مشعل.
عنى ذلك نقل مركز قرار «حماس» من الخارج للداخل الفلسطيني، وتحديداً قطاع غزة، ما حمل رسائل مُتناقِضة: دعم قطاع غزة المـُحاصَر، وفي آن إشارة إلى مكانة «إمارة حماس» في غزة، كما يحلو للبعض تسميتها، وتحوّلها نقطة الثقل في «حماس»، ومركز قرارها التنظيمي والسياسي، وعاصمة جناحيها داخل فلسطين وخارجها.
ليس من دون معنى أن يعلن الوثيقة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي في حينه، الذي أعلن أيضاً وبارك انتخاب إسماعيل هنية بدلاً منه لرئاسة المكتب السياسي، في رسالة واضِحة عن الوحدة والاستمرارية في هيئات «حماس»، وأن مسؤولية التحوُّل الذي مثَّلته الوثيقة، تعود على مرحلة قيادة مشعل الذي أعلنها وتم صوغها في ظل قيادته السابقة، كما على القيادة الجديدة ممثَّلة بهنية الذي انتُخِب رئيساً لمكتب «حماس» السياسي بناء عليها.
كان هذا المدخل بعد محاولة فاشلة منّي لتقويم مواد الوثيقة بالمفرق وتفسيرها من داخلها، ما دَفَعني إلى محاوَلة تفسيرها من خارجها، أي من الظروف العامة التي أحاطت بها، وانطلاقاً من سؤال منهجي يُستَحضَر عادة للتفسير حين يصعب التفسير. إنه سؤال: ما وظيفة العمل المـُحدَّد، وهو في الحال الراهنة: وثيقة «حماس» التي عبثاً نفهم بنودها خارج وظيفتها، والتي تفسِّر، ما قد يبدو من بنودها غامضاً، أو مُلتبساً، أو عصياً على الفهم.
في هذا السياق، كان عنوان هذه المقالة، وسؤالها المـُستوحَى من سجالات حولها، ومـتفاوِتة بين مَن رآها مُفكَّكة، وفي آن تعبيراً عن نُضج ما، لما فيها من إشارات واقعية قياساً بالخطاب الأيديولوجي التقليدي لــ «حماس».
مفتاح فهم وثيقة «حماس» هو أنها «مُفكَّكة» و «متناقضة» داخلياً، من ازدواجية وتناقض وظيفتها، بما هي رسالة إلى «خارج» ينتظر من «حماس» خطاباً مَرناً، ليس بمعايير «حماس»، كما فَعَلَت، لكن بمعاييره القائمة على ما يتراوح بين الشرعية الدولية، وشرعية الأمر الواقع وميزان القوى. كما أنها رسالة إلى «داخل حمساوي» خاطبته الوثيقة بما يُرضيه ويحفظ وحدته، من خلال حفظ روح خطاب «حماس» الأيديولوجي، وإن بخطابية أقل من السابق نسبياً.
لا تُقوّم وثيقة «حماس» بما احتوته فقط، بل بما غاب عنها أيضاً، وتحديداً لناحية أنها تسعى إلى مـُصالَحة مع «الخارج» البعيد، العربي والإقليمي والدولي الذي يُناصِب «حماس» العداء، لكنها لم تُرسِل إشارات مُصالَحة إلى «الخارج» القريب، الفلسطيني الذي يرزح تحت عبء انقسام مُدمِّر، لـــ «حماس» دورها الحاسِم فيه، مُشكلة وحل.
لا نجد في الوثيقة مخارِج لحل داخلي فلسطيني كالتشديد على وحدة الشعب والقضية والتمثيل، وصناديق الاقتراع حلاً ديموقراطياً ووحيداً لتداول السلطة الفلسطينية، ما يُعزِّز الهواجس حول سعيها إلى «إمارة» مُنفصلة في غزة.
أيضاً، ليس منطقياً سعي «حماس» إلى مصالحة مع «الخارج» البعيد، عربي وإقليمي ودولي، وفي آن حفظ الانقسام – الصراع المـدمِّر مع «الخارج» الفلسطيني القريب. هذا خطأ في بديهيات السياسة والاستراتيجيا والرؤى، لأنه عبثاً نربح حرباً وطنية، ونحن في غمار حرب أهلية، وإن باردة. عبثاً نهرب إلى ملاذ الخارج من استحقاق الداخل!
لا يقلّ تناقضاً سعي «حماس» إلى مـُصالَحة «الخارج» البعيد بخطاب أقل تصلُّباً، أو هكذا يبدو، وفي آن مُخاطبة «الداخل» الحزبي «الحمساوي» بخطاب يحفظ صفاء العقيدة، كما أول مرَّة، وإن بخطابية أقل، لتقيةٍ أو نُضج لياقات المـُخاطَبة، بما لا يمس جوهر الموقف الأيديولوجي. يُمكن الحديث في السياق ذاته، عن تناقض الوثيقة بين شق «مرِن» مُوجَّه إلـى «الخارج»، ونقيضه «الأصيل» أيديولوجياً، المـُوجَّه إلـى «الداخل» الحزبي، ما سَمَح بالحديث عن وثيقة مُفكَّكة ومُتناقِضة داخلياً حسب رؤية مُعيَّنة. ثمة من لم ير جديداً في ما طَرَحته من قضايا بدت له مُتقادمة.
واقع الأمر لسنا أمام وثيقة، ولو مُفكَّكة، اقتضت فَذْلكة ومشروعاً يتوزَّع بين رؤى نظرية وأهداف عملية وسُبل بلوغها، بل ثمة رسائل سياسية اقتضت إطاراً مُغرياً لتقديمها حمل اسم «وثيقة»، لمواجهة أزمة وجود ارتباطاً بأزمة وظيفة تُواجهها «حماس»، سواء في ما خصَّ جمود مشروعها الكفاحي، أو صعوبات مُميتة أمام إدارتها لقطاع غزة.
ثمة مُفارَقة في اتفاق أشد مُريدي «حماس» وخصومها على أن وثيقتها صافية أيديولوجياً، أصولية في شقها الداخلي، وأن ما ورد فيها من بنود مُوجَّهة إلـى «الخارِج» حصراً، هو من ضمن معايير «حماس» للمرونة، لا المعايير الدولية التي تنطلق من مبدأ الاعتراف بوجود إسرائيل، كما كان قائماً في 5 حزيران (يونيو) 1967، كبداية جبرية تَتَمحوَر حولها بقية القضايا، بما فيها حقوق الفلسطينيين التي تُفهَم وتُحدد دولياً من ضمن الترسيم السابق.
عنى ما سبق أن «حماس» تتحدَّث بلغة مُزدوجة، تُرسل الشيء ونقيضه. بهذا، تُكرّر «شطارة» فلسطينية كان أُكُلها مُرَّاً، لأنها تطلِق دينامية عدم ثِقة، فلا صديق سيُصدّق أن لا شيء وراء الأكمة، ولا عدو سيقرأ الرسالة تعبيراً عن ضُعْف أملى «تمتمة» تُوحي باستعداد «حمساوي» للتنازُل، ما يقتضي مزيداً من الانتظار لمزيدٍ من التنازل، على جاري «تمتمة» صارت عام 1974، عن دولة فلسطينية في حدود الرابِع من حزيران 1967، من دون قيد أو شرط! بعد عقدين، وفي أوسلو 1993، صارت «التمتمة» قَوْلاً صريحاً، عن قيود إسرائيلية وشَروط دولية، لكن بلا دولة!
يمكن عَجولاً استنتاج أنني أدعو «حماس» إلى الاعتراف بإسرائيل. كما الظن بأنني أدعوها إلى عدم الواقعية أو المرونة. لم أقصد هذا أو ذاك، بل أتوسل نزاهة فكرية وأخلاقية تُبقي للكلمات معانيها الحقيقية. ومن شاء ليكن ما شاء، يقينياً، ومن يريد تحرير فلسطين، كما تدعو وثيقة «حماس»، في شقها المـُوجَّه إلى الداخل «الحمساوي» وربما الفلسطيني، فعلى هذا أن يَبني على الشيء مُقتضاه، ويُخبر بعد 30 سنة على ظهور «حماس» كيف سيُحرر فلسطين؟!
أما إذا سَعَت «حماس» إلى تسوية في ظل ميزان قوى مُختل، أو نُصرة دولية على عدو مُتغَطرس، فلذلك أصول وأولها الاتعاظ بالتجربة خلال مُنعطفات 1936 و1948 و1965 و1967 و1970 و1974 و1982 و1988 و1993، وحتى الآن: من «فتح» إلى «الجبهة الشعبية» إلى «حماس»، حيث جرَّبوا وفشلوا في حرب وسلم، ليراوحوا في أزمة وظيفة تحولت أزمة وجود، ما يعني أن خَلَلاً فادحاً في «حرب» خُضْنا و «سِلم» وَلَجنا! في الحالين كان الأداء متدنّياً ولم يحترِم أصول الحرب والسِلم. إن أي وثيقة فلسطينية جديدة، لتكون وثيقة وفلسطينية وجديدة، وكيلا يبقى الفشل مُقيماً، يجب أن تبدأ بإجابة عن سؤال الفشل التاريخي الممتد إلى قرن مضى. وللقول بقية.
حسين أبو النمل
صحيفة الحياة اللندنية